العدد 522 صدر بتاريخ 28أغسطس2017
طوال المسرحية يعمل “تروي ماكسون” عامل جمع النفايات الأسود باجتهاد ليبني سورا حول فناء بيته تحقيقا لرغبة زوجته، ولكن هل يكفي أن نبني الأسوار حول بيوتنا لنؤسس عالمنا الخاص الفريد؟ هل يمكننا أن نبقى بمعزل عن التغييرات الاجتماعية والسياسية من حولنا؟ هذه هي الصورة الرمزية التي يطرحها نص أسوار Fences الذي كتبه أوجست ولسون (1952-2005)، وحصل به على جائزة بوليتزر للدراما عام 1987.
مسرحية أسوار التي تعتبر حلقة في سلسلة من المسرحيات التي كتبها ويلسون والتي ترصد حياة الأمريكيين السود عبر القرن العشرين وتدور حوادثها في مدينة بيتسبرج، تصور حياة عائلة من الزنوج الأمريكيين في الخمسينيات من القرن الماضي: “تروي” عامل جمع نفايات يعمل بكد وهو في الثالثة والخمسين من عمره ليوفر بالكاد لأسرته احتياجاتها الأساسية، ويحاول أن يستمتع بأوقات فراغه حيث يمضي وقته في الشراب والثرثرة مع صديقه القديم وزميله في العمل “بونو”، وزوجته المحبة روز التي طالما ساندته ووقفت إلى جواره في الأوقات الصعبة، وابنه ليون الذي يعشق الموسيقى ولا يتصور أن يعيش حياة أبيه الصارمة وعمله الشاق وابنه الأصغر كوري الذي ينتظره مستقبل واعد كلاعب كرة بيسبول، وأخيراً شقيق تروي الذي عاد من الحرب العالمية بشظية في رأسه ويمضي شارداً هائماً على وجهه في الشوارع والأزقة يهذي بكلام غير مفهوم عن يوم القيامة وحواراته مع القديس بيتر الذي ينتظر أن تفتح أبواب الجنة.
تدريجيا وبأسلوب أقرب الى ابسن تتكشف لنا الحقائق وراء الصورة الأولية الزائفة، فبطل المسرحية تروي بقدر حبه وإخلاصه في عمله وإحساسه بالمسؤولية تجاه زوجته وابنه اليافع، يقتل حلم ابنه في أن يصبح لاعباً عظيماً، ويجد طريقاً أخرى إلى السعادة مع عشيقة جديدة ينجب منها ابنته الوحيدة في نهاية المطاف.
ويتكشف لنا بعد آخر في شخصية تروي الممزقة وهوعلاقته المرضية بأبيه القاسي القلب، وإيداعه السجن لفترة بسبب جرائم سرقة.
أما “جيب” شقيق تروي المختل فنعرف من خلال تطور الحدث أن تروي استولى لنفسه على مكافأة نهاية الخدمة الخاصة به بعد عودة جيب من الحرب العالمية الثانية، واستطاع أن يشيد بيته باستغلال هذه المكافأة.
يؤمن تروي بأن التفرقة العنصرية لن تسمح لأفراد عائلته بالارتقاء في السلم الاجتماعي، لذلك فإنه يرى أن العمل والمزيد من العمل هو الملاذ الأخير، أن تعمل لتكسب لقاء عملك، ويدفعه أيضاً فشله في أن يكون لاعباً مرموقاً في لعبة البيسبول الى أن يرفض أن يترك ابنه “كوري” عمله في المتجر القريب من أجل فريق الجامعة.
وبعد أن يحصل تروي على ترقية في شركة جمع النفايات، كأول أسود يعمل بالشركة كسائق عوضاً عن عمله كعامل لجمع النفايات، تتمزق علاقات عالمه الصغير وتتفكك، ويفرض ميراث الماضي القاسي ثقله وسطوته، ويفشل “تروي” في الحفاظ على مجتمعه الصغير، كما تتمزق علاقته بزوجته روز التي صدمت لأنه اتخذ عشيقة جديدة، وتفتر علاقته بصديقه القديم بونو الذي كان يحبه ويحترمه كمثل أعلى. ابنه الأصغر يكرهه لأنه يقف حائلاً بينه وبين حلمه كلاعب بيسبول مرموق وتتصاعد علاقته بابنه الشاب كوري إلى صدام حتمي، يذكرنا بصراعه القديم مع والده على فتاة، وينتهي الصدام بطرد تروي لابنه كوري لاعب البيسبول الواعد في استعادة لطرده هو من منزله وتشرده وهو صبي.
تتشابك الاستعارة الرمزية والبعد الديني مع البناء الواقعي في المسرحية حيث يرسم المؤلف خلفية دينية من خلال حرص روز على خدمة الكنيسة، ويناقش ثنائية الموت والحياة من خلال حكايات تروى عن صراعه مع الموت، كما يستدعي شقيق تروي “جيب” حكاية النفير الذي أوصاه القديس بطرس بنفخه لفتح أبواب الجنة، وهنا يستدعي ولسون من الكتاب المقدس آية تقول: “على هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها.” وأيضاً “ضيقة هي البوابة ووعر هو الطريق المفضي إلى الحياة، وقليلون هم من يجدونه”. لكن الاستعارة تكتمل أيضاً عندما يحاول جيب شقيق تروي أن يوقظ القديس بطرس بنفيره، لكي يفتح أبواب الجنة لاستقبال تروي بعد وفاته لكنه يكتشف أن البوق تالف ولا يصدر عنه أي صوت.
يدين ولسون في مسرحيته التمييز العنصري في الولايات المتحدة ضد السود والذي لا يترك لهم إلا خيارات محدودة للحياة، ويدين النظام الرأسمالي الذي يسحق الناس ويحولهم إلى عبيد لعملهم، وعبيد لأقساطهم الشهرية والتجار الجشعين الذين يستنزفون زبائنهم من خلال فوائد القروض الضخمة. صحيح أن ولسون يكشف أن ثمة تغيرات اجتماعية ما تطرأ تدريجيًّا، من خلال الترقية التي يحصل عليها في عمله، ومن خلال الفرصة التي تتاح لابنه “كوري” كلاعب واعد، لكن المسرحية هي إدانة واضحة لميراث طويل من القهر الاجتماعي والسياسي للزنوج في أمريكا.
المسرحية تقتفي أثر كتاب المسرح الأمريكيين أمثال آرثر ميللر فيما يتعلق ببناء الشخصيات الواقعية وبطل الهامش الاجتماعي، ونستطيع أن نجد بسهولة أصداء وفاة بائع متجول (1957) .
عرضت المسرحية أولاً في برودواي في العام نفسه، ثم أعيد تقديمها عام 2012 من بطولة النجم دنزل واشنطن وفيولا ديفيز وحصلا على جائزة أفضل ممثل وممثلة عن دورهما في المسرحية، وفي نهاية العام الماضي أخرج واشنطن المسرحية نفسها في فيلم سينمائي قام ببطولته مع فيولا ديفيز أيضاً، ورشح الفيلم للعديد من جوائز الأوسكار وحصدت ديفيز هذه المرة جائزة أوسكار أفضل ممثلة مساعدة.
اتسم إخراج الفيلم بالبساطة الشديدة لدرجة أن الفضاء المسرحي ظل كما هو، والأحداث تدور في داخل منزل وخارجه حيث الفناء الخلفي الذي شهد معظم أحداث الدراما، ولم تنتقل الكاميرا إلا مرتين أو ثلاثة الى أماكن أخرى. حافظ السيناريو على الحوار بإخلاص شديد لدرجة أننا يمكن أن نصف الفيلم بأنه فيلم مسرحي بالدرجة الأولى.
خلا بيت تروي من جهاز تليفزيون، ولذلك كانت جلسات السمر في عطلة نهاية الأسبوع والتي تجمع بينه وبين صديقه بونو وابنه ليونز وزوجته التي كان تروي يجتر فيها ذكرياته الأليمة ومعركته مع الموت تفسح مساحات للأداء التمثيلي استطاع واشنطن أن يستغلها جيداً في أداء تمثيلي عبقري.
والواقع أن الشخصيات المكتملة التي يطرحها النص المسرحي كانت فرصة رائعة لممثل عظيم مثل واشنطن أن يقدم أداء تمثيليًّا مبدعاً واستطاع أن يعبر عن تروي ومعاناته ولحظات قوته وانكساره، هواجسه وأسراره الدفينة التي يبوح بها أحيانا، وكان أداء فيولا ديفيز بنفس القدر من القوة والعمق يكشف عن تحليل واستيعاب لأبعاد الشخصيات وتاريخها الاجتماعي والدرامي.
أخيراً وبعبارة أخرى، استمتعت بالدراما وجماليات الأداء المسرحي في النص المكتوب وفي الإنتاج المسرحي والسينمائي، واستمتعت أيضاً باحترام نص المؤلف أوجست ويلسون في كليهما.