ليلة القتلة.. أو الوصفة المؤكدة لصناعة إنسان هش

ليلة القتلة..  أو الوصفة المؤكدة لصناعة إنسان هش

العدد 784 صدر بتاريخ 5سبتمبر2022

شعور الفرد بأنه مراقب من الأخرين، أو أن هو ذاته يراقب أفكاره وانفعالاته وتصرفاته قد يجعله ينعزل لا شعورياً، فهذا الجانب منه يجعله مفككا ًبعيداً عن بقية ذاته،  وقد يشعر الفرد بأن ارادته حرة ولكنه في الوقت نفسه يشعر بأنه مجرد من الحيوية الإنسانية وأنه يخضع تدريجياً لقوانين التكرار الآلية، وبالتالي فهو نصف حي ونصف ميت، وبذلك يتجلى انفصال الانسان عن ذاته وعن الاخرين وعن الواقع، وبالتالي يعود إلى مراحل مبكرة وغير عقلانية من السلوك، وهو ما ينشأ عنه الشعور بالغرابة ومصدرها ليس الاخرين فقط وانما الذات نفسها التي تدرك نفسها بشكل مشوه وقد تكون هذه النفس ترزح تحت وطأة ضغوط وقلق يجعلها ضعيفة المقاومة، فقد يشعر الإنسان بالتضاؤل حينما يحرم ثقته المطلقة بذاته وعالمه، تلك المشاعر المرتبكة نجدها في مسرحية «ليلة القتلة» تأليف خوزيه تريانا، دراما تورج واخراج صبحي يوسف، والتي تقدم على مسرح الطليعة قاعة صلاح عبد الصبور وتم عرضها ضمن فاعليات المهرجان القومي للمسرح المصري دورتة 15  .
يختار المخرج ان يقدم العرض ضمن فضاء مسرحي مُغاير ففي منتصف القاعة يرتكز الديكور وهو عبارة عن مستوى  يضع عليه أربعة كراسي وعلى جانبيه مستويين اعلى قليلا ويحيط بهذا التكوين شرائط اشبه بالتي تضعها الشرطة حال حدوث جريمة قتل وكأن هذه المنطقة يحذر التواجد فيها، ويجلس الجمهور يمين ويسار هذا التكوين، منذ اللحظة الأولى لدخول هذا العرض نجد الممثلين يلقون جزءاً من دورهم ولكن بطريقة أشبه بالهذيان» الصالون مش هو الصالون .. الصالون هو أوضة النوم، الأوضة مش هي الأوضة،  الأوضة هي الحمام” تلك الحالة من التوتر من قبل الممثلين تجعل المتلقي يتحضر سريعاً لما يمكن أن يقدمه العرض ،و ما نراه من الممثلين منذ الوهلة الأولى يشير إلى أننا أمام عرض مسرحي يعتمد في جوهره على الحالات الإنسانية وتكويناتها النفسية المختلفة.        
يتخذ المخرج صبحي يوسف من الازدواجية وسيلة أساسية لإبراز المعنى فالشخصيات الدرامية في المسرحية تنشطر جميعها الى اثنين وكأنك أمام الشخص وقرينه -لالو كبيراً وصغيراً، كوكا كبيرة وصغيرة، بابا كبيرة وصغيرة واختيار المراحل العمرية المختلفة لأداء نفس الدور يؤكد على فكرة الامتداد الزمنى فتلك العقد النفسية التي تتكون منذ الطفولة ولا تتم معالجتها تصحبنا طوال العمر، ومن المهم التأكيد على أن الازدواجية قانون او معيار غير منصف ومجحف أيضاً، بحيث يعتمد على تنفيذ قانون ما من قِبل مجموعة دون الأخرى ويكون التحيز دائماً سيد الموقف، والمخرج اذاً يقدم دلالة ضمنية توحي بعدم الانصاف والتحيز لأحد دون الآخر مما يكرس لحالة من عدم التوازن في مجتمع العرض، ومن خلال الأداء التمثيلي  يبرز معنى الازدواجية من خلال فردين أو اثنين غير متماثلين وهم الذات والآخر حيث الذات الداخلية الأكثر سرية والتي تعمل على الاخفاء لك امام ذاتك تجنباً للوم نفسك والخوف منها، بينما يعمل العرض على الكشف للشخصيات امام ذاتها وامام الآخر ويكون هذا الآخر هو الموضوع الذى يخضع للوم والتهديد ومع كل هذا فإن الآخر في هذه الحالة يكون وسيلة للنجوى والبوح ومحاولة للهروب من الذات، وقد نفترض أن الذات هي الشخصيات كبيرة وان الآخر هو استدعائها لذواتها صغيرة للبوح أو للوم، ويدور العرض في فلك جريمة القتل التي تخبرنا عنها الشخصيات من خلال تجسيد شخصيتي المذيع والمذيعة وهم يقدمون الأخبار بشكل آلي “ابن يقتل أم وأب 40 طعنة” ثم يتم الانتقال سريعاً إلى أخبار الرياضة، فلا شيء يهم في زمن السرعة وعدم الاكتراث فالقتل أصبح مادة عادية تكتظ بها الأخبار اليومية، يقدم المخرج من حيث التكنيك أسلوب المسرح داخل المسرح فالمتلقي يحضر المسرحية هنا والآن والممثلون يتنقلون من مشهد لآخر بمنطق اللعب فتارة يقوم لالو الصغير بدور الأب ويكون الكبير هو الابن والعكس صحيح، ويتم تبادل الأدوار على مدار المسرحية ويقوم أحيانا الاستبدال بأن تقوم احدي الممثلات بدور الرجل ليقوم الممثل الشاب بدور الأنثي فالاضطراب والقلق لا يمكنه التفريق بين النوع  بل يحدث للجميع، و القلق حالة وجدانية نشعر بها بأنفسنا وتعاودنا مرة تلو الأخرى، وهو ما يبرزه المخرج صبحي يوسف عبر الانتقالات المختلفة في المسرحية،  والقلق واحد من الانفعالات السلبية الرئيسية، التي تشمل كذلك كلا من الغضب والحزن والاشمئزاز وغيرها من الانفعالات التي تقدمها الشخصيات في المسرحية،  والقلق يشير إلى حالة نفسية يكون فيها شعور الفرد بالاضطراب والانزعاج نابعاً من ظروف غامضة، أي أن القلق يشير إلى مشاعر عامة من الاضطراب والكدر بشأن أمر غير محدد وشائع وغير مؤكد وقد يكون صورة مشوهة من التهديد أو الخطر، وبسبب الطبيعة الغامضة لمثيرات القلق ومحفزاته فإن الشخص يكون متذبذباً في الكيفية التي يسلك بها لأن طبيعة الخطر ومصدره مبهمان فشخصيات المسرحية ليسوا أطفالاً يخافون الأب والأم بوصفهم مصدر للسلطة، وانما هم شخصيات عاقلة ولكنهم يهابون شخصيتي  الأب والأم والذين لم يعد لهم وجود فعلى في الواقع، والخوف نقيض القلق والذى يعد استجابة نفسية تكيفية وسلوكية حادة بيولوجياً لحدوث مثير نوعي ومحدد ويشعر الفرد انه مضطر للفعل كما تبدأ شخصيات المسرحية لعبتها اليومية وسردها حكايتها فهم يشعروك كمتلقي مدي اضطرارهم للقيام بفعل التمثيل لأنهم خائفين من شيء ما، فالخوف دعوة للفعل سواء مواجهة او هروب، في مسرحية ليلة القتلة يتم الانتقال بين عدد كبير من المشاهد “ مشهد الزواج الذى نري فيه سيطرة الام على الابن وتحكمها في حياته من الليلة الأولى، ومشهد الأب الصارم المعترض على الدوام والذى ينظر الى أبنائه نظرة دونية، ومشهد الجيران المتطفلين والمنتهكين لخصوصية جيرانهم، ومشهد المحكمة والذى تتجلى فيه هشاشة القانون وطفوليته فالمخرج يجعل الممثلين للقانون يحملون مطرقة بلاستيكية من لعب الأطفال تأكيداً على طفولية اللعبة، الى جوار أن الروب الذى ترتديه الشخصيات يوضع عليه شال به ألعاب أطفال”. يمكنك في هذا العرض أن تري عالم مُغاير  تتعري فيه جميع الأمراض النفسية والمجتمعية والأسرية، فالعرض يقدم لك الخلطة والوصفة المؤكدة لصناعة انسان هش مجوف من الداخل يحمل عقد طفولته إرثاُ على كتفه، ويمكن أيضاً أن تراه من الزاوية السياسية وتلك الحالة من الصراع الدائم بين الأنظمة السابقة والحالية أو بين الشباب والكبار، أنظر الي العرض من الزاوية التي تفضل فالعرض يحتمل التفسيرات المختلفة.
يجعل المخرج صبحي يوسف من الجمهور مشاركاً في العرض لكنه مشاركاً من نوع أخر فلا يشارك الجمهور بالفعل بل انه غير قادر سوى على التصفيق الذى قد يوقف الحدث بضع ثواني، او قد يكون الجمهور مشاركاً كفعل الانعكاس يري نفسه في الاب أو الام التي تري أن حملها وانجابها هؤلاء الأطفال كان حملاً ثقيلاً على حياتها ولذلك هي دائمة التعبير عن رفضها لأبنائها، او قد يرى الجمهور في نفسه انعكاساً للأبناء المقهورين أو للأب القاسي الذى ينهر ويضرب الأبناء على الدوام، ويتم التأكيد على ذلك من خلال استخدام الممثلين المرآة وتركيزهم على الجمهور في بعض لحظات العرض، ومن الضروري التأكيد على أن الديكور ل”سماح نبيل” جعل من الجمهور مشاركاً ضمنياً في العرض الذى يقدم في  منتصف فضاء قاعة صلاح عبد الصبور بالطليعة، هذا الى جوار ان الأزياء والتي تكونت من ملابس للنوم موحدة الشكل والتكوين وهي عبارة عن بيجامات مخططة بالطول وكأنهم نماذج متطابقة رجال ونساء، بالإضافة الى الموتيفات التي يتم استخدامها عند الحاجة ضمن سياق الألعاب المسرحية المختلفة في العرض ولعبة تبادل الأدوار، أما الإضاءة من تصميم “إبراهيم الفرن” عبرت تماماً عن الحالة الدرامية للعرض وتقلباته المختلفة وساهمت بشكل واضح في التأكيد على المعاني المختلفة التي أراد المخرج ايصالها للجمهور، هذا الى جوار أن عنصر الابتكار في الإضاءة  أضفى بعداً درامياً موازياً للعرض يساند اللحظات الإنسانية الخاصة بالشخصيات ويتفاعل مع احساساتها المختلفة، ويندمج بشكل واضح مع الموتيفات المستخدمة في العرض فيضفي بعداً جديداً وزاوية رؤية تدعوا للتأمل، أما الأشعار فهي ل”عوض بدوى” ولم تكن دخيلة على العرض ونصه وانما بدت ضمن نسيجه الدرامي فعبرت عن اللحظة الآنية والحالة العامة للشخصيات، أما الموسيقى والألحان ل”محمد حمدي رؤوف” عبرت عن اللحظات الدرامية الأكثر حساسية في العرض، وفي بعض اللحظات اتخذت ايقاعاً يشبه النواح والعديد وكأنها ترثى لحال ابطال العرض، أما مساعدو الإخراج هم “لمياء جعفر، أحمد علاء، محمد مسعد ،المخرج المنفذ وليد الزرقاني” وبدي جهدهم واضح في العرض.
ليلة القتلة من العروض التي تتوافق فيها العناصر المسرحية لتعبر عن حالة فنية مُغايرة  تدعوا للتأمل.


داليا همام