طلاب السنة الأولى مع أستاذهم زكي طليمات آخر العام
العدد 660 صدر بتاريخ 20أبريل2020
وصلنا إلى الامتحان النهائي لأول سنة دراسية في تاريخ معهد فن التمثيل، وعُقد الامتحان في أربعة أيام من شهر مايو 1931، وقررت إدارة المعهد فصل الطلاب الراسبين؛ لأنهم لا يستحقون البقاء في المعهد، بينما يوجد كثير ممن يرغبون في الالتحاق به، لا سيما الطلاب المستمعين. وتشكلت لجنة الامتحان من: محمد بك العشماوي رئيساً، الأستاذ خليل مطران، الدكتور طه حسين، المسيو شارل تراس مدير لجنة الفنون الجميلة، الأستاذ جورج أبيض، الأستاذ زكي طليمات أعضاءً. أما الطلاب فهم 27 طالباً وطالبة، تقدموا بالفعل للامتحان، وهم: إبراهيم عز الدين، إحسان الشريعي، أحمد البدوي، أحمد النحاس، أحمد شاكر، إسماعيل نظمي، حسني عبد الله، حسين محمود، رفيعة الشال، روحية خالد، زوزو حمدي الحكيم، صالح إبراهيم، طلعت عزمي، عبد الحميد الطلياوي، عبد السلام النابلسي، عبد الفتاح حسن، عبد الفتاح عزو، عزت القرماني، فاطمة محمد محمد، فهمي حنا، محمد الغزاوي، محمد تقي شمس الدين، محمد عبد القدوس، منيرة أحمد كامل، نعمات بولس، نفيسة سعيد، يوسف فهمي حلمي.
نتيجة الامتحان النهائي
نشرت مجلة الصباح، كافة التفاصيل الخاصة بنتائج الامتحان، ومنها الدرجة الأدنى والأعلى لكل مقرر دراسي، وهي: الإلقاء 60 – 40، تاريخ الأدب التمثيلي والعام 30 – 15، حرفية المسرح عملي وشفوي 30 – 15، السولفيج 15 – 6. أما المقررات التي لها تقدير عملي، وليس لها اختبار تحريري، فهي: اللغة العربية، والرقص التوقيعي. وبقية المقررات، يضع تقديراتها مدرسو هذه المقررات، وهي: اللغة الفرنسية، والألعاب الرياضية، وحمل السلاح. وبالنسبة لرسوب الطالب، فقد أوضحت المجلة، قائلة: “وسقوط الطالب أو الطالبة في بعض أو كل النمر، لا يقرر فصله!! وإنما لا بد للفصل من موافقة لجنة الامتحان، وتصديق مجلس الإدارة؛ بمعنى أن الطالب الذي يسقط في مادة من المواد الأساسية أو أكثر، يعرض أمره على لجنة الامتحان، ولهذه اللجنة أن تقرر نقله أو فصله، ثم تعرض الأمر على مجلس الإدارة، وللمجلس أن يصدق على قرارها أو يلغيه”.
ثم نشرت المجلة جدولاً به النتيجة كاملة، وبكافة تفاصيلها، مثل: أسماء المقررات، ودرجاتها التفصيلية، وتقدير المواد .. إلخ. لذلك سألخصه، وأذكر فقط اسم الطالب، ودرجة المجموع المقررات، أي المجموع الكلي من 135، مع الإشارة إلى حالات الرسوب أي الفصل: إحسان الشريعي 76 درجة وتفصل، رفيعة الشال 101 درجة، روحية خالد 104 درجة، زوزو حمدي الحكيم 108، فاطمة محمد محمد 91، منيرة أحمد هيكل 100، نعمات بولس 63 درجة وتفصل، نفيسة سعيد 54 تفصل، إبراهيم عز الدين 108، أحمد البدوي 105، أحمد النحاس 111، إسماعيل نظمي 103، حسين محمود 97، صالح إبراهيم 95، عبد الحميد الطلياوي غائب ويفصل، عبد السلام النابلسي 86، عبد الفتاح حسن 100، عبد الفتاح عزو 102، فهمي حنا 84 درجة ويفصل، محمد الغزاوي 108، أحمد شاكر 110، محمد تقي شمس الدين 99، حسني عبد الله غائب ويفصل، طلعت عزمي 93، محمد عبد القدوس 107، عزت القرماني 92، يوسف فهمي حلمي 116.
وبناء على ذلك، نجد أن الطالبات الناجحات خمس، وهذا ترتيبهن وفقاً للأعلى درجة: زوزو حمدي الحكيم، روحية محمد علي خالد، رفيعة سيد أحمد الشال، منيرة أحمد هيكل، فاطمة محمد محمد. أما الطلاب الناجحون وفقاً للترتيب الأعلى درجة: يوسف فهمى حلمي، أحمد فرج النحاس، محمد أحمد شاكر، إبراهيم عز الدين، محمد أحمد الغزاوي، محمد عبد القدوس، أحمد البدوي، إسماعيل نظمي، عبد الفتاح عزو، عبد الفتاح حسن، محمد تقى شمس الدين، حسين محمود، صالح إبراهيم، محمد طلعت عزمي، محمد عزت القرماني، عبد السلام النابلسي.
طلاب البعثة
بعد ظهور النتائج، وتحديد أسماء الأوائل، أكدت وزارة المعارف العمومية على مقترحها السابق، بإيفاد أوائل الناجحين في بعثة صيفية إلى باريس!! وعلى الفور نشرت مجلة الصرخة كلمة، رفضت فيها هذا الاقتراح، ساخرة منه ومن غرضه الرامي إلى اطلاع الأوائل على مسارح فرنسا، قائلة: “... ولماذا؟ لزيارة المسارح والاطلاع على ...! الاطلاع على ماذا أيتها اللجنة، وهؤلاء الطلبة لم يقطعوا من دراسة التمثيل سوى العام الابتدائي فقط، فشأنهم شأن طالب بالسنة الأولى بمدرسة الطب إذا أوفدته الوزارة لزيارة مستشفيات أوروبا والاطلاع على أحدث المخترعات والاكتشافات في عالم الطب والجراحة؟! اقتراح لا هو عملي ولا هو مفهوم، اللهم إلا أن تكون نزهة للطلبة تنفق عليها وزارة المعارف بضع مئات من الجنيهات في وقت تحرم فيه أطفال مدرسة روضة الأطفال من تناول طعام الغذاء بالمدرسة في شهري أبريل ومايو بحجة الاقتصاد؟ والطلبة والطالبات هم يوسف أفندي حلمي، والنحاس أفندي، والآنستان زوزو حمدي وروحية محمد خالد. وواحد منهم فقط، هو الذي يتكلم ويفهم اللغة الفرنسية، كما يتكلمها ويفهمها طالب المدارس الثانوية! فأية فائدة ترجى إذن من زيارة المسارح ومشاهدة الروايات، مادام حضراتهم لا يفهمون ما يسمعون؟ وعلاوة على ذلك، كلنا نعرف أن مسارح باريس أو أكبرها شأناً تغلق أثناء فصل الصيف، وأن كبار الممثلين الفرنسيين يغادرون باريس إلى المصايف، فأي مسارح إذن يزورها هؤلاء الطلبة؟ ولقد كنا نفهم أن توفد الوزارة هؤلاء الطلبة في بعثة حقيقية لكي يمضوا في باريس ثلاث سنوات أو أربع، يتلقون فيها فنون المسرح بعد أن يتقنوا اللغة الفرنسية. أما إرسالهم في نزهة عقيمة فأمر غير مفهوم! وأخيرا، لقد تكلمنا من غير أن نتعرض لأمر له خطره ولا شك، وهو إيفاد آنسات مصريات لا يزلن في ربيع الشباب إلى مدينة كباريس، لكي يختلطن فيها بالأوساط المسرحية، وما أدراك ما هي في بلد كباريس!”.
فكرة إرسال فتيات إلى باريس، أثارت الرأي العام، فوجدنا مجلة الصباح تنشر أخباراً، تفيد بأن وزارة المعارف، عدلت عن الاقتراح الخاص بإيفاد طالبتين، وإبدالهما بطالبين، ومن المحتمل أن يوقع الاختيار على: أحمد فرج النحاس، ومحمد أحمد شاكر، وإبراهيم عز الدين، ومحمد أحمد الغزاوي. وبالفعل صدرت الأوامر بسفر ثلاثة منهم، وتم تحديد مواعيد السفر إلى باريس هكذا: يوم 27 يونية لسفر أحمد فرج النحاس، ويوم 10 يوليو لسفر محمد أحمد شاكر، ومن بعده سيسافر يوسف فهمي حلمي. وفجأة نشرت مجلة الصباح في نهاية يونية 1931، خبراً، يفيد بأن الوزارة اعترضت على سفر يوسف فهمي حلمي (أول الناجحين)؛ حيث “إن سعادة عبد الفتاح باشا صبري وكيل وزارة المعارف، يعارض في سفر يوسف أفندي فهمي؛ لأنه لا يحمل شهادة البكالوريا، وقانون البعثات ينص على أن يكون المبعوث حاملاً لهذه الشهادة. فإذا أصر سعادة الوكيل على رأيه فالمرشح للبعثة بدلاً من يوسف، هو شاكر أفندي الناجح الثالث، إذا أسفر الامتحان عن نواله شهادة البكالوريا. فإذا لم ينجح سافر النحاس أفندي، وهو من حملة البكالوريا. وعلى كل حال فإن مسألة سفر الطلبة الثلاثة، يوسف والنحاس وشاكر، أصبحت موضع نظر من جديد! وقد يسافر الكل، أو يسافر أحدهم، أو لا يسافر أحداً منهم البتة”.
الطلاب يكرمون أستاذهم
انتهى العام الدراسي الأول، وظهرت النتائج، وبدأ التفكير في ابتعاث المتفوقين .. إلخ، فقامت الوزارة بإصدار أمرها لزكي طليمات بالسفر ثلاثة أشهر في الصيف – الأجازة الدراسية السنوية – إلى بعض بلدان أوروبا، مثل: فرنسا وألمانيا وإنجلترا، من أجل الاطلاع على أحدث وسائل العرض المسرحي، وتنفيذ بعض المهام المتعلقة بالمعهد. لذلك فكر طلبة المعهد في إقامة حفلة تكريم لأستاذهم زكي طليمات، يشارك فيها جميع الطلاب بمناسبة جهوده الكبيرة في المعهد، وبمناسبة انتهاء العام الدراسي، واحتفالاً بكل جديد سيطرأ على المعهد ابتداء من العام القادم، وفي الوقت نفسه، ستكون الحفلة توديعاً لأستاذهم طليمات قبل سفره إلى أوروبا.
ومن حُسن الحظ أن ناقد مجلة المصور، كان مدعواً لحضور هذه الحفلة، فوصفها بصورة تفصيلية في مقالة كبيرة، تحت عنوان (ليلة بين جدران المعهد). وبسبب ضخامة المقالة، سنلخص أهم ما جاء فيها، ونقول على لسان كاتبها: لم يكن الأمر في تلك الليلة مقصوراً على كلمات تقال أو خطب تلقى، بل شاء صاحب العزة العشماوي بك رئيس مجلس إدارة المعهد أن يذيقنا من طيبات ما رزق الله طلاب تلك الدار من فن جميل، وتمثيل رائع بديع. فانتقلنا إلى الطابق العلوي حيث أعد مسرح المعهد، وحيث قام بعض الطلبة والطالبات بتمثيل مشهدين من دُرتي أمير الشعراء (كليوباترا) و(مجنون ليلى). هذا هو المضمون، أما التفاصيل، فتتمثل في: لما كان المعهد خليقاً بأن نوليه عناية خاصة في ختام سنته الأولى، فليس هناك ما يمنع من الإسهاب في وصف حفلة التكريم هذه. اجتزنا ردهة الدار فإذا الطلبة النجباء يستقبلون مدعويهم بإيناس، فُطروا عليه وبينهم الطالبات؛ كأنهن منثور الورد وتفتح الزهر، ثم انتقلوا بنا في منتصف السابعة مساء إلى صالة الألعاب الرياضية، وفيها أعدوا ست موائد فخمة على هيئة مربعة، خصصت الرئيسية منها لهيئة إدارة المعهد، كما خصص جناحاها يمنة ويسرة إلى مندوبي الصحافة من عربية وأفرنجية، ووزعت الأوانس على الموائد يحيين المدعوين، ويشاركنهم سرور الليلة. كان من نصيب مائدتنا أن ازدهرت بطلعة الآنسة فاطمة محمد محمد، التي تعتبر عنواناً حقيقياً للفتاة الناضجة العقل الكبيرة القلب المتقدة الذهن. فقد تملكت زمام المائدة في أدب جم ولطف موفور، هذا إلى ما كانت تنثره بين حين وحين من عذب النكات وبريء المداعبات. حتى لقد همس في أذني زميل يقول: (لو كان فن المجاملة أحد الفنون المقررة في المعهد، لوجب أن تكون الآنسة فاطمة أولى الناجحات فيه).
وبعد تناول أطايب المأكول والمشروب، وقف الممثل الكبير والطالب (النونو) الصغير محمد عبد القدوس، وألقى الكلمة التالية بين بسمات الجميع، مما كان يتجلى من خفة روحه قال: “سادتي وأخواتي وإخواني: الطفولة أصل الشيخوخة، واللعب أصل الجد، والفنون أصل العلوم، وأولئك الذي يعنون بتهذيب الطفولة واللعب والفنون، إنما يعنون بما ينشده الإنسان من سعادة في الحياة، هي نتائج حكمة الشيخوخة وعظمة الجد وتقدم العلوم، ومن بين هؤلاء أستاذنا زكي طليمات الذي نقوم له الليلة ببعض ما يحتمه علينا الواجب اعترافاً بفضله لا بصفتنا تلاميذ المعهد فقط بل كأفراد من أمة سيعود عليها جده وعمله على ترقية المعهد خاصة والتمثيل عامة بأجمل الثمرات. فاسمح لنا يا سيدي أن نتقدم إليك نحن طلبة المعهد، وأنا على رأسهم – ولو إني طلعت متأخر في الترتيب شوية – كان ترتيبه السادس بين الناجحين – بآيات الشكر والتكريم والإعجاب والاعتراف بالفضل. وليسدد الله خطانا جميعاً. وفي الحال وقف زكي يشكر زميله وصديقه القديم ويحيي تلميذه الحالي أجمل تحية.
ثم ألقى محمد أفندي الغزاوي كلمة طيبة، اقترح فيها أن تقام حفلة أخرى لتكريم زميله يوسف فهمي الناجح الأول؛ ولكن هذا اعتذر على الفور في أدب وظرف وتواضع. ثم وقف الطالب المستمع محمد بهجت، وألقى كلمة شكر بها المحتفل به، وبقية الأساتذة، ثم عطف على رئيس إدارة المعهد (الأستاذ العشماوي بك) فذكره بكل خير. ثم دعيت الآنسة (علية صادق) للخطابة فوقفت في ثبات وحزم؛ كأنها اعتادت مثل ذلك الموقف من سنوات، وألقت كلمتها في صوت متزن ونبرات جلية وتعبير سلس. وهنا وقف الأستاذ زكي فألقى كلمة بالفرنسية حيا فيها المسيو شارل تراس مدير الفنون الجميلة، وشكر له أياديه البيضاء عليها ثم هتف بحياة جلالة الملك راعي الفنون الجميلة. وودع المسيو تراس المكان بشكر جزيل إلى الطالبات والطلبة وباعتراف منه إلى ما حوت التلميذات من جاذبية وجمال وما رأي عليه الطلبة من نمو في الأجسام والأدراك.
ثم وقف أمين أفندي حسن الطالب بالمعهد، وأطال نثراً وشعراً، تناول فيهما جميع رجال إدارة المعهد بالذكر الحسن. وقامت الآنسة زوزو حمدي الحكيم أولى الناجحات في المعهد، بتمثيل أحد مواقف مسرحية (فيدورا)، ثم قامت زهرة مائدة الصحافة (الآنسة فاطمة)، فعزفت بعض قطع على البيانو، جلت بها القلوب والأسماع. ووقف عبد الفتاح عزو فألقى منولوجاً غنائياً طريفاً ساعدته فيه الآنسة فاطمة عزفاً على البيانو، فنال كلاهما تصفيقاً حاداً، يتوازن مع ما جلبا من سرور ومرح. ثم وقف شاعر القطرين في هدوئه المعتاد، واستهل حديثه بأنه لم يقف موقفه حباً في الكلام؛ ولكنه تأثر حين رأى هذا النبت الكريم يزهو ويورق، فانطلق لسانه بالحديث بالرغم منه، على أن ما رآه من الأوانس في الحفلة، وما قدمته من معونة وخدمة، يبشر بمستقبل ستغتبط له الأمة أيما اغتباط. وأن تباشر الفن التي بدت واضحة جلية، لن تقتصر نتيجتها على هذا القطر وحده بل سيمتد أثرها إلى بلاد الشرق قاطبة، ثم قال إنه لم يعتد في حياته أن يكيل المديح جزافاً ولكنه يصرح علناً وهو على ثقة فما يقول، إن العشماوي هو الأداة التي تنفخ الحياة في ذلك المعهد وتمده بما يتطلبه من رقي منشود. ثم انتقل إلى الحديث عن المحتفل به فشكر له أياديه على المعهد، ونوه بفضل بقية الأساتذة. ثم وجه نصحه الغالي إلى الطلبة مستشهداً بالقول القديم المأثور (من علمني حرفاً صرت له عبداً).
وهنا جاء دور العشماوي بك، فظل في مجلسه يتحدث شهي الحديث معتذراً عن الوقوف بأنه لم يعتد الخطابة، لهذا فضل ما طبع عليه، وبدأ يحاضرنا، قائلاً: “إنني في وسط هذا الضجيج والفرح أتخلى عن منصبي الرسمي في سكرتارية وزارة المعارف، وفي رياسة مجلس المعهد، وأتحدث كفرد عادي. فربما بدر مني وعد، أو ارتبطت بعهد يطالبني زكي بتنفيذه فيما بعد. ثم قال: اسمحوا لي أن أتحدث لكم عن زكي طليمات كرجل يعرف الواجب ويقدره، وأريد في هذه اللحظة أن أقول إن محبة طلابه له، جعلتهم ينثرون عليه من المديح ما قد يستر كثيراً من محاسنه. فقد كانوا في فعلهم هذا كمن يعمد إلى تمثال فني رائع فينثر عليه الأزهار، حتى يكسوه بطبقات منها، وتنحصر مهمتي الآن في نزع هذه الأزهار، كي تبين بدائع الفن وتتجلى في زكي طليمات. ثم تحدث عن النواحي المجهولة في المحتفل به، ونوه عن مجهوده في تحقيق فكرة إيجاد المعهد قائلاً: “ إن أشق المهمات التي تحملها زكي، كانت تنفيذ تلك الفكرة. فقد صبر طويلاً حتى هيأ الظروف جملة”. ثم انتقل إلى إظهار ناحية سامية من أخلاق زكي فقال: إنه حين عمد إلى إيجاد المعهد، كان يعمل على إصلاح التمثيل وخدمة الممثلين؛ ولكن حملة سخيفة قامت تعترض سبيله من ناحية، أولئك الذي كان يعمل على خدمتهم، فهل تعرفون ماذا فعل زكي في هذا الحين، إنه كان يجازي السيئة بالحسنة، وكان يدعوني أن أكون كريماً معهم، وهذه ناحية أخلاقية سامية، بل هي المثل الأعلى في كرم الأخلاق. ثم قال: ناحية أخرى لو توفرت للكثيرين منا لكانت نهضتنا من أحسن النهضات وأرقاها، تلك هي أن العقيدة إذا تمكنت منه ملكت عليه مشاعره. فحين أنشأ المعهد كان ينسى كل شيء ما عداه، وإني لأرثي لعائلته التي فقدته تماماً طيلة هذه الشهور، حتى أن ابنته الوحيدة، هاجمها المرض فلم يعقه هذا عن السير في طريقه، فإذا كان قد نجح فإنما كان ذلك لإخلاص في عمله وغيرته الشديدة عليه، وهذا هو أساس النجاح في كل شيء”. ثم قال: “إن سفر زكي إلى أوروبا موضوع فكرت فيه الوزارة، كي يكون همزة الوصل بين نهضتنا الفنية وبين ما وصلت إليه الأمم الغربية. فهو سفير الفن بيننا وبينهم، وما من أمة جعلت وجهتها رقي الفن فيها إلا وخطت إلى الأمام خطوات ثابتة قوية، وأمامكم تاريخ الأمم قديمها وحديثها شاهد عدل على ما أقول”. وختم الحديث قائلاً: “أرجو أن تقدروا اهتمام الوزارة بالمعهد وتعتقدوا أنها تعتبره الآن (عرضها)، فعليكم أيها الطلبة أن تعضوا بالنواجذ على تلك السمعة، وتحافظوا على هذا العرض ما استطعتم. وآمل أن نواجه في العام القابل خير العناصر من فتيان وفتيات”.
ثم وقف عبد السلام النابلسي أفندي، وتلاه عزو أفندي بمنولوج ظريف، واختتم الأستاذ إبراهيم رمزي الحفلة بكلمة طلية ذكر بها ما نسيه الجميع من جميل السيدة روز اليوسف على التمثيل وفضلها على الحركة، فإنها كزوج لزكي طليمات وكممثلة قديرة قدمت من المعاونات ما لا يقع تحت حصر. بعد ذلك عزفت الآنسة فاطمة محمد سلام الملك فسمعه الحضور وقوفاً. وبعد الانتهاء من تناول الشاي وتبادل الخطب، انتقلنا إلى الطابق العلوي حيث المكان الذي شيد فيه مسرح المعهد، وكان صاحب العزة العشماوي بك قد طلب من سكرتير المعهد الفني أن يقوم الطلبة بتمثيل بعض المشاهد، فوقع الاختيار على مشهدين من روايتي (كليوباترا) و(مجنون ليلى). ولقد قامت الآنسة (زوزو حمدي الحكيم) وهي أولى الناجحات بدور (كليوباترا). وأريد قبل كل شيء أن أنوه عن الجديد الذي شاهدته أثناء التمثيل، فقد كان أثر الإخراج بادياً في كل حركة يخطوها الممثل على المسرح، وكأني بزكي طليمات قد صاغ من طلابه أشخاصاً اندمجوا في أدوارهم حتى أصبح من العسير، وأنت تشاهد التمثيل أن تظن أن أولئك الذين تراهم أمامك طلبة في بداية طريق الكمال الفني، نعم فقد كانوا على تمام النضوج، كما كانوا مقدرين لكل خطوة يخطونها على المسرح.
نعود إلى التمثيل فنقول إن الآنسة زوزو (كليوباترا)، كانت مظهراً للإجادة الحقة. ولقد قام أحمد البدوي بدور (الكاهن)، وهي المرة الأولى التي أشاهده فيها على خشبة المسرح. ويكفي أن أقول إن الروعة التي ظهر بها (كاهن الملك) قد ملأت نفسي إعجاباً به. أما يوسف حلمي (وهو أول الناجحين) بل هو شعلة الذكاء المنبعثة بين الطلاب فقد قام بدور (أكتافيوس قيصر)، ولست أدري أأصف كيف اقتحم المسرح فتضاءل أمامه من عداه!! أو أصف مبلغ تحكمه في الدور وتلاعبه بشعور نظارته، أم أكتفي بأن أقول إنه كان برهان النبوغ في كل حركة أو خطوة، هذا أقل ما يمكن أن يقال عن يوسف.
ننتقل بعد ذلك إلى رواية (مجنون ليلى) فنقول إن الآنسة روحية محمد خالد (ثانية الناجحات)، هي التي اضطلعت بدور (ليلى)، فكان لصوتها الموسيقي ونبراتها العذبة وملاحة شكلها، وامتشاق قوامها أكبر أثر في نجاحها، على أن خفة الروح التي امتازت بها روحية جعلت منها فتاة قد تكون أصلح الجميع للمسرح. ولقد ساعدها أحمد شاكر إذ قام بدور (قيس المجنون)، فكان لتناسب شكليهما واتساقهما معاً ما ولد الاندماج بينهما وما رفع من شأن القطعة التي قاما بتمثيلهما. وأخيراً انتهت حفلة المعهد على خير ما كان يرجى لها. وصح لنا أن نتقدم بالتهنئة الكاملة إلى وزارة المعارف في شخص سكرتيرها العام العشماوي بك وإلى الشاب المتوقد زكي طليمات.