الفكر / التراجيديا / تراجيديا الفكر ملاحظات على مصير النظرية على خشبة المسرح (3)

الفكر / التراجيديا / تراجيديا الفكر  ملاحظات على مصير النظرية على خشبة المسرح (3)

العدد 852 صدر بتاريخ 25ديسمبر2023

     التراجيديا بالنسبة لأرسطو , الذي كان له تأثير عميق على الفن الأوروبي , هي في الأساس حقيقة شبه منطقية. ومن المسلم به أنه لا يمكن أن تكون عقلا محضا , ولكن تنبع قيمتها من قربها من العقل . إذ يمكن قراءة كل التصنيفات التي تنتمي إلى بنية التراجيديا – المغامرة والتغيير والاعتراف و الحجم الملائم .. الخ – باعتبارها دخيلة على مفاهيم المنطق . ونظرية التطور الدرامي , كما هي موجودة في كتاب “ فن الشعر “ هي في خدمة المنطقي . ويخضع سرد التراجيديا لقانون القانون : قانون توضيح بنية منطقية . وبإتباع أرسطو , يمكننا أن نقول ان التراجيديا تكشف عن نظام خفي للأشياء , ومنطق الضرورة أو الاحتمال , الذي لن يظهر في الوصف البسيط , وفي المعلومات المقدمة في الحكاية , وفي سرد القصة الأسطورية على الرغم من أن هذه الأخيرة ليست في متناول كل الطبيعة المنطقية . ومنطق الضرورة أو الاحتمال هذا بالأحرى يمكن أن يظهر في حبكة التراجيديا . انه يعبر عن نظام الفكر وهو بهذه الطريقة سبب وتكوين التعلم . فهو لا يقود المتفرج فقط إلى هذا التعلم  . ومع مصطلح الإدراك anagnorisis يؤسس أرسطو أيضا موضوع التراجيديا , البطل ومصيره , بشكل أساسي كلحظة انكشاف . التراجيديا مرة أخرى , في جوهرها – نظرية , مشكلة على نموذج النظرية .
     واليوم , من السهل أن ندرك من الحداثة وما بعد الحداثة أن لفتة المديح الأرسطية الممتدة نحو الفن , ولاسيما التراجيديا , ترقى في عدة نواح الى “ حصان طروادة” . ونعرف التأكيد المشهور لكتاب “فن الشعر” بأن التراجيديا “أكثر فلسفية” من التأريخ . وطبقا لأرسطو , فان الأمر كذلك لأن التاريخ يحتفظ فقط بما حدث , بينما تحتفظ التراجيديا بما يحدث دائما – أو ما يحدث كقاعدة – وفقا للضرورة أو الاحتمال . وهذا يعني أن التراجيديا لا تحتفظ فقط بترتيب منطقي . وبفضل الفيلسوف , ربما نتوقع أن تدعو التراجيديا الى الفرح الكامل . ورغم ذلك , تُخضع هذه البادرة التراجيديا بلا مقاومة الى لسلطة المفهوم العام المجرد من خلال إعلاءها على ما يبدو . في النهاية , يمكن تقويم جدارة التراجيديا من خلال الخطاب الأساسي والمتفوق للفلسفة . فالدراماتورجيا وترتيب الأحداث وبنائها , ( التنظيم والبرمجة ) والحبكة ( كما يفهمها أرسطو في كتابه “ فن الشعر “ ) لها وظيفة اظهار قانون ومنطق الأحداث  وتقديمها للتأمل . إنها مسألة إضفاء الطابع المنطقي على علم الجمال الذي يعد بالنسبة للفن ظاهرة مناظرة . ثانيا , يعمل هذا المدح باعتباره التزاما للتراجيديا لكي ترقى إلى طبيعتها الأكثر فلسفية . ثالثا , النتيجة المتناقضة – وهى متناقضة فقط من الوهلة الأولى – أن المسرح , الذي يمثل التراجيديا , في كتاب “ فن الشعر “ قد تطهر من مفهوم الفن التراجيدي . فالتطهير يحدث كما أوضح أرسطو صراحة , بدون أداء , فقراءة التراجيديا كافية . والأداء نفسه (opsis) , وهذا يعني ما هو مسرح فيما يتعلق بالمسرح , وليس ذلك النصي فيه – الذي يتعلق في الواقع , النسبة لمؤلف كتاب “ فن الشعر “ , بالجوانب عديمة المعنى والقيمة بالنسبة للتراجيديا .  ولا يزال الكثير منا يعتقد أن المسرح جميل , ولكن فيه شيء مزعج : ألا وهو المسرح . فالمسرح لا لزوم له , وأرسطو واضح جدا ومباشر في قوله إننا نحتاج فغلا المسرح للمواطنين الأقل ذكاء . وسوف يتم إغرائهم بالتفكير بأن الأمر كذلك , من خلال متعة الإدراك الطفولية  , بينما الفيلسوف لا يحتاج لهذا الباعث وسوف يتأمل بطريقته .
                                      ( ثالثا )
     أرجو أن أكون قد ضحت أننا لم نقم بنزهة خاملة في حديقة المعرفة في تاريخ علم الجمال . لقد حولت بالأحرى لفت الانتباه إلى فكرة أنه على الرغم من أن التاريخ الحديث يمكن قراءته كسلسلة من الثورات والتحولات التي تعيد تفسير هذه الأفكار حول التراجيديا , فان المعرفة العامة للفن لا تزال مرتبطة بهذا الموقف الأرسطي . يمكن قياس قوة التفكير هذه في الصعوبات التي يجب على كل محاولة أداء – حتى اليوم – أن تكافح لتفكيك أسبقية النظام المنطقي باعتباره نموذجا للشكل الجمالي . إذ يجب أن تناضل هذه المحاولات لتأمين حق وجود اللعب , والمصادفة والمادية المطلقة , التي تظل غير متأملة في كل فكر . بمعنى آخر , يمكننا أن نقول انه لا يزال فكر غير مكتمل في الآخر , وتفكير الآخر للتفكير نفسه . ولكن اذا لم نسمح للجدال أن يضللنا , أعني الجدال الذي يتطلب من المسرح بجد اللباس الجميل لما هو في الواقع تكرار للفكر اليومي , ثم نجد أنها غالبا ما تكون العكس في ضوء ما بعد الحداثة : وظيفة الفن هي بالأحرى إرباك التفكير المنتظم ظاهريا , والفئات والترتيبات والتصنيفات . ففي كتابه “ الحد الأدنى من الأخلاق  Minima Moralia “ يرى أدورنو أن وظيفة الفن إدخال الفوضى في النظام “ . وهذا بالطبع لا يعني الدفاع عن المسرح عديم الفكر ولكن بالأحرى المسرح الذي يتابع المغامرات الجدلية والانحرافات المنطقية . يضع أدورنو في اعتباره نوعا من التفكير الذي يكمن بشكل أساسي في إمكانية المفهوم , وليس في نفيه .
     المسرح , بالنسبة لأرسطو , ليس فقط غير ضروري , بل انه مضر أيضا . وعلى الرغم من  أن هذا ليس واضحا عند أرسطو كما كان عند أفلاطون سابقا , فان هذه اللفتة الثانية ( إلى جانب الشكل شبه المنطقي للجمال) هي أيضا الأهمية القصوى للعلاقة التناقضية والصراع بين النظرية والمسرح . ومرة أخرى , سوف أرجع خطوة الى الوراء , وهذه المرة إلى أفلاطون , وبذلك أشير إلى بحث أولف شميدت . فمن المثير للاهتمام أن أفلاطون يتحدث عن خلاف قديم بين الفلسفة والتراجيديا . إذ يجب منع التراجيديا من المدينة الفاضلة , أي المدينة التي يقودها العقل . وبصراحة جميلة , يشرخ أفلاطون – ليس في كتابه “الجمهورية” ولكن في الكتاب الخامس من “ القوانين “ – أن البناء السياسي الصالح والجيد يجب أن يكون في حد ذاته “أصدق تراجيديا” , وأن المواطنين من خلال تشكيل المدينة , هم أنفسهم الشعراء وأن ينظروا إلى كتاب التراجيديا كمنافسين وخصوم , متنافسون على جائزة أفضل دراما . هذا التنافس الغريب بين السياسة والمسرح لم يعد مجرد كلام أو استعارة . بل أكثر بكثير , انه يعكس مشكلة أساسية في الفلسفة الأفلاطونية, وبالتالي التقاليد النظرية الأوروبية . فعند أفلاطون فعلا , في العمل الذي حاولنا فيه التفكير في العملية الإدراكية نفسها , أصبحت النظرية مشتبكة في مشكلة ربما لا يمكن التغلب عليها . لقد فصل أفلاطون تصنيفيا المشاهدة عن الفهم الإدراكي ؛ وهذا على نقيض الاعتقاد أثناء العصر المنسوب إلى هوميروس , عندما تم التعامل مع الرؤية والتفكير على أنهما جزءان من سلسلة متصلة . ففي حين أن الفرجة هي بالأساس عرضة للأخطاء , فان الفهم الإدراكي – بمنطقه الداخلي – هو موقع الحقيقة المحتملة . ومع ذلك تنشأ مشكلة أن قدرا معينا من الفعالية والقدرة على تصور وتأمل شيء ما في ذهننا , والفنتازيا والخيال , لا غنى عنهم لمعرفة شيء ما . فكيف يمكن للعلاقة بين الاثنين أن تظهر للعيان ؟ . فالمسرح , من جانبه , هو بالطبع تنظيم للفرجة “ Schauanordnung” استشهادا بأورليك هاس . وبقدر ما كان ينظر الى النظرية والادراك بشكل أساسي منذ أفلاطون , على أنهما يكمنان وراء فعل الفرجة , وفيما وراء الصورة باعتبارهما مضمون فكري , ومنطقيين بشكل بحت وما الى ذلك , فان تاريخ التنافس المتوتر , والطبيعة الموازية , والادانة المتبادلة بين النظرية والمسرح ربما تجد أصلها في السؤال الذي لم يتم حله حول كيف ينبغي علينا أن نرى فعلا في النظرية فعل الرؤية . امتلك اليونانيون القدماء مجموعة واسعة من الكلمات الدالة على فعل الرؤية في جوانب مختلفة ( من بينها “ blepein” و”Horan” و “skeptomai” ) تضمنت الفعل theorein وtheasthai. ومن المفارقات أن فعل الرؤية هذا هو الأبعد عن الفلسفة , على الرغم من أنه أعطى اسمه للنظرية . ويقتبس شميدت برونو سنيل : الفعل theasthai , إن جاز التعبير , معناه النظر والفم مفتوح , مثل “ التحديق gawking” . أحدهما يشبه “ كل العيون “, يحدق بشغف للتمييز بوضوح ( وهو ما يشار إليه مثلا ب skeptomai , التي يُشتق منها كلمة “ الشك skepticism) . وبالتالي فان طريقة الرؤية الموجودة في كلمة theoria علاوة على كلمة المسرح theater , هي في الواقع , على أحد المستويات , التعجب البعيد تماما عن المعنى؛ انها الرؤية المنتشية , والرؤية دون فهم . ورغم ذلك , تتكرر الكلمة عند أفلاطون في الطرف الآخر من التسلسل , وهناك تثير كلمة theoria أعلى نقطة في الفكر وهي التأمل الإلهي للحقيقة . ومن توفير ما قد يلزم من القراءة الشاملة حول هذه القضية , سوف أقتصر على مجرد طرح التأكيد على أن الفلسفة مطبوعة بالضرورة بنوع من المظهر , وهي لحظة ضرورية من التعجب أمام الأداء والعرض . فكلمة “ مسرح “ هذه تجعل الغموض عقبة داخل عملية الفهم نفسها . فلحظة الفنتازيا , والتأمل الحسي , والمفهوم المتخيل لذلك الغائب  محكوم عليهم بالفشل أساسا . وفي نفس الوقت من الضروري تماما أن نساعد على إدراك الحقيقة. وهذا له نتيجة أن إدراك الحقيقة لن ينفصل أبدا عن المظهر المخادع للمسرح . ولا يمكن فصل النظرية عن المسرح . وتترجم السمة الأدائية للفكر الى دراماتورجيا الخطاب الفلسفي – منذ أفلاطون باستمرار – وتترجم أيضا الى تصوير مشهدي وحواري واضح للفلسفة , في الطبيعة البلاغية للغة نفسها التي لا يمكن التخلص منها في نهاية المطاف . تظل النظرية , في محاولتها لتقديم مسرح غير حسي للعقل, مرتبطة دائما بمسرحانية معينة للتأمل . وبما أن الأمر كذلك , فقد يكون من الممكن تبرير الأطروحة بأن الجوهرية المسرحانية للفكر نفسه – أو بشكل أدق محاولة الفكر التخلص من هذه المسرحانية – التي لا تعترف في الخطاب المسرحي الأوروبي الا بالحس باعتباره عقلا مضاعفا : وأنه ناقص عادة . فالمسرح هو كبش فداء النظرية . والخلاف القديم بين النظرية والمسرح يقدم بالتالي الأساس للتاريخ الكبير الذي يصفه جوناس باريش بأنه “ التحيزات المسرحية المضادة “ . ان كراهية المسرح مشبوكة كخيط مشترك في جميع أنحاء نظرية المسرح الأوروبي , بداية من فلاسفة العصور القديمة وغضب أفلاطون من سلطة المسرح , ومن آباء الكنيسة وحتى روسو , وصلا الى العصر الحالي . فالفلسفة ( أو اللاهوت ) تتعرف على صورتها المشوهة في المسرح , التي يجب أن يطردوها من مدينة العقل ( أو من الكنيسة) لكي ينقذوا الفكر , أو النظام , أو الأخلاق , أو الآداب , أو الإيمان .
     وعلى الجانب الآخر فان قرب المسرح من الفلسفة هو أيضا مشكلة أخرى . بالطبع , اهتمت التراجيديا في العصور القديمة – والغالبية العظمى من المسرح الرائد بعد ذلك – بالأسئلة الأساسية للمدينة ( غالبا في وسيط التقاليد الأسطورية ) ؛ الأسئلة الأساسية للمجتمع والسياسة ( التي لا يمكن أن تنفصل عنها الفلسفة ) . فالمسرح من بدايته الأولى , هو نوع من التفكير على خشبة المسرح . ورغم ذلك , إذا حصلت التراجيديا على الكثير من المدح الأرسطي , فان هذا أمر فلسفي للغاية , وربما تختفي بشكل تراجيدي كمسرح . فماذا يمكن أن تكون التراجيديا , ألا يمكن أن تكون مجرد مفارقة نظرية مصورة ؟ إذا تم طرحها على أنها مجرد شيء مزدوج ؟ ولأسباب تفتخر كثر من نظريات التراجيديا باكتشاف تناقضات جدلية وتناقضات أخرى في التراجيديات , وهي تناقضات دفعت بها الى حد المفارقة . ولكن ألا يمكن أن يكون مجرد ترك المشكلة الفكرية على خشبة المسرح أمرا زائدا عن الحاجة فعلا ؟ . ومع ذلك , أليست هذه مادية غبية , ان جاز التعبير – عنصر من عناصر السيرك والتحديق ,  والفضول والإحساس الذي لا هدف له – التي تحمي التراجيديا من التحول الى مجرد خطاب فقير مقارنة بالخطاب الفلسفي ,وهو ما أرادت الفلسفة أن تضع المسرح فيه ؟ . المسرح يتغذي على عنصر العواطف غير الهادفة وضعيفة السيطرة , وعلى المادة المملة التي لن يرفعها الفكر . وهذه الحقيقة المسرحية أو الواقع المسرحي ( التي أشرت إليها في كتابي “مسرح ما بعد الدراما “) تؤكد نفسها باعتبارها 1لك البعد الذي يمنع – أو ربما من المحتمل أن تمنع – أن يختزل ذلك الفكر التراجيديا الى مجرد لعبة الخرزة الزجاجية النظرية غير المهمة . فالبعد الاجتماعي والسياسي مرتبط بلحظة من المادية غير المهمة . ففي عصر النهضة , عندما اكتشفت الذات نفسها باعتبارها المبدع الكامن لتاريخه وفي نفس اللحظة باعتباره ضحية التاريخ الضعيفة , وعندما أعيد بناء الصلة بين التراجيديا والمسرح , اعتبرت التراجيديا لأسباب وجيهة نوعا من التأريخ . وبالتالي, لم تكن مسرحيات شكسبير تسمى بالاسم المعرفة به – هاملت والملك لير. فقد كانت “ التاريخ التراجيدي لهاملت The Tragic History of Hamlet” , “ أمير الدنمارك . وفي عصرنا أقر هاينر موللر أن التراجيديا توجد فقط بناءا على المادة التاريخية التي يجب أن تكون موجودة في وعي المتفرج أو القارئ . فغموض هذه المادة هو فعلا الموقع الذي تحدث فيه التراجيديا . وهذا يعنى أنها تحدث في تعليق الفكر , وفي غموضه – وعنف غير معقول .
....................................................................................
هانس تيز ليمان كان يعمل استاذا في جامعة Goethe Universitat Frankfurt am main . ومن أهم كتبه “ مسرح ما بعد الدراما “
نشرت هذه الدراسة في دي جرويتر  في العدد رقم 136 ( المجلد الأول ) في الصفحات 61-74 .


ترجمة أحمد عبد الفتاح