«المبارزة» أبطال الأدب الكلاسيكي الروسي يبنون حياة بطل تشيخوف

 «المبارزة» أبطال الأدب الكلاسيكي الروسي يبنون حياة بطل تشيخوف

العدد 565 صدر بتاريخ 25يونيو2018

قُدّم على خشبة المسرح الخامس في مدينة أومسك، العرض الأول لمسرحية “المبارزة” المأخوذة عن رواية انطون تشيخوف التي تحمل الاسم ذاته، من اخراج ناديا قبيلات. 
وكانت المخرجة الشابة، ناديا قبيلات، قد جاءت إلى أومسك في شهر أيار الماضي لتشارك في مختبر مسرحي نظمه المسرح الخامس. قدمت آنذاك عرضا مختصرا انجزته في غضون اسبوع لمسرحية “المبارزة”، وكان حظي بإعجاب المشاهدين وإدارة المسرح، لهذا وقع الاختيار عليه، ودُعيت ناديا قبيلات ثانية إلى أومسك من قبل مدير المسرح، لإنجاز المسرحية.  
لم تلتزم المخرجة  بقصة الكاتب العظيم تشيخوف، بل قدمت رؤيتها الإخراجية المتميزة. فحسب قصة تشيحوف، يهرب البطل لايفسكي من بطرسبورغ، مع عشيقته ناديجدا فيودورفنا، التي تترك زوجها لأجله. لكن لايفسكي سرعان ما يملّ هذا الحب ولا يعود يرى فيه شيئا غير الكذب، وتصبح الحياة مع ناديجدا بالنسبة إليه مستحيلة. إنه يحلم بالهرب منها والعودة إلى بطرسبورغ، لكنه لا يستطيع ذلك، لأن عشيقته وحيدة وبلا أقارب، ولا تملك المال، ولا تجيد العمل.  ويزداد الأمر تعقيدا حينما يصل خبر وفاة زوجها، مما يعني ضرورة الزواج منها الآن، إذ ليس ثمة معيقات. 
لو التزمت المخرجة بهذه القصة لربما شعر الجمهور بالملل، فنحن في القرن الواحد والعشرين، ومن الضروري إنعاش قصص كهذه وإعادة صياغتها على نحو ينسجم مع فضاء تفكير المشاهد المعاصر. بيد أن ناديا قبيلات ذهبت إلى أبعد من ذلك، فقد صبغت القصة بألوان جديدة، حينما أدخلت إليها أشهر أبطال الأدب الكلاسيكي الروسي، وجعلت منهم مراقبين لما يحدث على الخشبة، وموجهين له.     
لقد أصبحنا في هذه الرؤية الإخراجية شهودا على اشتباك بطل تشيخوف ( لاييفسكي) بعلاقة مع أبطال آخرين محترفين يرسمون هذه العلاقة: أنيغين ( بطل رواية يفغيني انيغن ـ الكسندر بوشكين)، بيتشورين ( بطل رواية، بطل من هذا الزمان ـ ليرمنتوف ) وآنا كاريننا ( بطلة رواية آنا كاريننا ـ ليف تولستوي ) . إنها ثلاثية برّاقة، جريئة بل ووقحة. الواثقان من نفسيها أنيغن وبيتشورين، وآنا كاريننا المثيرة التي تظهر بجرأة ساقها الجميلة العارية ، بجوارب مزركشة. جميعهم في ملابس سوداء.  
جميعهم يراقبون باهتمام كيف يتكلم ويتصرف شبيههم لاييفسكي، يتنبئون باللحظات التي سيغضب فيها من عشيقته العنيدة، واللحظات التي سيمثل بها دور اللامبالي. وينصاع لهم لاييفسكي، ينفذ بطاعة ما يأمره به أبطال الأدب الكلاسيكي الروسي، إلى أن يتقمص على نحو كامل الشخصية التي تضعه في مصافهم. 
قد يبدو أن المخرجة اختارت أنيغن وبيتشورين لغاية المقاربة في مسألة المبارزة التي خاضها الإثنان وخرج كلاهما منها منتصرين.  لكن ذلك  مجرد جزء من الموضوع. ففي قصة تشيخوف يشير لاييفسكي في أحد المواقع، إلى أن اونيغن وبيتشورين هم  «آباءنا الفعليون والروحيون ». أما فيما يخص آنا كاريننا فالأمر يبدو أكثر سهولة. فقد كرر تشيخوف قصة كاريننا في قصة حب بطلته، وأضاف عليها قائلا: « المرأة الطبيعية لا تتعذب من الحب الصادق، بل أنها لا تعدّ نفسها خاطئة. إنها تتعذب من الكذب الذي يسود حياتها في  العائلة والمجتمع، ومن اللاوضوح واللاحترام الذي يقابلها به الرجل الذي احبته » . 
ثم أن لاييفسكي ذاته، وفي سياق استفزازه من عشيقته ناديجدا، يشير إلى آنا كاريننا. يتذكر تشيخوف  بطلة تولستوي من خلال بطله، التي لم تكن أذناها تعجبان زوجها. عن ذلك تتحدث آنا كاريننا ذاتها في مسرحية ناديا قبيلات. 
المخرجة لا تنسى أيضا في مسرحيتها، هاملت، الذي يقارن البطل لاييفسكي نفسه به، حينما يتحدث عن تردده. إن تشيخوف يرسم بطله لاييفسكي على نحو يبدو فيه غارقا في عجزه. أما لاييفسكي بطل ناديا قبيلات فهو موجه ومُقاد بدقة، من قبل آبائه الفعليين والروحيين. 
بالعموم: لقد اختارت المخرجة ناديا قبيلات طريقها إلى المشاهد الذي يتمتع بقدرات ذهنية، وثقافة واسعة، لتجعله مندهشا من هذه الفسيفساء الأدبية.
على الخشبة كل شيء يتحرك. الناس، الديكور، الضوء، الثريات، مع الإشارة إلى أن هذا التدفق المتواصل لحركة الأشياء لا يضعف الانتباه، بل تتحول فيه مونولوجات لاييفسكي إلى مجرد فواصل،  يقرأ فيها الممثل الذي يؤدي دور لاييفسكي، تشيخوف بنشوة الثمل، الامر الذي لا يعطي فرصة للمشاهد كي يتعب من الحجم الكبير للنص الذي يقرأه. بعد ذلك يعود الأبطال الكلاسيكيون لتوجيهه إلى النوتة المناسبة للسلوك الذي يتوجب عليه أن يسلكه، ويعود هو إلى مسرحية حياته، كأن شيئا لم يكن.   
 الخشبة لدى المخرجة حية. تظهر عليها طاولة طعام حيث يتناول لاييفسكي وعشيقته طعام افطارهما، في الوقت الذي يقف فيه ابطال الأدب ويأمرونه أن يُستفز من عشيقته. تضع المخرجة أيضا على الخشبة بار ( كجزء من مطعم ) ، حيث وضعت عليه كؤوس شاحبة لبطل آخر من المسرحية: صامويلنكا. وثمة ثريا في غاية الجمال،  التي وما إن تظهر على المسرح حتى تصدح موسيقى الفالس، وما تلبث الشخصيات في ملابسها السوداء ( ابطال الأدب الكلاسيكي ) مع شخصيات آخرى أن تنخرط في الرقص. وأحيانا تخفي المخرجة الأبطال في الخزانة، ثم يظهر على الخشبة قارب عليه نوارس سمينة. وينتهي ميزان الخشبة هذا بسقوط صاخب للنوارس في موازاة الشاطئ، مما يثير اهتمام الشخصيات للحظة، ثم يستأنفون قصتهم.  
أيضا لم تفلت المخرجة ناديا قبيلات فرصة إضحاك المشاهد. تنطفئ الإضاءة على الخشبة، وتُسدل الستائر  مما يوحي بوجود استراحة بين فصلين في المسرحية، ثم يتضح إنها مجرد حيلة، إذ يستمر الممثلون في التمثيل لكن بعد أن يجلسوا في الصف الأول في مقاعد القاعة مستمرين في لعبة التمثيل. ثم فجأة يصفقون لما يحدث على الخشبة.   
تستمر المبارزة التي تصل إلى ذروتها. يموت من كُتب له الموت، سواء بطلقة او بالسقوط تحت القطار. وهنا تلجأ المخرجة إلى حل جميل: لا تنهي المسرحية بتفسيرات ما أو بمونولوج طويل للبطل. بل تنهيها وحسب. يخرج الممثلون الذين يقودون أبطال قصة تشيخوف، كما لو أن هؤلاء الأبطال دمى، ولا يعود هناك حياة، أو من يبنون له هذه الحياة. 
بكل ثقة بوسعنا القول أن عمل ناديا قبيلات ناجح ، لاسيما وأنها هي أيضا من صمم الديكور والملابس والإضاءة والموسيقى. 
* ملاحظة: تم إدراج هذه المسرحية ضمن العروض المسرحية الدائمة في المسرح الخامس الحكومي في مدينة أومسك. وكما أن ناديا قبيلات قدمتها كمشرع لتخرجها من المعهد العالي للمسرح في مدنة موسكو،  قبل يومين وحصلت على علامة كاملة بتقدير امتياز.  
 


إيرينا تشيرنيشوفا