«غرفة مغلقة» غرفة لم تر لها بابا

«غرفة مغلقة»    غرفة لم تر لها بابا

العدد 851 صدر بتاريخ 18ديسمبر2023

في إطار الدورة التاسعة لمهرجان آفاق مسرحية العربي والذي أقيم في الفترة من (29 أكتوبر: 7 نوفمبر 2023م) والدورة مهداة إلى النجم الراحل كرم مطاوع، وضيف شرف الدورة دولة فلسطين، وقدمت نهائيات المهرجان على مسرح الهناجر بدار الأوبرا المصرية، وفي مسابقة العروض الطويلة، قدمت فرق موديلياني – القاهرة العرض المسرحي غرفة مغلقة تأليف (روماني جميل)، وإخراج (كيرلس ناجي)، واسم الفرقة مسمى على اسم الفنان إيطالي الأصل موديلياني وهو (رسام ونحات) تعبيري، عاش في باريس في مطلع القرن العشرين، تأثر بالنحت الأفريقي، ولا سيما الأقنعة للمصريين القدماء، حيث أخذ عن الفن المصري القديم الذقون الدقيقة والأنوف الرفيعة، لكن للأسف قضى حياته في حرب شرسة بسبب الأمراض منذ صغره كالتوفيئيد والسل وتوفي في سن ستة وثلاثين عاماً (1884 – 1920م) وتدور الفكرة الرئيسية للعرض حول لحظات في حياة فنان تشكيلي تظهر ما يدور في عقلة وهواجسه الشخصية، وعوالمه ودواخله وفلسفته في الحياة، وحاول مخرج العرض على مدار خمس وستين دقيقة وهي زمن العرض أن يجسد هذه اللحظات من حياة الفنان هذا الإنسان الرسام والنحات وإبراز كيفية معاناته من مشاكله النفسية، وإيضاح همومه نتيجة اصطدامه بوفاة والدته وتأثره بذلك بعد أن عاش وحيداً بمعزل عن الناس، وعن اسم العرض وإنتاج المعني، نقول إن مغلق يعني موصد، ولا بد من شيء لفتح هذا المغلق، فمثلاً يستخدم مفتاح لفتح الباب المغلق، أو أي شيء آخر لفتح هذه الغرفة المغلقة، حتى نتعرف على ما بداخلها وقام المؤلف بإطلاق اسم نائل (مايكل صابر) على بطل العرض، وفي اللهجة العامية نائل تعني ناقل، فهي صفة وليست اسم شخص؛ فمن الممكن القول إن هذا الفنان متأثر بالآخر وينقل عنه، فهو ليس صاحب مدرسة فنية أو أسلوب شخصي، لكنه مقلد وليس مبدعا، ومن الأحداث نعلم أن هذا الفنان يعيش في غرفة مغلقة بعيداً عن كل المحيطين به، هذه الغرفة تمثل مكان عمله الخاص (أتليه) فهي تشكل عالمه الخاص، وبداخل هذه الغرفة ظهرت مأساته؛ نتيجة حالة الاكتئاب التي انتابته؛ والتي تطورت إلى صراعات داخل نفسه، ومن خلال هذه الصراعات النفسية ظهرت له شخصيات قابلها في حياته وبدأ يتحدث معها، لدرجة أن ضمن هذه الشخصيات يتجسد صوت ضميره، أو أفضل أن أقول «يظهر قرينه»، والذي يدعى خالد (فادي وهيب) وبدأ يتحدث معه، ونجد نائل يتصرف تصرفات سيئة بينما قرينه  يتصرف تصرفات سوية، تصرفات حسنة، فقد أصبح نائل غير راضٍ عن أفعاله وكان يجب أن تكون تصرفاته سليمة وإيجابية وأن يبتعد عن التصرفات السيئة، ويبدأ العرض ببعض الأسئلة كلها عن من يختار (اسمه، بلده، وجوده، أو حتى موته)، والإجابة لا أحد، فالحكاية كلها تتوقف على الشك، فهل يا ترى الفنان نائل سجن نفسه داخل هذه الغرفة المغلقة التي لا يوجد لها باب، أم أن الحياة هي من سجنته، فوجود امرأة تدعى حياة (مايا المسلامي) في حياته كان يحبها هي من خلفت له هذه الأزمات، فهل تزوج نائل حياة، أو هو لم يتزوجها، هل ترك محبوبته، عندما أخبرته أنها ستتزوج غيره أو هي التي تركته، هل لديه طفل أم لم يحدث ذلك،  فدائما نجد أن نص العرض مبني على الفراق، فيقول نائل “حياة ما عادت وحيدة، وما عادت لم تكن لوحدها» فهي لن تعود إليه، وفي مقولة أخرى يقول “إنها ليست زوجتي” لكن قرينه يقرر أنها زوجته ويتعامل معها بمنتهى الرقة والرقي، ويعرض أمام المتلقي مشهدين عكس بعضهما، فالشك دائما هو المسيطر على موضوع العرض، ونجدة في علاقات أخرى مع فتيات أخريات، وهم: أمل (مريم يوسف)، هنا (مرثا هرمينا)، جميلة (ماريز ماهر)، و(كاترين جورج) و(مريم رمزي)، ويترك مؤلف ومخرج العرض للمتلقي حرية الاختيار في التأويل، فيفسر كل متلقي الحالة من وجهة نظره، وهذه العروض من العروض الجيدة التي تجعل المتلقي يقظ، نشط، في حالة تساؤل مستمر، ومن الممكن أن يربط المتلقي بين اسم نائل فهو الناقل من فن الآخرين (رسم أو نحت)، أي أنه مدعٍ وليس فنانا مبدعا، وبالتالي فهو يدعي أشياء كثيرة وما دار في مخيلته ليس فيه شيء من الصحة. 
كيف حقق المخرج رؤيته:
دمج المخرج بين صالة العرض وخشبة المسرح في وحدة واحدة، فالمتلقي يقبع داخل هذه الغرفة المغلقة، هذه الغرفة التي لا يوجد لها باب، فيدخل رجل يحمل مبخرة (يوسف محمد) ليبخر الغرفة من صالة العرض، وكذلك بائعة العيش (جوليانا أشرف) التي تعطي المتلقي خبزا حقيقيا، فهي الحقيقة، لكنها تصبح خيالا عندما نجدها ملقاة على الكنبة التي تمثل سريرا لتعبر عن أمه المتوفاة.
  صمم الديكور (ريمون سليمان) متأثراً بالفنان مود يلياني برسم لوحة كبيرة وضعت على حامل عن يسار مقدمة المسرح، وحولها في العمق بعض من اللوحات الأخرى وبعض المنحوتات ومنها غير المكتمل (قدم – يد – رأس مهشم منها جزء... الخ)، والكرسي الذي يجلس عليه أثناء الرسم وكرسي آخر يوضع عليه الفرش والألوان، وعن يمين مقدمة المسرح وضعت أريكة وخلفها شجرة غير مورقة (أغصان فقط بلا أوراق) وكأنه يمزج ما بين خارج وداخل الغرفة، وفي عمق المسرح وضعت بعض المنحوتات أيضا على منضدة، وأعتقد أنها تشبه بعضا من منحوتات موديلياني، وفي وسط عمق المسرح وضع بانوهين معلقا عليهما تماثيل، وفي منتصف منتصف المسرح وضعت كنبة تشبه السرير لتمثل المكان الذي يستريح وينام عليه الفنان، وأيضاً مكان وفاة والدته، فهذا المكان كان دائما محور ارتكاز كل خيالاته، ويمكن القول إن هذه المنحوتات التي كانت تملأ الغرفة هي من كانت تتهيأ له في صورة بشر وتحاكيه، أو هي التي كانت تشكل هواجس الشخصية، فهي تعبر عن الموديلات التي صنعها، فحال هذا الفنان مثل أي فنان آخر يعيش مع شخصياته التي صنعها ولا ترحل عنه إلا بعد الانتهاء من تجسيدها سواء في لوحة رسم أو نحت تمثال.
كانت الإضاءة (شادي نادر) في معظم الأوقات في العرض عبارة عن بؤر ضوئية يلعب بها على التخيلات بالنسبة لشخصية نائل، فكان يتخيل في هذه البؤر شخصا ما، ثم يكتشف أن هذا الشخص غير موجود، ومزج بين الألوان ومنها اللون الأزرق والأحمر في بعض المشاهد التي يتخيل فيها الأحلام لتعبر الإضاءة الزرقاء عن الحلم ولكن مزج الأزرق بالأحمر ليعبر على أن هذا الحلم أو الخيال ليس حقيقياً، فكان توظيف الألوان طبقاً للحالة الدرامية، ونجد إسقاطا مؤثرا خاصا على اللوحات الموجودة في عمق المسرح لتعبر عن قضبان سجن وهي توحي بسجن نائل داخل لوحاته، كما نجد في بعض الأحيان إنارة عامة لخشبة المسرح لرؤية كل ما هو موجود في الفراغ المسرحي الذي يعبر عن الغرفة والقابعين فيها ليُرِي المتلقي الجو العام للحدث.
أما الملابس لا نستطيع القول إنها أزياء قديمة أو حديثة فهي ملابس مناسبة للشخصيات حيث أن الموضة تختفي ثم تعود بعد سنوات وخاصة الأزياء الرجالية، فنجد على سبيل المثال بائعة العيش ترتدي عباءة سوداء، والرجل الذي يحمل المبخرة يرتدي جلبابا بلديا، والنساء التي لهن علاقة بنائل ارتدين بلوزة و»جيب» أو فستانا، وارتدى قرين نائل قميصا وبنطلونا أسود، أما ملابس نايل فكانت عبارة عن قميص أبيض وبنطلون وسديري أسود، ملطخين ببعض من بقايا العديد من الألوان، ويعبر ذلك على حالة اندماج الفنان في عمله ولذا تتساقط بعض من الألوان على ملابسه، أو هو من يقوم بمسح هذه الألوان في ملابسه دون أن يشعر، فهو لا يهتم بملابسه مثل عامل الطلاء.
عبرت الاستعراضات والدراما الحركية (محمد بيلا) عن الحالة الدرامية، فبدأت الأحداث باستعراض حركي درامي (تعبير حركي) ويحكي عن مدى تأثر الإنسان الذي يعيش في غرفة مغلقة داخليا على حالته النفسية، ومدى الصراع النفسي عليه بمشاهدة نائل لبعض الشخصيات الوهمية التي يتخيلها، واستعراض (تعبير بالحركة) الذي يصف صراع نائل بين نفسه وبين ضميره، أو كما أطلقت عليه قرينه، والفرق بين معاملته القاسية للمرأة التي أحبها وبين معاملة قرينه الرقيقة لها. 
أما عن الموسيقى التي أعدها المخرج لتتناسب مع الذائقة الفنية للفنان (الرسام والنحات) فلذلك لم يختر أغنية شعبية أو أغاني المهرجانات بل اختار أغاني تعود إلى القرن الماضي والتي تسمى أغاني للتطريب، فالفنان يتذكر الماضي دائما ومغرم بالنستولوجيا، فاختار لسيدة الغناء كوكب الشرق أم كلثوم أغنية هذه ليلتي من كلمات جورج جرداق ومن ألحان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، واختار أغنية بلاش تبوسني في عينيا، غناء وألحان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وكلمات حسين السيد، وعندما أحب نائل قناة لبنانية استخدام أغنية ما مرق للمطربة اللبنانية جوليا بطرس وهي من مواليد عام 1968م، وكلمات الأغنية لشاعر غير معروف، ومن ألحان زياد بطرس، وكان الإعداد الموسيقي تسيطر عليه الآلات الوترية وخاصة التشيلو، والتشيلو يجسد شخصية الرجل الذكورية وهو أقرب لمشاعر الرجل، فهو من الآلات الدالة على العاطفة؛ حيث يحتضن العازف التشيلو أثناء العزف كما يحتض الرجل المرأة عند اللقاء العاطفي، والتشيلو يطلق عليه صوت بكاء الرجل.
التحية واجبة لكل من ساهم في خروج العرض إلى النور.


جمال الفيشاوي