تلاقي المتنافرين.. في مسرح إبراهيم الحسيني

تلاقي المتنافرين..  في مسرح إبراهيم الحسيني

العدد 778 صدر بتاريخ 25يوليو2022

إبراهيم الحسيني هو أحد أهم كتاب المسرح المصري والعربي في العقدين الأخيرين، وهو كاتب يرغب دائما في التجديد والتجريب، كما أنه يميل كثيرا لكسر الإيهام عن المتلقي لمسرحه، وهو أيضا عاشق للتغيير والتنوع، فهو كلما توصل لطريقة في الكتابة المسرحية ونجح فيها صار حريصا على الخروج منها في أسرع وقت؛ من خلال البحث عن غيرها وغير غيرها؛ ومن ثم يبدو هذا الكاتب من الصعب تصنيفه إلا أن يقال عنه إنه دائم البحث عن التجديد والتجريب، وفي الوقت نفسه هو حريص حرصا شديدا على تواصل المتلقي مع كل تجاربه المسرحية التي يكتبها.
وسأكتفي في هذا المقال بالحديث عن ظاهرة غريبة في مسرح إبراهيم الحسيني؛ وهي تلاقي المتنافرين فيه، وأعني بالمتنافرين هنا الأشخاص الذين يصعب أو يستحيل حدوث تلاقي بينهم، ورغم ذلك يحدث هذا التلاقي بينهم في بعض مسرحيات إبراهيم الحسيني، ولا شك أن تلاقي المتنافرين لا يكون تلاقيا عاديا، كما أن النتائج التي تترتب على ذلك التلاقي لا تكون عادية هي أيضا، ومن الواضح أن هذا التلاقي غالبا ما يكون مثيرا، ومشحونا بالصراع والمفاجآت.
ومن صور هذا التلاقي بين المتنافرين ما نراه في مسرحية بيت على البحر من تلاقي صفوان الذي عمل مراقبا لجابر لمدة خمس وعشرين سنة، ولم يكن جابر يعرف بأمر صفوان ومراقبته له طوال هذه السنين، ولكنه فوجئ بهذا الشخص يأتيه في بيته الذي هو شاليه يطل على البحر، ويعرفه بنفسه وبالمهمة التي كان يقوم بها معه، ويقول له في ذلك الموقف: إنه قد أحيل على المعاش، ويرغب في أن يكون صديقا له، ويتعجب جابر من أمر هذا الرجل، ولا يتمهل في الرد عليه، فهو يرفض صداقته والتواصل المباشر معه.
ويبدو أن صفوان قد اكتشف بعد وصوله لسن المعاش أنه بلا أصدقاء حقيقيين، وشعر أن توقفه عن عمله جعل حياته بلا معنى، فأراد أن يكمل حياته بالتواصل المباشر مع بعض الأشخاص الذين كان يقوم بمراقبتهم، لا سيما من شعر بانجذابه نحوهم، ولكنه اكتشف أنه لا يمكنه التواصل المباشر معهم، وأن تلاقيه بهم ليس مرحبا به، ومن ثم رفض جابر صداقته في هذه المسرحية.
ويعد هذا الموقف بين جابر وصفوان هو أحد الخطوط الدرامية في هذه المسرحية، وهو خط درامي مثير، ويستحق أن تكتب عنه مسرحية وحده.
ونرى أيضا من صور التلاقي بين المتنافرين في مسرح إبراهيم الحسيني ذلك التلاقي الذي حدث بين سالييري الضعيف الموهبة في الموسيقى، وبين وموتسارت الموسيقي العبقري، وطوال أحداث هذه المسرحية القصيرة رأينا شعور سالييري بالحقد الشديد على موتسارت لعبقريته في التأليف الموسيقي، في حين كان سالييري موسيقي محدود الموهبة، ولم يكن سالييري رغم ثرائه وعلاقاته الكبيرة يهنأ بالعيش وهو يعرف أن موتسارت العبقري يتنفس على الأرض بقربه ويبدع ألحانا خالدة، فحاول أن يتخلص منه بأن تنكر في هيئة شخص آخر، وطلب إليه أن يؤلف لحنا جنائزيا لشخص كبير في السن، ويقترب من الموت، وكان سالييري يرغب في أن يمتص هذا اللحن روح موتسارت ويموت خلال تأليفه له، ولكنه ألفه وعانى خلال تأليفه له، وكاد بالفعل يموت خلال ذلك، ولكنه لم يمت؛ مما جعل سالييري يقوم بهذا التلاقي العجيب بينهما، فيأتي بشخصيته الحقيقية لموتسارت في بيته، ويعرض عليه فيه سالييري أن يعطيه نصف ثروته في مقابل أن ينسب موتسارت - الذي يعاني مع أسرته من الفقر الشديد - نصف ألحانه له، ورفض موتسارت هذا العرض، فما كان من سالييري إلا أن تخلص من حياته بالسم؛ لتضخم شعوره بالغيرة والحقد أمام موتسارت، ولشعوره بالدونية الشديدة أمام عبقريته الموسيقية.
والتلاقي الثالث الذي نراه بين المتنافرين في مسرح إبراهيم الحسيني هو الذي نراه في مسرحية الرجل والكلب بين منسي الإنسان الفقير البسيط الذي صار بلا ملامح بسبب ضغوط الحياة عليه، وبين صاحب العمل الثري الذي يعمل عنده منسي.
ولم يحدث هذا التلاقي بينهما بالرضا، بل حدث بالإكراه، فقد اختطف منسي ذلك الرجل لبيته البسيط، وقيده، وذكره بكل الإهانات التي تحملها منه ومن وأولاده، لا سيما حين قتل الكلب الذي كان يشاركه في حراسة شركة ذلك الرجل، وطلب إليه ذلك الرجل أن يقوم بدور ذلك الكلب، وكان يطلب إليه أن يلبس جلد كلب ويضحك أولاده في بيته.
وكان منسي قد أعد لقتل هذا الرجل في بيته بعد أن يقوم باختطافه إليه، وتحدث المواجهة المباشرة بينهما، ولكنه شعر بالعجز عن القيام بذلك رغم علمه بأن حرس ذلك الرجل في سبيلهم للوصول إلى منسي في بيته، كما أنه سمع نفير سيارات الشرطة يقترب من بيته.
ولعل منسي قد حقق ما كان يرغب فيه من النيل من هذا الرجل بذلك التلاقي وتلك المواجهة التي حدثت بالإكراه، وشعر أنه لا يمكنه أن يكون قاتلا.
وهكذا رأينا بعض صور من تلاقي المتنافرين في بعض مسرحيات إبراهيم الحسيني.

إبراهيم الحسيني عاشق التجديد والتجريب
في المسرح
أعتقد أن أبرز سمة يمكن ملاحظتها على مسرحيات إبراهيم الحسيني هي رغبته في التجديد المستمر، فهو كاتب يسعى دائما للتجديد في الشكل المسرحي، ولمعالجة القضايا الراهنة برؤية جديدة، والملاحظ أيضا أن إبراهيم الحسيني ما يلبث أن يصل لصياغة مسرحية فيها جوانب من التجديد حتى نراه بعد ذلك يتركها، ويبحث عن صياغات أخرى في تجاربه المسرحية التالية؛ وبسبب ذلك أصبح من الصعوبة بمكان تصنيف إبراهيم الحسيني ضمن تيار معين أو مذهب محدد في الكتابة المسرحية، وأيضا صار من الصعب كتابة دراسات نقدية تشمل كل أعمال إبراهيم الحسيني.
ويمكن هنا أن نطلق على إبراهيم الحسيني أنه كاتب المسرح الرحالة والمكتشف لكل جديد وبديع في عالم الكتابة المسرحية، فهو قد جدد كثيرا في الشكل في كثير من مسرحياته، فرأيناه يمزج بين المسرحية القصيرة والقصة القصيرة في مسرحية قضية إسكات الببغاوات، فذكر في مفتتح هذه المسرحية قصة قصيرة تتعلق بأحداث هذه المسرحية، ثم رأينا المؤلف يضع في مفتتح كل مشهد من مشاهد هذه المسرحية عبارة من تلك القصة لها علاقة وطيدة بكل مشهد من مشاهد هذه المسرحية.
ومن الواضح حرص إبراهيم الحسيني على وجود تفاعل كبير بينه وبين المتلقين لمسرحه؛ ولذلك نراه يميل لكسر الإيهام في كثير من مسرحياته، كما نرى ذلك في مسرحية عشرة بلدي على سبيل المثال.
وأيضا نراه يقوم بعمل صياغة التمثيل داخل التمثيل، كما نرى ذلك في مسرحية تغريبة آدم الليلكي، ونرى أيضا وجود تداخل بين بعض مسرحياته وتكنيك المونتاج السينمائي في عرض اللقطات السريعة المثيرة، كما نرى ذلك في مسرحية تغريبة آدم الليلكي ومسرحية المكحلة واليشمك.
ونرى إبراهيم الحسيني يكتب الفنتازيا في مسرحية قضية إسكات الببغاوات، ففي هذه المسرحية يجعل المؤلف لثلاثة ببغاوات تعيش في قفص حياة خاصة، وهم في حياتهم هذه يسخرون من نظرة البشر إليهم في كونهم يتسلون بمنظرهم.
وأيضا نرى إبراهيم الحسيني يكتب المسرحية التي يمكن توصيفها على أنها تدخل ضمن مسرح العبث ومسرح القسوة في وقت واحد، وذلك في مسرحية نظرية العدالة الفاسدة، وفي هذه المسرحية نرى رجلا متقدما في العمر يعيش في كوخ في وسط الصحراء، ويهوى صيد الغزلان وأكلها نيئة، وهو في الوقت نفسه يهوى صيد البشر الذين يرغبون في الراحة في كوخه خلال تجولهم في هذه الصحراء أو توقفهم فيها، ويختار منهم من يرى أنه فاسد في المجتمع، فيطبق عليه قانون عدالته الغريب؛ بتقطيع جسمه، وقتله بعد ذلك، ويشعر بمتعة كبيرة خلال قيامه بهذا العمل الجنوني.
وكذلك نرى إبراهيم الحسيني يكتب المسرحية التي تعتمد على تيار الوعي، كما نرى ذلك في مسرحية كتاب الخوف، فبطل هذه المسرحية ينساب أمامه تيار وعيه، ويستحضر له مواقف عديدة مرت عليه في حياته، وكان يستشعر الخوف فيها، ويتم تجسيد هذه المواقف أمامه، ونشعر أنها تحاصره، وتجعله سجينا لها، وعاجزا عن أن يكون له خيار بعيدا عنها.
وأيضا نرى إبراهيم الحسيني يكتب المسرحية التي تعد أقرب لمسرحيات المعجزات التي كانت معروفة في أوروبا في العصور الوسطى، ونرى ذلك في مسرحية باب وصل، وفي هذه المسرحية لا تسير الأحداث وفق الواقع والمنطق، ولكنها تسير كما تحدث المعجزات والكرامات، فالمرأة المريضة بمرض خطير في هذه المسرحية واستعصى على بعض الأطباء علاجها لم يبق أمامها إلا أن يكشف عليها الطبيب المشهور شاهين، ويحاول علاجها، ولكن أنى لامرأة فقيرة بسيطة لها ذلك؟! وتحدث أمور أشبه بالكرامات، فتسقط الطائرة التي كانت تحمل الدكتور شاهين - لعلاج أحد الوجهاء - في القرية التي تعيش فيها هذه المرأة، ويخرج حيّا منها، ويذهب لبيت هذه المرأة، وتعرف من حديثها معه شخصيته، فتحمد الله على أن حقق لها هذه الأمنية، أو بمعنى آخر الكرامة.
وهذه نظرة سريعة على بعض مسرحيات إبراهيم الحسيني التي رأينا فيها محاولات مستمرة للتجديد والتجريب والتنوع، وأعتقد أن الموضوع في حاجة لدراسة مطولة.


علي خليفة