صفقات مع الإله Deals with God حينما تتحدث لغة الجسد ببراعة

صفقات مع الإله Deals with God  حينما تتحدث لغة الجسد ببراعة

العدد 747 صدر بتاريخ 20ديسمبر2021

منذ بدء وجود الإنسان على ظهر الأرض وشغله الشاغل فكرة وجود الإله, بحثا عن قوى عظمى يفسر من خلالها الغيبيات, ويرجع إليها الظواهر الخارقة, ويركن إليها في حالات  الضعف, إن حياة الإنسان ماهي إلا رحلة طويلة محاولة الفهم والتفسير. وقد عمد الإنسان إلى صور عدة في تلك الرحلة منها اللجوء إلى الحركة والرقص وممارسة طقوس العبادة أو إلى الموسيقى والإيقاع واستخدام الأصوات, فمظاهر البحث أو التوسل أو المناجاة متعددة. ولعل أقربها هي تلك الصورة الطقسية الراقصة بالتعبير من خلال لغة الجسد والتعبير الحركي.
ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي , قدمت فرقة المخرجة «جوليا ماريا كوخ» Julia Maria Kutsh, من جمهورية ألمانيا العرض الراقص “صفقات مع الإله” Deals with God, الذي عرض في حفل الافتتاح ثم أعيد عرضه في اليوم التالي بمسرح البالون. 
وفرقة Julia Maria Kutsh, هي أحد فرق الرقص الشهيرة بألمانيا , لها العديد من الأعمال التي تجوب دول العالم مثل : “زينيت”2015, “هنا وهناك”, “سيري” 2018, عمولة مأساوية مثالية” 2018, “قبل بكرة» 2016, «صفقات مع الله» 2017, «تشارون» 2015, وغيرها من الأعمال. و جوليا ماريا كوخ هي راقصة ومصممة رقصات تعيش وتعمل في برلين. في عام 2015 أسست فريقها الخاص القائم على المشاريع مع الراقصين والفنانين العالميين في برلين. تمت دعوة أعمالها إلى العديد من المهرجانات الدولية مثل مهرجان شتاء سراييفو ، مهرجان الإسكندرية للمسرح المعاصر / مصر ، غدانسكي فيستيوال تانكا 2017 / بولندا ، مهرجان دانزا ألمادا / البرتغال ، مهرجان أجيتارت / إسبانيا إلخ. شاركت أيضًا في العديد من مسابقات الرقص الشهيرة, حصلت على العديد من الجوائز عن عملها ، مثل الجائزة الخاصة في جائزة Arte Laguna / البندقية ، والجائزة الثانية في Certamen Coreografico de Sabadell و «التنويه الخاص» في مهرجان Inshadow في لشبونة. وصلت إلى الدور النهائي في مسابقة الرقص الفردي في غدانسك وجائزة Screengrab Media Art  في أستراليا من خلال المعرض التالي وفازت بإقامة فنية في Certamen Coreografico de Madrid.
ينتمي عرض «صفقات مع الإله» إلى نوعية العروض الراقصة حيث يعتمد على التعبير الجسدي اعتمادا كليا لطرح الأفكار وتوصيلها إلى المتلقي من خلال لغة الجسد, فهو أولا في مجمله عبارة عن دراما حركية يؤديها مجموعة المؤديين بمهارة ولياقة جسدية عالية, ويعد هذا المنهج في الأداء المسرحي هو تجربة إبداعية متطورة لفنون المسرح, في حالة أوسطية بين الرقص وبين المسرح الدرامي, , فالاعتماد على الصورة اعتمادا كليا بجانب التأثير السمعي من خلال الموسيقى له أشكال عدة منذ بدايات المسرح والدراما القديمة من خلال الطقس واستخدام الأقنعة حتى تطورت المفاهيم والمناهج المسرحية, حتى شهد التعبير من خلال حركة الجسد تطورا مذهلا حتى صار منها مستقلا باستخدام البيو ميكانيك على يد المخرج الروسي ماير هولد (1874- 1940), حيث يعتمد علي فيزياء الجسد في نظريته حول الجسد وإمكانياته الإبداعية الهائلة, فالممثل يبدا بالحركة وإيقاعها للوصول إلي المشاعر الداخلية . حيث يعتمد المنهج الفني في تمثيل الممثل علي الإحساس أوتوماتيكيا بالانتقالات الداخلية وما يفرضه هذا المنهج يعبر بحركة جسمه بشكل متواصل وتقسميها الي حركات معبرة، وبهذا يتم خلق علاقة بين قدرات الممثل الجسمانية وأحاسيسه الداخلية. إن المنهج البيو ميكانيك يكون المبادئ الأساسية للأداء التمثيلي الدقيق لكل حركة والتفريق بين الحركات بهدف الوصول الي الدقة النموذجية، هذا المنهج لمايرهولد يمتلك الآلية للوصول إلي شعرية الأداء وتطوير القدرات الإبداعية المتنوعة للممثل، وهذا يؤدي إلي تحقيق التمسرح في عمل الممثل.
ونحن هنا في عرض «صفقات مع الإله» أمام تطور لأساليب جديدة تقوم على استغلال فضاءات المسرح مع تطويع البيو ميكانيك لتحقيق المفهوم الدرامي  المطلوب تأثيره في المتلقي. “Deals with God”  يدور حول رغبة الإنسان في العبادة واحتياجه لاتباع قوة ما تحمي ضعفه وتوجهه ليسلم لها في النهاية .العرض هو عرض راقص يقوم بأدائه ستة ممثلين, وهو مكون من ثلاث أجزاء, الجزء الأول يعبر عن تأمل الظواهر الطبيعية والاندهاش والخوف منها ومحاولة مسايرتها أو استرضاءها، والجزء الثاني يتضمن العمل على ممارسة شعائر وطقوس لإرضاء تلك الظواهر وتقربا للإله المسيطر كنوع من الصفقات بينه وبين الإنسان، حتى يأتي الجزء الثالث معبرا عن صيغة عصرية لتلك الصفقات وقد شوه الإنسان نفسه وعلاقته مع الإله بشرور النفس ونزعاتها الدموية.
ينطلق العرض من خلال ستة مؤديين حيث يبدأ العرض وجميعهم مستلقون على خشبة المسرح  وقد تكتلوا معا في كتلة بشرية واحدة على الأرض وبالتدريج تبدأ طقوسهم بالانفصال التدريجي   ثم ينهض كل منهم  ببطء يعبرون عن أفكارهم وتعمل كل شخصية كجزء من المجموعة وهي في نفس الوقت محتفظة بخصوصيتها, وأداء الحركات المعبرة عن محاولات البحث أو الاستعانة بما هو أعلى يرفعون أحدهم للأعلى فيسقط ويحاول آخر ويسقط آخر ويسقط أيضا وتتكرر محاولات فردية وثنائية وجماعية وتنطلق منهن صيحات تبدو كاستغاثة حتى يستسلم الجميع للسقوط ويقبعون في حالة استرخاء تام. ثم تتوالى الأحداث من خلال لوحات تعبيرية متواصلة بالرقص والتعبير الجسدي تهدف البحث عن القوى الخفية والتقرب والاحتماء أو الاستغناء وعدم الإذعان. حتى يصل إلى الاستسلام في النهاية والاعتراف بوجوب الإذعان لسيطرة الإله.
فنرى طرح الفكرة من خلال اللغة الجسدية بأسلوب التعبير الفردي متخذا من بعض الحركات المستعارة من البالية والمنصهرة أحيانا ببعض الحركات الراقصة المعاصرة في مزيج دلالي معبر عن التوازن النفسي الذي يبحث عنه المؤدون, في حركات تعبر عن الإنسانية والقوة والشعور بالذنب والشحنات العاطفية الباحثة عن الحقيقة والقوة الخفية في هذا الكون. ، تتدفق الحركة أحيانًا مثل محادثة بين اثنين أو أكثر، وفي أحيان أخرى كمونولوج من خلال أداء منفرد. ثم يعملون كشرائح في انسجام تام ، جميع الراقصين الستة متزامنين تمامًا. في أوقات أخرى، ينفصل المرء عن المجموعة لرقصة فردية، ثم يتم توجيهه من قبل المجموعة. تعبر الحركات عن طيف من المشاعر، بما في ذلك اليأس والتحرر والإحباط  والاحتفال.
ومع كل تلك الحركة والنشاط الجسدي المعبر تنطلق الموسيقى الالكترونية لتعبر بقوة وديناميكية , وتأثير مثير بواسطة آلات موسيقية متعددة مثل البيانو والآلات الإيقاعية أو بالنقر على أوتار الكمان, حيث  شكلت الموسيقى والرقص معًا تجربة قوية ومثيرة ومعبرة.
أما الملابس ففي الجزء الأول نرى تكوين كل شخصية من خلال ملابسها البسيطة المعبرة, وفي الجزء الثاني من العرض يتوحد جميع الراقصين بملابس خفيفة ملاصقة للجسم (ليبدون وكأنهم عراة) في محاولة الإنسان البدائية  للبحث عن الإله. ثم في الجزء الثالث يعودون لارتداء ملابس معبرة عن كل شخصية منهم في القطعة الخاصة بالوصول للحقيقة الإلهية.
وقد تم كل هذا في فراغ مسرحي خلا من أي ديكور أو مؤثرات بصرية أو قطع مادية على خشبة المسرح, ولم يحيطه سوى إضاءة خلفية من كاشفين أحدهما يمينا والآخر في اليسار تم وضعهما في ثلثي المسرح, ويتم تحريكهما بالانفصال أو الاندماج معا أحيانا في بؤرة واحدة تبعا للحدث الحركي على الخشبة ودلالاته, إضافة لسحابة خفيفة من الدخان أحيانا تملأ كل المسرح وأحيانا تبدو كبساط سفلي خفيف يندمج مع أجساد الراقصين.
قام بالأداء والرقص كل من:, Siri Elmqvist,   Romane Petit ,  Peter Copek ,SakurakoAwa   ,Gaetano Montecasino    Ricardo Campos
ووضع  موسيقى العرض:  Ina Meredi Arakelian,   وتصميم الإضاءة:  Torsten Lipstock
إن عرض «صفقات مع الإله»  هو عرض بيوميكانيك  إنساني سيكولوجي اعتمد  على تنظيم التوظيف الجسدي للممثل والراقصين حيث الدقة والضبط والتحكم العصبي العالي والشجاعة والاجتهاد والجرأة فهو يعتمد علي التدريب واللياقة البدنية مع الإدراك الدرامي والفني لكيفية طرح الأفكار المنظمة للجسد والبنائية الميكانيكية من خلال تحرير الممثل من البعد الثالث للخشبة والحائط الرابع كي يبقى المتلقي علي وعي جدي انه متواجد في المسرح فهو يحرر الممثل والمتلقي في الفضاء المسرحي دون ديكور أو أثاث أو إكسسوار أو أي أدوات إضافية, فقط الممثل ولا شيء غير جسد الممثل.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏