الجسر..تفقد طريقها إلى صالة الجمهور

الجسر..تفقد طريقها إلى صالة الجمهور

العدد 519 صدر بتاريخ 7أغسطس2017

فى عالمنا العصري الوحشي، كل شئ اصبح له مقابل، المخيف فى الأمر أن هذا المقابل صار مقابل روحيا، وليس ماديا، وهو ما عبر عنه فيلم  There Will Be Bloodعندما سقط رجلاً من العمال داخل بئر البترول، ودهسته الآلة فاختلطت دمائه بالبترول، بالإضافة إلى أن ابن البطل فقد سمعه إثر حادثة انفجار فى محطة البترول، وفي مسرحية “جسر آرتا” لمؤلفها “جورج ثيوكوتاكا” ــ هى الآخري ــ تشير إلي أشكال الثمن والمقابل فى سبيل المجد والشهرة، هل يستطيع الإنسان استيعاب هذا الثمن؟، فأى ثمن لقاء الحصول على البترول والثروة أو الشهرة والأمجاد، المقابل هو الدم دوما، هى الروح.
في مسرحية “الجسر” التى قدمتها الجامعة الألمانية على خشبة مسرح الطليعة ضمن العروض المختارة، فى إطار فعاليات المهرجان القومي للمسرح المصري، من تمثيل من تمثيل “ أحمد هاني، أحمد يسري، أمينة عمر، حاتم علوي، خالد أحمد، دينا محي، رنا فرج، عمر خيري، عمر شناوي، عمر وليد، فرح أسامة، كامل الشافعي، مؤمن الصاوي، محمد حبيبن محمد عطوة، ندي فؤاد، نهي مصطفي، ياسمين النهري، يوسف علي، سوف نشير سريعا لمحتوى القصة التراجيدي وبعده المأساوي، أن أهل “آرتا” أرادوا بناء جسرا بين ضفتى النهر، الذى سقط ثلاث مرات، إلى أن ظهر شبحا/شيطانا لرئيس البنائيين، يخبره بأن عليه التضحيه بزوجته لكى يكتمل الجسر عليه.
فقصة المسرحية تطرح الكثير من التساؤلات وإلإشكاليات، كما أنها تثير حالة من الشكوك داخل الإنسان وصراعاته، فإن كانت المآسي والتراجيديات اليونانية الكبري، قد جعلت من الإنسان لُعبة بين يدى القدر، لاحيلة له، فهى لعنة لصيقة به قبل ولادة الأبطال، وهو ما جعل الشخصيات شديدة الشجاعة، تواجه مصيرها المحتوم والدرامي بنفسها، فأوديب فقع عينيه كشكل من أشكال العقاب والتطهير من الخطيئة، أما بطل “الجسر” فهو يبدو عاجزا.
جائت المقدمة بمشهد مايم للعمال، وهم يرفعون الحجارة ويقومون بأعمال البناءة، وليس كادرات ثابتة ملخصة للعرض كما آلفنا، فأخرجنا عن الشكل التقليدي، لكن الأحداث تصير بمنتهى البطء والرتابة، هذا يجعلنا ننفصل عن العرض شيئا فشيئاً، ولا يخلق مجال للتفاعل مع العرض، ولم يجعلنا ـــ أيضا ـــ نتأمل ونتماهى مع الأحداث.
بدأ المخرج الحدوته بواسطة   Flash Backمن خلال مشهد الجدة وهى تحاول أن تبعد حفيدها عن أعمال البناءة، وعندما يرفض، فتلجأ إلى سرد ما حدث قديما من والده وكيف ماتت والدته، فتقنية الاسترجاع الزمنى تتطلب استخدام عنصر الإضاءة لتوضيح هذه الانتقالة الزمنية، وتوظيف black كثيرا بين المشاهد وبعضها البعض، سواء بشكل متعمد للتعبير عن الزمن أو سواء بشكل تلقائي، وهو ما جعلها أحيانا تبدو غير مبررة، وكأن الـ Black  فقد بعده ومسافته الزمنية، كما لجأ المخرج مرة أخري إلي توظيف “البلاك” كمرادف زمنى، لكى يوصف انهيار الجسر للمرة الثالثة، فالمشهد يتكرر وبينهما فواصل “البلاك” لتوضيح مرور الزمن، مع ارتكاز وتنقل البؤر الضوئية بين ثنائيات الممثلين، وحديثهم حول الجسر وانهياره والموتى والدماء والتضحية.
إن كان أوديب ولد واللعنة تصاحبه واكتشفها عبر تريزياس، فإن بلدة “آرتا” هم من صنعوا اللعنة بنفسهم، وصدقوا كلام الشيطان/ الشبح، فعندما تجلت الغيبيات والغموض بين أفراد البلدة، لجأوا إلي تبريرها عبر الأيادي القدر والميتافيزيقا، هنا يجدر الإشارة إلى التمثيل، رغم ما به من صدق وجهد؛ إلا أنهم صنعوا حاجزاً بينهم وبين خشبة المسرح، لا أعلم هل هى حالة من الجمود والآلية؟ فكانت حركاتهم وتعبيراتهم بها قدر كبير من وجوه الروبوت، وكأنهم يحتاجون إلى مزيد من المرونة والبساطة، بجانب أن هذا الجمود والتصلب، صنع وقتا طويلا من الرتابة والملل.
ما أن يطلب الشيطان دفن زوجته أسفل الجسر لكى  ينجح، هنا يتجلى الصراع المتعارف عليه، هل يرضخ لزهوة المجد وينبهر بالشهرة أم يحافظ على زوجته التى تعتبر مثال لبقايا الإنسانية داخله؟ هل فى مقدوره أن يتحمل هذه الذنب والخطيئة؟ حينها يظهر شخصا كالدروايش أومضطرب عقليا يحاول منع الزوجة من الذهاب لزوجها، ليمنع حدوث المأساة، وما أن يعرف الحفيد من جدته ما فعله أبوه، فيقرر الانتقام منه، الابن يقابل الرجل ذو العقلية المضطربة ويأخذنا مرة أخري إلى تقنية الاسترجاع، فكان هذا الرجل رئيس البنائيين وظهر له الشيطان بنفس المطلب؛ ورغم أنه رفض طلب الشيطان؛ إلا أن الآخرين هم من قتلوا زوجته، كأن نفس المأساة تكررت مع الابن.
الحقيقة أن الديكور كان كالمجسم الصامت، ولم تكن أبعاده واضحة، رغم أن اسم العمل متعلق بمكان وهو “الجسر”، فكان لابد من بلورته ببساطة، لتتضح مساراته وبدايته وامتداده، فإن كنا لانستطيع رؤية الجسر بوضوح، فإن الجسر بين الجمهور والصالة كان هو الآخر مرتبكا، بسبب حالة التصلب والجمود، وإن جاز الوصف، كانت الحالة بلاستيكية، فالعرض يحتاج أن يكون خفيفا من الديكورات الضخمة والإضاءة المزدحمة والأغانى الكثيرة والحركات التى بدت رتيبة رغم إتقانها، هذا يحلينا إلي حالة من التضخم والازدحام واستخدام كل التفاصيل والعناصر المسرحية سواء كانت ملائمة أو لم تكن، وهذا يجعل العرض زاخما، رغم ثقتى بإمكانات الإخراج والتمثيل أن بها مؤشرات جيدة، لكنها تحتاج إلى التمارين والبساطة وعدم التكلف.
كان الإنسان قديما شجاعا بما فيه الكفاية لمواجهة أخطاءه وأقداره، إذ أصبح إنسان العصر الحديث هزيلا وضعيفا ويفقد التصرف أمام أخطائه، هذا الذهول والشرود والضياع إنما هو نابع من عدم القدرة على مواجهة المخاوف والأخطاء الدفينة، بل نحن نقوم بدفنها ــ كما دفن رئيس العمال ــ زوجته وكأنها لم تحدث، حتى تتجلى مرة أخري أشباحا سوداء لاتتركنا، فلم نعد نستطيع المواجهة، فلقد أصبحت الصراعات النفسية أشد ذنبا ممكن نواجهه، صراعا شديد القسوة، صراعا يحيل الإنسان إلي ذنبا لايغتفر، لكن هذه الرؤية وهى جوهر النص المسرحي، لم تتبلور وتتضح بقوة، وهنا تتفجر التساؤلات، وتفتح الكثير من الأبواب وتتركنا بدون إجابة، مثلما مات الأب، قبل أن يواجهه الابن بفعلته، ويتركه حائرا، هائما، وكأن الإجابة لم تعد لها أهمية، وكأن لم تعد هى المغزى المطلوب، فيظهر طريقا لانهائياً من العذابات والآلم، طريقا مؤلما بدون أية إجابة واضحة، لكن لا يسعنى فى النهاية سوي شكر وتقدير الجهد المبذول من فريق عمل الجسر.

 


اميرة الوكيل