«صبايا مخدة الكحل» الشكل والمضمون لا يعبران عن القضية نفسها

«صبايا مخدة الكحل»     الشكل والمضمون لا يعبران عن القضية نفسها

العدد 650 صدر بتاريخ 10فبراير2020

يعلو الإيقاع بشكل تدريجي حيث يبدأ بالآلات الموسيقية كالطبلة والقانون والناي والرق، ثم تتداخل معها إيقاعات أخرى: مخرطة الملوخية مع الصينية، طشت الغسيل، الهون (وكلها أدوات لها علاقة بدور المرأة داخل منزلها) مع التصفيق وهو قادم من التراث النوبي، في الوقت ذاته تجد فتاتان ترقصان على الإيقاع نفسه، مع آداء حركات فرعونية لرجل أخذ لنفسه موضعًا لم يتحرك منه خلال زمن العرض، خلف ذلك مجموعة من الفتايات تجلسن على أسرة بأعمدة (فورفرجيه) ملتصقة ببعضها لكنها منفصلة حيث يجعل كل منهن تمارس حياتها بشكل منعزل عن الأخريات، وأمامهن تجلس سيدة تحيك ملابس على ماكينة، تتعالى أنفاسك وتتسارع  داخل صدرك حركتي الشيق والزفير وتتعالى معها ضربات قلبك حيث يتحول الإيقاع إلى ضجيج، وأنت تتابع كل هذه التفاصيل في كل اتجاه في توتر وعيونك حائرة بين هذا وذاك. فجأة يصمت كل شئ تهدأ أنفاسك وتعود إلى طبيعتك مستريحًا أو بمعنى أدق أكثر راحة عن حالتك التي دخلت بها، من هذا السكون المفاجئ يخرج صوتًا عذبًا هادئًا يروي الحكاية بجملة “الدايرة لازم تلف”، حكاية قهر البنات منذ طفولتهن حتى الممات، فتأخذ نفسًا عميقًا وأنت تستمع إلى هذا الصوت القادم من الماضي يحمل الحكمة والهدوء والدفئ بلهجة صعيدية. ثم تعود الضوضاء من جديد ويتداخل معها الغناء ويتنوع اللحن ويتنوع الآداء الراقص بالتصاعد نفسه وتستكمل الراوية الحكاية التي بدأتها مع دوران الدايرة “الماكينة”   
 من هنا تتحقق المتعة فالإنسان بطبيعته يميل إلى الإيقاع فهو مادي وروحي وله تأثير كبير على الحالة النفسية والمزاجية، فإذا لاحظنا رد فعل طفل حديث الولادة وهو يستمع إلى نقر منتظم سواء كان على طبلة أو منضدة فنجده يحرك جسده حركات راقصة، خاصة أنه قد تعرف على الإيقاع منذ ولادته سواء من خلال الهدهدة أو حركات السرير، بل أنه عرف الإيقاع منذ كان جنينًا في بطن أمه مع حركتها، فالإيقاع  يعطي شعورًا بالبهجة، وهو ابن الطبيعة حيث عرفه أفلاطون قائلاً: (إنك تستطيع أن تميِّز الإيقاع في تحليق الطيور، وفي نبض العروق، وخطوات الرقص، ومقاطع الكلام)، كما عرفه القديس أوغسطين في أوائل العصور الوسطى بأنه (فن الحركات الجيدة)، وأجمع علماء النفس في العصر الحديث على أن الإيقاع هو قانون الحركة الطبيعية. كذلك المتعة البصرية المتمثلة في الديكور والملابس والألوان والأدوات المستخدمة لإحداث الإيقاعات المختلفة والمتناغمة في ذات الوقت، كذلك استلهام التراث النوبي والفرعوني المتمثل في بعض الرقصات والآداء الحركي.
 هذه هي الحالة التي عايشتها في قاعة صلاح عبد الصبور بمسرح الطليعة بينما أشاهد عرض “صبايا مخدة الكحل” هي حالة فنية رائعة بلا شك تحقق المتعة البصرية والسمعية، ولكن لابد من وقفة طويلة مع الدراما التي أراها تسير في اتجاه مختلف عما تم التعبير عنه بكل الوسائل السابقة، فالحكاية قهر المرأة خاصة في المجتمع الصعيدي أو الجنوبي، من تحريم لكل الحريات وممارسة أعمال شاقة وتحقيق رغبات الرجل، تمثلت في جلوس على أسرة لا يفعلن شئ سوى التزين، ثم يُعلن التمرد بالإيقاعات التي استخدمن معها عدة أدوات إلى أن انتهين باستخدام القبقاب في تلويح يشير إلى وصولهن إلى مرحلة الذروة من الغضب، وأخيرًا نسمع أصواتهن يرددن الحكاية نفسها معبن عن رفضهن  لهذا الواقع الذي يعيشنه، وقد عبرت الرقصات عن هذا الواقع في الوقت ذاته مع المخرطة التي تشير إلى عدة دلالات منها الإسم الذي يذكرنا بعبارة “خراط البنات خرطها” التي تقال في مجتمعاتنا الريفية، وأعمال المنزل واستخدامها كآلة حادة تعبر عن الذبح، وطشت الغسيل الذي يستخدم لغسل الملابس والاستحمام، مع الاستعانة بعدد من الدميات القماش، كلها أدوات تعبر عن قهر المرأة، ورغم هذا الصراخ والزعيق من أجل الحرية تعود الدائرة لتبدأ من جديد وتعود كل واحدة إلى حيث أتت للتزين باختيارها، فأين القهر إذن؟
أما الرجل وهو المتهم الأول لهذه الجريمة “قهر المرأة” فيجلس في جانب من كل هذه الأحداث وحده بين سبعة عشر إمرأة، لا يتحرك سنتيمتر واحد من مكانه لا يتعدى دوره عن حركات فرعونية ولا يقوم بفعل أي شئ، فمن حيث العدد والقدرة على الفعل فالرجل هو المقهور في هذه الحالة.
 جسدت شخصية المرأة الحكيمة الفنانة القديرة سميرة عبد العزيز باقتدار شديد جدًا، وهي بالفعل أثرت هذه الحالة شديدة الروحانية والخصوصية، وجسد شخصية الرجل الفنان حربي الطائر الذي عاد بعد غياب طويل عن خشبة المسرح بلياقة ومرونة وكأنه لم يتركها أبدًا، معبرًا بأداء حركي لا يقل مطلقًا بل ربما يزيد عن أي عبارات من الممكن أن تقال في هذا السياق، الفنانات شهيرة كمال، آيات محمود وآن توماس رائعات وبذلن جهد جبار، كذلك الحارستان نجلاء يونس، نهى مندور، والصبايا الجميلات: رشا سامي، لمياء حميدو، نهال القاضي، شيماء جابر، مارينا صبحي،  فيروز انتصار، سمر حسين، ندى أشرف، سحر حسين، نورا حسني، كلهن رائعات وأتوقع لهن مساحات أكبر في أعمال قادمة تبرز مواهبهن أكثر.
الغناء للفنانة النوبية ستونة، محمود وحيد، أسامة علام، ندى عاصم وغادة نبيل، والإيقاعات: خالد طموم، أشرف عجايبي، محمد أوغلو، عاطف العريان، سارة خالد وليد فوزي، ديكور وملابس الفنانة الكبيرة نعيمة عجمي، وحوار كوثر مصطفى، كلها عوامل تتضافر لتصنع حالة مسرحية ممتعة جدًا، يقف خلفها فنان كبير هو الدكتور انتصار عبد الفتاح الذي يعتبر التراث مشروعه الذي  يعمل عليه طوال حياته، حيث يعتبره كائنًا حيًا يعيش ويتفاعل معه فهو المستقبل وليس الماضي حيث اكتشاف أبعاد جديدة، ولا يأخذه كما هو بل يستلهمه لينطق العمل ببيئته وهو ما ظهر جليًا في هذا العرض، الذي يعتمد فيه على منهج المسرح البوليفوني حيث التركيز على الهارموني داخل التعددية من صوت، حركة، أداء تمثيلي وسينوغرافيا.
 “صبايا مخدة الكحل” ريبوتوار مسرح الطليعة فهو النسخة الثانية من “مخدة الكحل” الذي تم إنتاجه وعُرض بالقاعة نفسها عام 1998، وحصد الجائزة الأولى بمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي. .


نور الهدى عبد المنعم