المرأة الشريرة: عن جدوى المسرح

المرأة الشريرة: عن جدوى المسرح

العدد 555 صدر بتاريخ 16أبريل2018

واحدة من أهم المشتغلين بفلسفة الفن في الوطن العربي تأخذ أم الزين بنشيخة المسكيني لنفسها مكانة محترمة حقيقة، ويمثل كتابها الجاد «الفن يخرج عن طوره: مفهوم الرائع في الجماليات المعاصرة من كانط إلى دريدا» جهدا باذخ القيمة، والحقيقة أنني أنبه إليه في كل ندوة أو ملتقى أجد للرجوع إليه أهمية، حاولت المسكيني أن تلج مجالا جديدا في البحث الاستاطيقي غير الذي تعود عليه الباحثون على الأقل في الساحة العربية، عندما تجاوزت البحث في الميدان التقليدي للجماليات وهو «الجميل» إلى البحث في «الرائع» الذي يشكل في الواقع وكما تشير هي أيضا راهنية قصوى بالنسبة للفكر الحديث والمعاصر.
و”الرائع» لا ينفصل مطلقا عن «المريع» في لفظة sublime في اللغات الغربية وفي الجذر اللغوي في اللغة العربية وما يمكن أن ينفتح عليه هذا الجذر من ألفاظ تبدو متباينة وعلى طرفي نقيض، ثم إنّ «المريع» هو أيضا «جمالي» بشكل لا يصدق، فالجمالي ليس دوما موضوع متعة وسعادة، إذ يحدث أن يفزعنا الرائع إلى حد الروعة والترويع. إننا نشهد منذ قرن من الزمن - كما تعبر الكاتبة - على تدفق «الرائع» و«المريع» علينا من كل حدب وصوب وهو ما عبر عن نفسه من خلال عدة اصطلاحات مثيرة: المريع التكنولوجي والمريع النووي. وهو ما يجعل السؤال التالي شديد الأهمية: أي شيء بوسع الفكر أن يفعل إزاء عصر يسقط من «روعة» العظمة في كل معاني العبقرية والإبداع البشري إلى «مُريع» «الروع» والكارثة الكبرى؟ يجب الكتاب المذكور: «لا شيء يسعفنا غير إعادة زرع «الرائع» في النسيج الحميم لمصير البشر».
لكن ما علاقة كتاب المسكيني بعنوان المقال؟ الحقيقة أنّ العلاقة تكاد تكون متداخلة فقد استغللت فترة عطلتي من التدريس في مشاهدة عدد ضخم من الأفلام العالمية نصحني بها أحد الأصدقاء، كانت قائمة جيدة إضافة إلى قائمة كتب كانت تنتظر أن أنشغل بها بعدما انشغلت عنها مطولا لضرورات بحثية كالعادة. واحد من المشاهد الهامة في الفيلم الذي يحمل عنوان «المرأة الشريرة» لمخرجه «بيونغ جيل جونغ»، يحمل دلالتي «الرائع» و«المريع”بشكل جلي جعل من هذا الكتاب يتراءى لي وتتتابع أفكاره مع تتابع مشاهد الفيلم لحظة بلحظة.
في فيلم «المرأة الشريرة» وكما في الحياة نفسها، يتجاور الرائع والمريع أيضا، بين «رائع» الحب الذي تجده البطلة في الوسيم الذي يسكن بجوارها و«مريع» الخيانة عندما تكتشف أنه مجرد عميل يراقب خطواتها ويوصلها لأسياده، و«رائع» الحياة وولادة ابنة جميلة و«مريع» تفجير المنزل وقتل الطفلة والزوج والبكاء الذي يفطر القلب على الفاجعة. بين «رائع» العاطفة والشعور والجمال الذي تظهر عليه المرأة الشابة، و«مريع» الاقتتال والوصول إلى شفير الموت في عدد غير محسوب من المرات برباطة جأش خارقة. رائع العرس وفستان الزفاف وطقوسه وموسيقاه الخاصة، و«مروع» القنص بسلاح كبير بفستان الزفاف نفسه من نافذة مرحاض الفندق الذي يقام فيه الاحتفال!!
بالطبع ليس هذا مكان تحليل فيلمي، بقدر ما أبتغي أن أشير إلى اللمحة الذكية التي أعطاها صناع العمل لما وضعوا «المسرح» مخرجا للسجن فعندما تحاول البطلة أن تهرب من السجن بعدما قتلت لوحدها وبقوة مدهشة عددا لا يُحصى من عناصر العصابات وبعدما أنهكت الجميع في محاولتهم للإمساك بها، تأخذ أحدهم رهينة وتهدد بذبحه وتخرج من أحد الأبواب الفرعية الكثيرة فتجد نفسها قد دخلت إلى خشبة «مسرح» تمثل فيه مسرحية «هاملت» وتجد الممثل يقول «أكون أو لا أكون» وهي عبارة قد تبدو عابرة لكن يمكن أن تكون جزءا هاما من نسيج الفيلم ككل، فهي تعبر بقوة على قناعة البطلة ذاتها. يظل الممثل واقفا يؤدي دوره ويطلق عبارة تهكمية على الفتاة التي دخلت فجأة عليهم دون أن يفقده الأمر تركيزه. هكذا يتجاور «رائع» المسرح مع «مريع» السجن في هذا الفيلم ويتساوق الاثنان بفنية عالية.
ثم حين يتحول مشهد مسرحي تشارك فيه هي إلى حقيقة، فهي كبطلة لمسرحية تقول للبطل على الخشبة: الشيء الوحيد الذي أنا متأكدة منه هو أننا لا يمكننا الوجود في نفس المكان، لذا طالما أنك على قيد الحياة لا يمكنني العيش» ثم توجه المسدس إلى زوجها السابق الذي يجلس بين الجمهور لا إلى زوجها أو حبيبها على الخشبة، بحيث تصبح العبارة التي نطقت بها ذات وظيفتين دلاليتين، وظيفة إخبارية تمثيلية ربما، وجهتها ممثلة إلى ممثل آخر ضمن مسرحية، ووظيفة إخبارية ثانية وجهتها امرأة إلى زوجها السابق الذي ظلت بينهما مطاردة إلى أن تقتلها في المشاهد الأخيرة من الفيلم.
يتحول اقتحام المسرح مع رهينة وسلاح أبيض إلى جزء «تافه» من مشهد مسرحي، بل مشهد عابر يمكن أن يرى أو يسمع عنه كثيرا في المسرح/ الحياة - مسرح الحياة، ولا يمكن إلا التهكم عليه وإضحاك الجمهور عبر التهكم إذ لا يظهر الفيلم أنّ المتلقي أحس بأنّ الاقتحام كان واقعيا خارجا عن العرض لا جزءا منه مما يؤكد الاتجاه الذي ذهبنا إليه.
إذن فإنّ تحول المساجين المعاقبين إلى ممثلين يمارسون الكثير من الأنشطة بما فيها «المسرح»، وواحدة من أجنحة السجن عبارة عن قاعة مسرح كبيرة، وهناك جمهور، الحقيقة لا يقول الفيلم إن كان هذا الجمهور من المساجين أنفسهم أو من خارجهم، غير أن الأرجح أنه من غير المساجين، يقول لنا الفيلم أنّ السجن يمكن أن نهرب منه إلى المسرح، وبتوسيع أكبر للمجال، يصبح الهروب من الحياة - وهي سجن - يكون بممارسة «الفن»، الباليه، المطبخ، فإن لطّفنا عبارة «الهروب من الحياة» بعبارة أخرى فيمكننا أن نقول «تجاوز مشكلات الحياة الروتينية بممارسة الفن واستهلاكه». بعبارة أخرى وكما يحب بريشت أن يقول بعد صعود النازية: «لن يقولوا: كانت الأزمنة رديئة بل سيقولون: لماذا سكت الشعراء؟» لن يكون الواقع أكثر سوءا إلا بمقدار سكوت الفن عن محاورته لفهمه وتجاوزه، و«المرأة الشريرة» ينبه بفنية عالية أنّ المسرح يمكن أن يكون خلاصا للذات السجينة في خطاياها أو في هواجسها.
أليس هذا فهما راقيا للفن عندما يشارك في إعادة الحياة إلى نصابها بعدما انعرجت بأصحابها إلى الخطأ الموجب للعقاب؟ ثم أليس الفن وجها جميلا من وجوه الحياة المتعددة؟ إنه مثل حجر الماس كما يشتهي بعض النقاد أن يصفوا الإبداع الأدبي كلما سُلط عليه الضوء من جهة أعطى لمعانا وبريقا من جهة أخرى، في الفن، سينما أو مسرحا تلتمع الحياة هنا وهناك، في مفاصل كثيرة، لا نشاهد الحياة بفوتوغرافيتها التي يكفينا منها نسخة واحدة كما تقول فيرجينيا وولف، ولكن نشاهد تماسا معها واقتباسا وتشابها.
وإذا كنا نسمع من البعض محاولة لإثبات عدم الحاجة إلى المسرح فإنّ مثل هذه الأفلام تؤكد مرة أخرى أنّ المسرح يمكن أن يكون علاجا فعالا للكثير من المشكلات، لذلك يتم توسيع وجوده في المستشفيات والمراكز العلاجية (العلاج بالدراما) وفي السجون أيضا، وبهذا الفن –أي المسرح - يمكن فهم التشابك الكبير بين «الرائع» و«المريع» الذين لا يوجد أحدهما إلا والآخر موجود بوضوح أو بطرف خفي.


حسن الحلوجي