الدراما التركية ومسرح الامعقول «إفعل شئ يا مت» لعزيز نسين نموذجا

الدراما التركية ومسرح الامعقول  «إفعل شئ يا مت» لعزيز نسين نموذجا

العدد 804 صدر بتاريخ 23يناير2023

استطاع مسرح اللامعقول في حقبتي الستينيات والسبعينيات أن ينفذ تأثيره إلى المسرح التركي، ويعد مسرح «العبث» أو «اللامعقول» هو النشاز، وانعدام التناسق، وما يثير الضحك، بل وما يثير الأسى أيضاً، هو الخلو من الهدف والانفصام عن الأصل مما يجعل التصرف غير مبرر والكلمة جوفاء وكل هذا انعكس فى مسرح اللامعقول على الشكل، فجاء البناء الدرامي من ذات النسيج الذي غزل منه المضمون جاء، نشازا خاليا من الهدف، مثيرا للضحك وللبكاء و التناسق معدوم.
وقد حقق مسرح اللامعقول وجودًا له إلى جانب المسرح السياسي والملحمي؛ نتيجة لملاءمته للظروف السياسية التي كانت تمر بها تركيا، ولا سيما في فترة الستينيات. وحرصت المسارح التركية في تلك الفترة أن تقدم إلى المثقفين الأتراك أهم الأعمال المسرحية لرواد مسرح اللامعقول، فضلًا عن اتجاه بعض الكُتّاب الأتراك إلى الكتابة في هذا اللون المسرحي الذي حاد عن خصائص المسرح الكلاسي، في مقدمة هؤلاء الكُتاب الأتراك (مليح جودت آنداي)، و(عزيز نسين)، و(فرحان شنصوي). 
شهد المسرح التركي ركودًا خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين؛ نتيجة للظروف السياسية في تركيا، وعلى الرغم من ذلك استمر تأثير مسرح اللامعقول على المسرح التركي، وأولى كُتاب المسرح التركي أمثال: (گون گور ديلمن)، (سرمت چاغان)، و(عدالت آغا اوغلو )، و(محمد بايدور)، أهمية كبيرة للتجريب؛ سعيًا إلى خلق أنماط مسرحية جديدة،  بجانب النمط المسرحي الأرسطي التقليدي من خلال المزاوجة بين التراث المسرحي التركي المتمثل في مسرح لساحة، وبين أشكال الكتابة المسرحية العصرية كما جاء عند فرحان شنصوي في مسرحيته (وداعا غودو)، والتي تعد محاكاة ساخرة لمسرحية في انتظار غودو للأديب الأيرلندي صاموئيل بيكيت أفاد فرحان شنصوي من المسرح الشعبي التركي من خلال جعله الشخصية التراثية  قاووقلو هي الشخصية الرئيسة في مسرحية (وداعاً غودو). وقد عمد الكُتاب الأتراك المشار إليهم إلى كسر البناء المسرحي المتعارف عليه، وتبني خصائص مسرح اللامعقول من إبهام الزمان والمكان، وعدم منطقية الأحداث، والميل إلى التجريد.

مسرحية إفعل شئ يا مت
يصور الكاتب بيتاً يتهاوى بينما بطل المسرحية (مت) جالساً على الكرسي في الصالون غير آبه لشيء رغم صراخ والديه بأن يفعل شيئاً ليوقف الانهيار، وتتالى صيحات استغاثة الوالدين إلى الصالون لكن (مت) يرد ببرود بأنه يفعل شيئاً، إنه يهز ساقه ويبقى هكذا حتى نهاية المسرحية.
فقد جعل الكاتب شخصية مت تواجه المجهول بشكل رمزي، وهذا المجهول يتمثل في مجموعة من الناس لا تظهر علي خشبة المسرح، وإنما هم مجرد أصوات تزعجه وتقلقه وتسخر من ركوده وتطالبه بأن يخرج من ويتحرك ويقدم لهم الخلاص، والخلاص هنا دعوة لتغير الواقع الذي يعيشه المجتمع، فعليه أن يفعل شئاً وأن لا يستسلم للأمر الواقع وألا يظل مكفوف الأيدي. 
بقدوم الطبيب، لكى يجرى امتحانا وفحصا للذين يعيشون في هذه البيئة، وعلى ضوء ما يقدمونه من اعمال يمنحهم هذا الطبيب فرصة العيش، فالخادم التي لا تعرف سوى حياكة الجورب ستعيش عمرا قصيرا والجد يعمل جاهدا لكي يضع الظلمة الخارجية ضمن علبة .. ومت عاجز عن فعل أي شيء ولا يعرف ماذا يفعل حتى يستمر بالعيش فيفكر بسرقة اختراع الجد شو وينجح وياتي الطبيب ويسأله عن كيفية وضع الظلمة ضمن العلبة فيقف حائرا ولا يدرى ماذا عليه ان يقول فيعمد الى الخروج الى الحشد الموجود في الخارج رغم تحذيرات الام والاب والخادم والطبيب لانه سيضيع بينهم وانهم حثالة ولكن مت يضرب بهذه التحذيرات عرض الحائط ويخرج، لكنه يعود بعد قليل جريحا مضرجا بالدم. وينظر الى الطبيب ويسأله عن ما إذا كان الوقت المحدد للامتحان قد انتهى ويأخذ من يد الطبيب كأس السم لينهي حياته لكن الطبيب يوقفه.  
يكمن سبب إعطاء الطبيب حكمه علي مت بأنه سيعش طويلا لأنه قد قدم ما يؤهله للحياة إشارة واضحه إلي أن الحياة لا يمكن أن تستمر دون أن يفعل الانسان شئ، وتسمية شخصية الطبيب بهذا الاسم وإن كان تجريداً لأتباع النص للمدرسة الرمزية إلا أن هذه التسمية دقيقة للغاية فهي إشارة إلي المسؤل عن المحافظة عن حياة البشر، فالطبيب بشكل عام هو المسؤل عن علاج البشر إن نظرنا إلي الشخصية معتمدين علي التسمية، لكن مع إمعان النظر في الشخصية نجد أن ما يقوم به خلال النص مساوى لدور القاضي في المحكمة فهو يقيم ما يفعله البشر خلال حياتهم ويحكم عليهم إما بالموت أو بمدة محددة للحياة، هذا بالإضافة إلي إشارة الاستهتار التي تم التلميح لها في بداية االنص حين تواصل أهل مت مع مكتب الطبيب ليحضر ليقيم محاكمة مت ليتخلصوا من الاصوات المزعجة التي تحاصر المنزل وتطالب بمحاكمة مت، فالطبيب هنا يرمز إلي المسؤل والأصوات التي تزمجر في الظلال ترمز للشعب الغافل الذي يقر ويوافق علي كل ما يقال له من قبل الطبيب بصفته مسؤلاً، فالأشخاص القامعين في الظلام ينتظرون خروج من لم يحكم عليهم الطبيب بالحياة دون إذن من الطبيب ممتنعين عن تناول السم ليقوموا هم بتنفيذ الحكم بقتله، وما فعله مت بخروجه لهم وعودته مصاباً أنه قد أعطاهم الامل في الحياة أعطاهم قيمة يدافعون عنها ويحاولون الوصول لها وهي الخروج من الظلام إلي النور في إشارة إلي ان الكثير من الغافلين هم غافلين فقط لجهلم ليس أكثر، فبمجرد إن أشار لهم مت إلي طريق النور قرروا أن يتحررو من ظلمتهم. 
المسرحية تحث الانسان الى ان يكون ثوريا وذا فعالية في المجتمع الذي يعيش فيه، ولا يستسلم لما يظنه واقعاً فالواقع يمكن تغيره بالفعل المفيد. 
ان الحوار في مسرح عزيز نسين، تجد فيه الايجابيات، وتتوفرا فيه التقنية وتكاد تكون خالية من السلبيات .. حيث تجد الرشاقة والسرعة والجزالة في التعبير، فلا يصيبك الملل وانت تقرأ المسرحية عن طريق التعبير الصادق والمناسب .


1) د. عصام أبو العلا، محاضرة بعنوان المسرح التركي بالمعهد العالي للفنون المسرحية ، 2022


محمد أحمد كامل