المسرحانية والأداء.. تقديم الذات

المسرحانية والأداء.. تقديم الذات

العدد 526 صدر بتاريخ 25سبتمبر2017

 اعتمادا علي اختيارنا للخبراء , يمكن تقسيم المسرح اليوم الي تيارين مختلفين , سوف أؤكد عليهما هنا بالإشارة إلي ملحوظة ( آنيت مايكلسون) علي فنون الأداء , باعتبارها ملائمة لاهتمامي بالمسرح . ففي صيغ الأداء , هناك دافعين أساسيين يشكلان ويحركان التطورات الأساسية . الدافع الأول , ينشأ في داخل الامتدادات المثالية للعقائد الدينية , اذ يرتبط بخلق الأساطير في استلهاماته , علاوة علي أنه انتقائي ومتجاوز من خلال أسلوبه المتعدد الأشكال والذي ينشئ أثرا متماسكا لذلك الماضي – النزعة التعبيرية . ولعل أبرز المساهمين فيه , في مجال المسرح ( جيرزي جروتوفسكي ) و( أنطونين آرتو) , وفي مجال السينما ( مورنو) و(براكاج) , وفي فن الرقص ( فيجمان ) و ( جراهام) . والدافع الثاني , علماني في ارتباطه بفنون الأداء , ويبدأ مع التكعيبية والبنائبة والصيغ التحليلية , وأبزر المتحدثين باسمه في مجال المسرح ( فيسفولد ماييرهولد) و( بريخت ) , وفي السينما ( سيرجي ايزنشتاين ) و ( سنو) وفي الرقص ( كانينجهام ) و ( راينر) .
 وفضلا عن سؤال هذا التصنيف واعتباراته غير المقنعة , فانه يقدم رجال مسرح مثل (جوردون كريج) و( أدولف آبيا ) , وللممارسات المسرحية المتنوعة مثل مسرح (أوجستو بوال) و ( أريان منوشكين ) و (مابو ماينز) وغيرهم . ولذلك يجب أن استخدم هذا المسرح لتفسير ظاهرة الأداء كما تظهر في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية خلال العشرين سنة الماضية .
     وبانتقاله من الممارسات السيريالية في عشرينيات القرن الماضي , مثل الممارسات التي قدمتها ( روزالي جولدبرج) في كتابها “ الأداء”, فقد حظي الأداء بشهرة واسعة في الخمسينيات,ولاسيما في أوج تجارب ( ألآن كابرو) و (جون كيج).و  يبدو أن الأداء والموسيقي والرقص والعمارة والنحت , وهي الأنواع المفهومة باعتبارها أشكالا فنية مرتبطة بممارسات دلالية أخرى متنوعة , متطابقون في كل الاعتبارات مع المسرح الجديد الذي استلهمه ( آرتو) : مسرح القسوة والعنف , ومسرح الجسد ودوافعه , ومسرح الإزاحة والتمزيق , انه المسرح غير السردي , غير التمثيلي . وأود هنا أن أحلل تجارب هذا النوع الجديد لتوضيح سماته الأساسية , علاوة علي الطريقة التي يعمل بها . وهدفي في النهاية هو توضيح ما الذي  يمكن أن تقوله لنا مثل هذه التجارب التي تنتمي حدود المسرح الفاصلة , وعلاقتها بالممثل وخشبة المسرح .
     من بين سمات الأداء الكثيرة , سوف أوضح ثلاث سمات , فضلا عن تعددية الممارسات والصيغ التي تنشئ الأصول اللازمة لكل أداء . أولا , معالجة أي أداء يعرض جسم المؤدي – وهو عنصر أساسي لا مفر منه لأي فعل أدائي . ثانيا , معالجة الفراغ الذي يتركه المؤدي ثم يشكله ويوجد فيه – في أصغر أركانه . وفي النهاية , العلاقة التي ينشئها الأداء بين الفنان والمتلقي , وبين المتلقي والعمل الفني , وبين العمل الفني والفنان .

  (أ) معالجة الجسم  :
 الأداء يعني الانجاز المادي ( البدني) . ولذلك يعمل المؤدي بجسمه بنفس الطريقة التي يعمل بها الرسام مع اللوحة . فهو يستكشفه ويعالجه ويرسمه ويحجبه ويوضحه , ويجمده ويحركه ويقطعه ويعزله ويتكلم معه وكأنه آخر غريب عنه . انه جسم متلون ومتغير , تظهر علي سطحه رغبات الذات ومكبوتاتها . وهذه هي تجربة المخرجين ( هيرمان نيتش) و( فيتو أكونشي ) و ( اليزابيث تشيتي) . الأداء هنا يرفض كل أنواع الإيهام ولاسيما الإيهام المسرحي الذي ينشأ من كبح عناصر الجسم الأساسية , ويحاول أن يلفت الانتباه الى صورة محددة للجسم – الوجه والتمثيل ( أو المحاكاة الإيمائية) والصوت – والذين يمكن أن يفلتوا عادة من الملاحظة. ولهذا الغرض ينتقل الي وسائط متنوعة – عدسات التصوير المقربة والآت التصوير الثابتة وكاميرات السينما وشاشات الفيديو والتلفاز –  تبدو مثل المجاهر لتضخيم الشيء الصغير وتركيز انتباه المشاهدين علي مساحات بدنية معينة متشكلة عشوائيا برغبة المؤدي ومتحولة الي مساحات متخيلة , وتؤسس للمنطقة التي تتدفق فيها عواطفه وتمر من تهويماته .وربما تكون هذه المساحات أجزاء من جسم المؤدي يتم تضخيمها الي ما لا نهاية ( أجزاء من البشرة واليد والرأس... الخ) . ويمكن أن تكون مساحات طبيعية محددة عشوائيا لدرجة أن المؤدي يختار أن يحجبها ويختزلها الي أبعاد أشياء يمكن التلاعب بها .
     ويظهر الجسم : متشظي في أجزاء , مع أنه جسم واحد مكتمل , جسم يفهّم ويقدّم باعتباره مكانا للرغبة والازاحة والتلوّن , جسم يفهمه الأداء باعتباره مكبوتا ويحاول أن يتحرر – حتى ولو علي حسب المزيد من العنف . تأمل مثلا المشاهد المستفزة التي يقدمها ( أكونشي) علي خشبة المسرح بمختلف أجزاء الجسم . مثل هذا الظهور الذي يطفو علي السطح يعنف من خلال المؤدي يقدم لرؤية آخرين ربما يندمجون في تحقق جماعي . وبمجرد إتمام اكتشاف الجسم والذات تظهر مكبوتاتنا للنور وتتشكل وتتمثل وتتثبت تحت نظر المتلقي الذي يقوم بتعديلها لتصبح شكلا من المعلومات . وهذا يجعل المؤدي حرا أن يستمر في أداءات وأفعال جديدة .
     لهذا تبدو بعض العروض غير محتملة , مثل عروض ( هيرمان نيتش) التي لا تمارس العنف تجاه المؤدي فقط ( وفي هذه الحالة يكون متفقا عليه) , بل تمارسه أيضا تجاه المتلقي الذي يتم التحرش به بواسطة صور عنيفة . وفي مثل هذه العروض يشعر المتلقي أنه يشارك في طقس يمزج كل الانتهاكات – المادية والبدنية – ويقدمها علي خشبة المسرح , طقس يعيد المتلقي الي حدود الذات الكلية , طقس يبدأ من محاولات المؤدي الرمزية لاكتشاف الوجه الخفي لكل ما يدمجه في ذات موحدة : بمعني آخر تطارده الدلالات أو التشكيل بالجسم . ومع ذلك , لا تعد هذه الحالات عودة الي جسم الأم المقسم الصامت الذي تراه ( جوليا كريستيفا) في مسرح (أرتو) , بل انه الزحف الي الأمام تجاه تفاني الذات , وليس انفجارها أو انتشارها أو جنونها – وهي طرق أخري للعودة إلي الأصل – ولكن في صورة فانية . فهذه العروض ظاهرة تعمل بدافع الموت : وهذه ليست مقارنة تصادفية , بل انها تقوم علي ممارسة واعية ومتفق عليها بشكل قصدي متعمد : تجربة الجسم الجريح الممزق والمبتور حتى لو كان ذلك بكاميرا سينمائية ( مثل عرض (اليزابيث تشيتي) “ نموذج مهيمنDem. Model “ ) انه جسم ينتمي الي نزعة الإيذاء .
(ب) معالجة الفراغ :
     توجد هوية وظيفية بين الجسم والفراغ  تقود المؤدي الي اجتياز هذه الأماكن دون توقف . وبتشكيل الفراغات الفعلية أو المتخيلة ( كما في حالة عرض “ شرائط تسجيل حمراء “ للمخرج فيتو أكونشي ) , لا يستقر المؤدي في أي من هذه الأماكن الفعلية والمتخيلة بشكل متزامن , بل يقطعها ويكتشفها ويقيسها , ويؤثر في الإزاحات التنويعات الدقيقة بداخلها , لأنه لا يشغلها ولا هي تحدده : يتلاعب المؤدي بمساحة الأداء وكأنها شيء , فيحولها إلي آلة يبني عليها الأعضاء. ويصبح الفراغ وجودي مثل الجسم , لدرجة أنه  يغيب ( أو يتوقف عن الوجود) كمكان أو مشهد, لم يعد يحيط بالأداء بل يحتويه , وبذلك يصبح  مثل الجسم جزءا من الأداء . وتفسر هذه الظاهرة فكرة أن الأداء يحدث داخل فراغ يرتبط به لشكل لا ينفصم .
     داخل هذا الفراغ الذي أصبح مكانا لاكتشاف الذات , يبدو المؤدي وكأنه يعيش في حالة الحركة البطيئة . فالزمن الممتد الذي يتلاشى يشبه الإيماءات  المتكررة المتضخمة المثيرة للسخط ( مثل الحركة البطيئة غير المحتملة في بعض تجارب “ مايكل سنو” ) : الإيماءات التي تتضاعف وتتكرر إلى ما لا نهاية ( مثل عرض “ شرائط تسجيل حمراء ) وهي إيماءات مقسمة باستخدام الكاميرا التي تسجلها وتنقلها وكأنها تنفذ علي خشبة المسرح أمام المتلقين . وهنا تصبح فكرة الاختلاف عند ( دريدا ) مفهومة . وعندئذ لا يوجد ماضي او مستقبل , بل حاضر دائم – في فورية الأشياء وفي الحدث الذي يدور . وتظهر هذه الإيماءات كمنتج نهائي من خلال الحركة : تكشف الإيماءات أعمق آثارها التي ينفذها المؤدي لكي يكتشف ما ورائها ( هذه العملية قابلة للمقارنة مع الكاميرا التي يستخدمها ( سنو) والتي تصور حاملها ) . ويوضح الأداء هذه الإيماءة مرارا وتكرارا الي حد تشبع المكان والزمان والتمثيل بها – وأحيانا الي حد الغثيان. بحيث لا يبقي شيء سوى حركة الايماءة  ويختفي المعني تماما .
     وإذا كان الأداء هو غياب المعنى , فمن الممكن تدعيم هذه المقولة من جانب أي انسان يخرج  من قاعة المسرح ( نحتاج أن نتأمل فقط دهشة المشاهدين وغضبهم من العرض الأول للمسرح الحي , أو من عروض روبرت ويلسون أو عروض ريتشارد فورمان) . ومع ذلك , اذا كان للتجربة أي معنى , فان تجربة الأداء هي التي لها هذا المعنى . فالأداء لا يهدف الي معنى , بل انه يصنع المعنى , لدرجة أنه يعمل في وجود تلك المشتركات الغائمة والغامضة التي تنبعث منها الذات . الأداء يسخر هذه الذات باعتبارها ذاتا يجري إنشاؤها , وباعتبارها ذاتا اجتماعية يعمل علي توضيحها وإزاحتها . الأداء هو موت الذات , وقد تحدثنا عن دافع الموت الكائن في الأداء , والذي يقدم بشكل واع في المسرحية وعلي خشبة المسرح في مجموعة من التكرارات المقصودة والمقبولة . ويكسر دافع الموت هذا الجسم ويوظفه كأجزاء صغيرة لأشياء كثيرة , تظهر جديدة في نهاية الأداء عندما يتم تثبيته علي شاشة الفيديو , حيث تتجمد الذات وتموت . وهناك يواجه الأداء التمثيل مرة أخرى , وقد كان يريد الهروب منه بأي ثمن , ويؤكد علي تحقيق انجازه وغايته .
(ج) في الحقيقة , لم يعد ارتباط الفنان بأدائه ارتباط الممثل بدوره , حتى لو كان هذا الدور حقيقيا , كما أراده المسرح الحي . فعندما يرفض الممثل أن يكون بطلا تراجيديا فانه لا يقدم إلا ذاته . وبذلك يكون مصدر التقديم والإزاحة . وبمجرد أن يصبح نقطة المرور لتدفق الطاقة – الإيمائية والصوتية والغريزية – التي تعترضه دون أن يقف ساكنا في معني ثابت أو في تمثيل, يقوم بالأداء عند وضع التدفق هذا , ويوقف الشبكات . فالإيماءات التي يؤديها تقوده إلي لاشيء ان لم تصل الي تدفق الطاقة التي يضعها في الحركة . تؤكد هذه الاستجابة , مرة أخري , أن الأداء بلا معني ولا يهدف إلي معني , بل يحاول بدلا من ذلك أن يوضح أماكن المرور , أو كما يقول ( فورمان ) الإيقاعات ( منحنى الإيماءة والجسم والكاميرا والرؤية .. الخ) . وبذلك تحاول أن توقظ جسم المؤدي والمتلقي بدلا من فقدان الاحساس الذي يطارده .
  . يفسر هذا الأسلوب الغفلة الانتقائية التي تحدث عنها ( ريتشارد شيشنر ) في كتابه “دراسات حول الأداء “ . فليس تورط المؤدي بأكثر من تورط المتلقي , فهو يحافظ علي حقوق المشاهدة, فهو العين والكاميرا التي تصور وتثبت الصورة وتنتجها , وهو الذي يؤدي الي التطابقات والامتدادات في الفراغ وعلي الجسم الذي يصبح أدوات اكتشافه .
 لو حكمنا من منظور كل ما قيل عن الأداء , فسوف يبدو من الصعب أن نؤكد العلاقة بين المسرح والأداء . وإذا التفتنا إلي مقولات مؤدين بعينهم , والتي ترى أنها علاقة استبعاد . اذ يري ( مايكل فرايد ) أن المسرح والمسرحانية في حالة صراع اليوم مع الفن في حد ذاته , وليس مع فن بعينه ( الرسم أو النحت الحداثي ) – الي درجة أنه يمكن وصف الفنون بأنها حداثية , وذات حساسية حداثية . ويقدم ( فرايد ) برهانه كالتالي :
    • نجاح أو حتي نجاة الفنون يعتمد علي قدرتها علي هزيمة المسرح .
    • الفن يحط من قدر المسرح وهو يتناوله .
 كيف يمكن تفسير هذه المقولة , فضلا عن تبريرها . إذا اتفقنا مع ( دريدا) بأن المسرح لا يمكن أن يفلت من التمثيل الذي يفر منه ويستبعده ويهدمه , واذا وافقنا أيضا أن المسرح لا يمكن أن يفلت من السردية ( تؤكد كل التجارب الحالية ذلك , ربما فيما عدا تجارب روبرت ويلسون وريتشارد فورمان التي تنتمي إلي الأداء بالفعل ) , عندئذ يبدو واضحا أن المسرح والفن غير متوافقين . ففي المسرح , كل شكل يولد محكوم عليه بالفناء , كما يقول ( بيتر بروك) في كتابه “ المساحة الخالية “ . ولكن , كما أوضحت سابقا , الأداء ليس نزعة شكلية , لأنه يرفض الشكل الذي هو الثبات من أجل التقطع والانزلاق . انه يسعي إلى ما يدعو إليه ( كابرو) فعلا في “مسرح الوقائع HAPPENINGS” منذ ثلاثين سنة : يجب أن يكون الخط الفاصل بين الفن والحياة مائعا وغير محدد بأقصي ما يمكن , ويجب أن يظل الزمان والمكان متغيرين ومتقطعين, لأن في قدرتنا علي أن نكون ظواهر مفتوحة تفسح الطريق للمتغير وغير المتوقع , تحدد أن الأداء مرة واحدة فقط ( انك لن تشاهد الأداء مرتين) . فهل نحن بعيدون عن ما دافع عنه (أرتو) في المسرح , ومن أين جاء مطلب المسرح الحي ومسرح ( جروتوفسكي) أن يكون (أرتو) نموذجهما لتجديد المسرح : خشبة المسرح كمكان حي واللعب كتجربة لمرة واحدة.
     تحاول الطريقة التي يتم بها بناء الفراغ في المسرح , في التجارب الحالية ( المسرح التجريبي والمسرح البديل – وهنا يمكن أن نتأمل تجارب المسرح الحي الأولي , أو تجارب بوب ويلسون الأحدث ) أن تجعل اللعب المتخيل ملموسا وواضحا , وهي توجه الذوات ( وليس ذاتا واحدة ) علي خشبة المسرح . فالعمليات التي تبنى بها ظاهرة اللعب , علاوة علي تأسيسه – اللعب الشامل المزدوج والمتمايز اعتمادا علي المخرج والأهداف المحددة – لذلك يتضح الفصل بين الممثل والشخصية ( وهو الموضوع الذي عالجه “ بيرانديللو “ ببراعة) , ازدواج الممثل والشخصية , وازدواج المؤلف والمخرج ( مثل أريان منوشكين) , وأخيرا ازدواج المخرج والممثل ( مثل “ شيشنر “ في عرض “ ملابس” ) . وهذه التغيرات بالنسبة للفرقة المسرحية تشكل انعكاسا لأماكن مختلفة تمثل مختلف أوضاع الرغبة لتأكيد الذات أثناء العمل .
     تعرض الذات نفسها علي خشبة المسرح في داخل أشياء ( مثل الشخصيات في المسرح الكلاسيكي , وفي شكل أجزاء من أشياء في الأداء ) يمكن أن تبتكرها وتضاعفها أو تستبعدها إن دعت الضرورة . وتؤسس هذه الأشياء المبنية والتي هي نتاج خيالها وأوضاع لرغباتها أشياء كثيرة أخري يمكن أن تستخدمها أو تسئ استخدامها وفقا لحاجته ( كما في حالة استخدام كاميرات السينما وشاشات الفيديو في كثير من العروض . وفي الأداء , من الناحية الأخرى , تنتقل الذات لتكشف المتخيل الذي يتحول إلي صورة ثابتة , مثل الشخصيات في المسرح الكلاسيكي , أو في أي شكل مسرحي ثابت . لأن المعني  في الأداء هو الذات وليس الشخصية (مثل مسرح ويلسون وفورمان) . بالطبع , يحتاج الأساس التقليدي لفن الممثل الذي استلهمه (ستانسلافسكي) أن يعيش الممثل شخصيته من الداخل ويخفي ثنائية “ الذات/ الشخصية “ الموجودة داخله أثناء وجوده علي خشبة المسرح . وقد رفض ( بريخت ) الإيهام عندما دعا الممثل الى الانفصال عن الدور الذي يلعبه , ودعا المتلقي الي الانفصال عن خشبة المسرح . فكانت استجابة المؤدي أصيلة , وبذلك تمكن من حل هذا المأزق بالتبرؤ من الشخصية , ووضع الفنان ذاته علي خشبة المسرح . فاتخذ الفنان مكانة الذات المؤدية لذاتها , مع أنها ذات مجهولة تقدم نفسها علي خشبة المسرح . ومنذ تلك اللحظة تخلص الأداء – الذي لا يحكي شيئا ولا يقلد أحد– من التمثيل والايهام . فالأداء يحدث بدون الماضي أو المستقبل , وينقل خشبة المسرح الي الحدث الذي سوف تنبثق منه الذات . ومادام الأداء يرفض السردية والتمثيل بهذه الطريقة , فانه يرفض أيضا الترتيب الرمزي المهيمن علي المسرح , ويفرض شروط المسرحانية بماهي كذلك. فالمسرحانية مصنوعة من هذا اللعب اللامتناهي والإزاحة المستمرة لمكان الرغبة , بمعنى آخر وضع الذات في التفاعل داخل فراغ متخيل .
     عندما نصل الي وضع الذات بيدو لنا أن المسرح والأداء حصريين . فالمسرح بالطبع لا يستغني عن الذات ( الافتراضية ) ,ا اذ قدمت تدريبات ( مييرهولد) و( جروتوفسكي )    الذات الموحدة علي خشبة المسرح . والاداء رغم أنه يبدأ بذات افتراضية يقدم تدفقات عاطفية ومنطقة رمزية تحتية infrasymbolic  , تقدمها الذات بشكل عرضي . لذلك يظهر الأداء باعتباره عملية أولية تخلو من الغائية , ولا تصاحبها عمليات ثانوية , لأنه ليس لديه تمثيل يمكن أن يقدمه . ولذلك يحدد الأداء هامش المسرح , وعلاماته وحواشيه , كما يقول ( شيشنر ) .   
     وبالمقارنة الى الأداء , لا يمتنع المسرح عن إنشاء وإقرار وبناء وتقديم وجهات النظر .. وجهة نظر المخرج , ووجهة نظر المؤلف تجاه الحدث , ووجهة نظر الممثل تجاه خشبة المسرح ووجهة نظر المتلقي تجاه الممثل . المسرح هو تعدد وجهات النظر والرؤي , انه كثافة العلامات ( كما يقول  بارث) , وتأسيس لتعددية التناغم القطبي الغائبة عن الأداء كفن مستقل .
     لذلك يمكننا أن نفهم أن المسرحانية مكونة من جزئين مختلفين : أحدهما يبرز الأداء ويتشكل من وقائع المتخيل , والآخر يبرز المسرحي ويتشكل من بنيات رمزية . يتأسس الأول داخل الذات ويسمح لتدفقات رغبته أن تتكلم , وينحت الثاني الذات في الشفرات المسرحية , بمعني أنه ينحتها في الرمزي . وتنشأ المسرحانية من اللعب بين هاتين الحقيقتين , فهي مسرحانية مرتبطة بالضرورة بالذات الراغبة , وهذه بلا شك حقيقة تفسر صعوبة تعريفنا لها . فالمسرحانية في ذاتها مستحيلة , لأنها من أجل شخص ( متلقي) , بمعني أنها من أجل آخر .
     ويمكن أن تري البنيات المتزامنة المتفاعلة في الأداء باعتبار أنها تؤسس , في الواقع , نزعة تحت مسرحانية  Infratheatricalعديمة المؤلف والمخرج والممثل . ويبدو أن الأداء يحاول أن يقدم شيئا حدث قبل تمثيل الذات ( حتى لو كان يفعل ذلك بواسطة ذات متأسسة فعلا) بنفس طريقة اهتمامه بالحدث أكثر من اهتمامه بالعرض المكتمل . فما يحدث علي خشبة المسرح يتضمن تدفقات وعلامات ودوال لا يتم ترتيبها في شفرة ( وكذلك تعدد الوسائط واللغات الدلالية التي يستخدمها الأداء , مثل بعض أجزاء من التمثيل والسرد والمعنى ) ولا بنية تسمح بوجود المعنى . الأداء يمكن أن يرى باعتباره آلة تعمل من خلال تسلسل الدوال . فأجزاء الأجسام ( مثل التمزيق والنزوع الي الأذى ) , وأجزاء المعنى والتمثيل والتدفقات الغريزية , وأجزاء الأشياء تجتمع معا في شكل تسلسلات بدون سرد ( مثل عرض أكونشي “ شرائط تسجيل حمراء” والأماكن الممزقة التي يتحرك فيها : أجزاء المباني والغرف والحوائط) .
     ولا ريب أن غياب السرد ( المستمر ) هو أحد سمات الأداء . وإذا استسلم الممثل إلي إغراء السرد , فانه يفعل ذلك بشكل متقطع , وبشكل ساخر أحيانا , وكأنه يستشهد بشيء , أو لكي يكشف عملياته الداخلية . ويؤدي غياب السرد الي سخط المتلقي , لأنه يبعده عن ممارسة المسرحانية . ولمعايشة الأداء , يجب علينا أن نكون حاضرين ونشارك فيه أنيا بينما نظل في نفس الوقت خارجه . فالأداء لا يتحدث فقط الي العقل , بل يتحدث أيضا الي الحواس ( مثل تجارب أنجيلا ريتشي لوتشي وتجارب جياكيان مع حاسة الشم ) . إن الأداء يتحدث من ذات الى ذات . انه لا يحاول أن يحكي ( مثل المسرح) بل يستفز بالأحرى العلاقات الحسية التزامنية بين الذوات ( مثل عرض روبرت ويلسون “ حياة وعصر جوزيف ستالين” ) .
-------------------------------------
•جوزيت فيرال تعمل استاذا للدراما بجامعة كوبيك – مونتريال – كندا       
     

 


ترجمة أحمد عبد الفتاح