أموت في كده !!

أموت في كده !!

العدد 868 صدر بتاريخ 15أبريل2024

بعد أن أنهى الريحاني موسمه المسرحي بعرض «مصر باريس نيويورك»، سافر في رحلة فنية إلى فلسطين في صيف 1930، وعرض هناك مجموعة من مسرحياته. وهذه الرحلة لن أتحدث عنها هنا خشية التكرار، حيث إنني نشرت تفاصيلها – في جريدة «مسرحنا» - منذ أربع سنوات في سلسلة مقالات بعنوان «المسرح المصري في فلسطين قبل نكبة 1948»، والمقالة الخاصة برحلة الريحاني نُشرت بعنوان «نجيب الريحاني .. كشكش بك في فلسطين» في العدد رقم «682» بتاريخ 21 سبتمبر 2020.
بعد عودة الريحاني من فلسطين بدأ يستعد للموسم الجديد، ونشرت مجلة «الصباح» في أكتوبر 1930 لقاءً معه حول هذا الاستعداد علمنا منه أنه سيفتتح موسمه يوم 20 أكتوبر، وأنه ضمّ إلى فرقته الممثلة «أنصاف رشدي» وأن جميع مسرحياته ستكون مصرية بحتة تتناول بالنقد كل ما هو غير مألوف في عاداتنا القومية من نقائص وعيوب، وليس له غرض من وراء ذلك إلا خدمة الأخلاق والقيام بواجبه .. هذا ما قاله الريحاني في حواره!! واستدرك هذا التصريح بقوله: “صحيح أننا لا نستطيع أن نقدم لمسرحنا روايات مصرية باستمرار، ولكن لكي نتلافى هذا النقص فقد وطدت العزم على أن أمصر كل رواية أجنبية تصلح للتمصير”. وعندما سأله الصحفي: واللغة التي ستمثل بها هذه الروايات هل هي العامية أيضاً؟ أجابه الريحاني قائلاً: “إني أعتقد أن اللغة العامية هي اللغة المصرية العريقة وليست لغة سواها تصلح للمسرح المصري، الذي هو مظهر من مظاهر القومية، وأتنبأ من الآن أن اللغة العربية الفصحى ستُبطل في المستقبل وستكون اللغة العامية هي لغة الصحف والمصالح الحكومية! ولا تحسبني بهذا القول عدو اللغة العربية، وإنما أرى أن من الخطأ جداً أن نتكلم في الطريق وفي البيت وفي كل مكان باللغة العامية، التي هي لغة الحياة المصرية، ثم نحاول بعد ذلك أن نجعل العربية لغة رسمية لنا”. وسأله الصحفي: سمعت بعض الناس ينتقدون الرقص الوضيع الذي تظهر به بعض الراقصات الأجنبيات على مسرحكم فما رأيكم في هذا الرقص؟ أجابه الريحاني قائلاً: “إن الرقص قبل كل شيء فن من الفنون الجميلة، وليس هناك اعتداء على الآداب إذا ما ظهرت راقصة على المسرح عارية الجسم إلا قليلاً لأنها تظهر نوعاً من أنواع هذا الفن فقط، أما إذا اعتبرنا هذه الراقصة امرأة ونظرنا إلى جسمها الذي تعتني به لتظهر جمال الرقصة الوضيعة نظرة شهوانية فهذه النظرة هي التي يحق لنا أن نسميها خارجة على الآداب وليس نوع الرقص نفسه”.
افتتح الريحاني موسمه بمسرحية «أموت في كده» من تمصيره بالاشتراك مع بديع خيري. وتدور أحداثها في بيت سليمان بك، وهو رجل محب للسهر مولع بالنساء. وفي ذات يوم سهر سليمان بك في كازينو «الكيت كات» واصطحب معه «نوسة» وهي فتاة جميلة تعمل في هذا الكازينو، ولجأ سليمان إلى حيلة لتمكث نوسة معه في المنزل أثناء غياب زوجته، بأن ألبسها ملابس الرجال وذلك خوفاً من الشغالة عنده والتي قامت بتربيته وتقوم بمراقبته أثناء غياب زوجته من المنزل، ولكن هذه الحيلة لم تنطلي عليها. وفيما كان سليمان بك مخموراً في كازينو الكيت كات دعى «عُوكش» وهو رجل محب لفن التمثيل وهو طالب بمعهد التمثيل الأهلي للحضور كضيف إلى بيته. كما دعى العمدة وهو أيضاً كان ساهراً معه في الكازينو المذكور، وعندما رأى العمدة نوسة في ملابس الرجال أعجب بها ولكن سليمان أفهمه بأن اسمه إسماعيل، وهو من أبطال المصارعة! وكان لحضور العمدة إليه سبب ألا وهو أن يقترض منه عشرين جنيهاً، وذلك لضياع محفظته في الكازينو معتقداً بأن بائع اللوترية [أي بائع اليانصيب] قد قام بسرقتها وهو مخمور .. وأخذ العمدة من سليمان المبلغ وخرج على أمل أن يقوم برده بعد أسبوع. وبعد خروجه يحضر شخص يدعى «عناني» وهو بائع اللوترية أمام كازينو الكيت كات، وقد شاهد العراك بين سليمان و«جنكيز» على نوسة، وذلك لأن جنكيز كان يحب نوسة ويقوم بالصرف عليها وعندما سأل سليمان «عناني» عن سبب حضوره أعطاه عناني الخاتم الذي وقع منه أثناء المشاجرة، ففرح سليمان وأعطاه عشرين جنيهاً مكافأة، كما أعطاه بدلة وحذاء! وفي أثناء ذلك يأتي تلغراف من جنكيز يفيد بأن الأخير سوف يحضر الساعة الواحدة في منزله لتصفية الحساب، وتفهمه نوسة بأن جنكيز رجل شرير سوف يقوم بتصفية حسابه بالفرفر [أي بالمسدس] والسكاكين والعراك، وتقوم الشغالة بحل هذه المشكلة وذلك عندما حضر جنكيز في الموعد المحدد قدمت إليه عناني على أنه سليمان إلا أن جنكيز تراجع عن تصفيته للحساب وأبان لسليمان «عناني» بأنه حضر إليه ليس إلا للاعتذار عما بدر منه في الكازينو، لأنه علم بوجود نسب بين عائلته وعائلة سليمان، وقد كان خطيباً لزوجة سليمان، ولكن لم يتم الوفاق بينهما، ثم همّ بالانصراف. بعد ذلك تحضر «بهيجة» زوجة سليمان وأمها زليخة وشلضم أبو بهيجة، فتحيّر سليمان في أمر نوسة وعناني، إلا أنه عرّف عائلته عليهم على أنه صديق قديم «فانوس» وزوجته! فقامت عائلة سليمان بالترحيب بهذا الصديق القديم. إلا أن سليمان يهتدي إلى فكرة بالاشتراك مع عناني وذلك للتخلص منه ومن نوسة، ويجعل لهم سبباً لرحيلهم من البيت بأن اتفقا بأن يرسل تلغرافاً بموت قلدس أبو فانوس غريقاً في البحر. ثم يحضر مرسال وهو من رجال الجيش ومعه «نكش» أو «دلال» لاستئجار الدور الخامس، ومرسال صديق قديم لشلضم. ويقابلهم شلضم وبدخول عناني وسليمان يرى عناني زوجته «نكش» أو كما تدعي على نفسها اسم «دلال» واتهمت الجميع بأن زوجها توفى وكان مريضاً فجن ذلك من جنون عناني وهما مرسال ودلال وشلضم لرؤيته الشقة المراد استئجارها في حين يدخل فانوس أفندي وزوجته دميانة فتحاول الشغالة أن تقصيهم من البيت خوفاً أن يكتشف أمر سليمان بك. وتدعي لفانوس أفندي بأن سليمان بك غير موجود ومسافر وسوف يحضر بعد 15 يوماً وفي خلال ذلك يأتي التلغراف المزعوم فيقرأه فانوس فيحزن على أبيه ويقرر السفر هو وزوجته ثم ينصرف خارجاً بعد حين والعائلة بأجمعها مجتمعة تدخل الشغالة بالتلغراف المزعوم وتعطيه لعناني فيقرأه ويمثل الحزن والأسى لموت أبيه ويقرر الجميع سفر فانوس «عناني» بمفرده لقضاء الواجب. وتنتظر نوسة معهم حتى يحضر في حين تعي نوسة ذلك الملعوب من ختم التلغراف فيرحل عناني عن البيت ويذهب إلى كباريه انترناشيونال للعمل به سفرجي وقديماً كان عناني يعمل بهذا الكباريه .. يدخل مرسال ودلال التي ستقوم بالغناء في حفلة خاصة لقدماء المطربين، ثم يدخل العمدة وجنكيز فيجتمع الجميع وتكتشف الحقيقة ويعلن سليمان توبته لزوجته ويعلم العمدة حقيقة ضياع المحفظة، وترجع نكش لزوجها عناني.
هذا الملخص - غير المترابط والمعتمد على كوميديا الموقف وسوء التفاهم - كان ملخصاً لعرض الافتتاح «أموت في كده» تمثيل: الريحاني، وجمجوم، وعبد النبي، وكيكي، وفيوليت، وحسين إبراهيم، والتوني، وفكتوريا، وشفيقة، والقصري. وكفى بنا أن ننقل افتتاحية جريدة «المساء» لمقالة عن العرض جاء فيها: “افتتح الريحاني موسمه هذا العام برواية «أموت في كده» .. ولسنا بصدد نقد الرواية ولا وضعها موضع التحليل. فهي ككل روايات الريحاني، لا تتطلب هذا المجهود من النقد. فإنها تجري على نسق خاص وأسلوب معين عزفت بها روايات الريحاني ولا يكاد يحيد عنهما أبداً”.
واضح أن العرض لم ينجح النجاح المتوقع، ولم نجد عرضاً جديداً يُعلن عنه الريحاني، بل وجدناه يُعلن عن إعادته لتمثيل مجموعة من عروضه السابقة، مثل: «اتبحبح» و«ليلة نغنغة» و«نجمة الصبح»! وبعد شهرين بدأ الكلام عن استعداد الفرقة لمسرحية جديدة عنوانها «عباسية» وقفت عراقيل رقابية وإدارية أمام ظهورها للجمهور في الوقت المحدد لها، أفصح عنها «توفيق مليكة» في مقالة نشرها في مجلة «ألف صنف» في ديسمبر 1930، قال فيها: 
بينما تعمل الحكومات في الخارج على تنشيط التمثيل كفن من أرقى وأهم الفنون جميعاً، إن لم يكن أرقاها بأخلاق الشعوب ورفع مستواها الاجتماعي .. وبينما تمد الحكومات الأجنبية يد المعونة مادياً وأدبياً لأصحاب المسارح والمؤلفين المسرحيين. وبينما يتمتع مديرو المسارح في الخارج من إقبال الجمهور وتقديره للفن وتنشيط الحكومات لهم ما يساعدهم على اجتياز الأزمات الاقتصادية مهما بلغت شدتها. نقول بينما يحدث ذلك في الخارج، نجد حكومتنا أو بالأحرى اللجنة التي تمثلها أمام أصحاب المسارح - ونعني بها لجنة مراقبة الروايات التمثيلية بوزارة الداخلية - تقف عقبة في سبيل الفن، وتعمل على تعطيل برامج المسارح، وتجشم مديري المسارح من فادح الخسائر ما لا قبل لهم على احتماله في هذه الظروف العصيبة، التي يخدمون فيها الفن لوجه الفن، لا طمعاً في ربح أو جرياً وراء مغنم. وأي ربح وأي مغنم يطمح إليه الفنانون في هذا البلد الذي تعتبر فيه الفنون من الكماليات!! نقول ذلك بمناسبة ما وقع للأستاذ نجيب الريحاني مع لجنة مراقبة الروايات التمثيلية في الأسبوع الماضي! كان المتبع حتى العهد الأخير أن تُقدم الرواية إلى قلم المطبوعات قبل تمثيلها. فإن لم يجد فيها مساساً بالدين أو الأخلاق أو السياسة سمح بتمثيلها .. وإلا منعها أو نصح بتعديل ما يجب تعديله. ثم تألفت بعد ذلك اللجنة الآنفة الذكر لتطلع على الرواية مرة أخرى بعد إذ يكون قلم المطبوعات قد فرغ منها وسمح بها .. ومن مظاهر الإهمال وقلة الاكتراث بالفن ومصلحة المشتغلين به أن هذه اللجنة لا تجتمع إلا مرة واحدة في الأسبوع. وتشترط أن تقدم إليها الرواية قبل اجتماعها ب «12» عشر يوماً. فبالله ما ذنب أصحاب المسارح حتى ينتظروا هذه المدة الطويلة. وما حاجة اللجنة المزعومة إلى كل هذا الوقت بعد أن صدّق قلم المطبوعات على الرواية؟! والأستاذ نجيب الريحاني ممن يعنون بالمسرح المحلي. فجميع رواياته من وضعه هو والأستاذ بديع أفندي خيري والتأليف طبعاً ليس كالتعريب. إذ في مقدور مدير المسرح أن يوزع عشرات الروايات الأفرنجية على المعربين الذين لا عدد لهم ولا حصر. فيعربونها في ليلة أو ليلتين. ومن ثم يكون التصديق عليها جملة، ويكون ثمة محصول متوفر يختار منه مدير المسرح ما يشاء. أما وجميع روايات الأستاذ الريحاني مؤلفة كما ذكرنا. فمن الإضرار به وبمسرحه وعماله إذن أن تُهمل رواياته حتى تتكرم اللجنة بالإجماع – إذ قدر لها أن تجتمع – بينما هناك جمهوره الذي يحبه وينتظر رواياته انتظار الصادي [أي الظمآن أو العطشان] لجرعة الماء. وهناك عماله الذين يعتمدون هم وعائلاتهم على نشاط الموسم التمثيلي. قدم الأستاذ رواية «عباسية» في الموعد الذي قررته اللجنة أو بعده بقليل، ورغم أن قلم المطبوعات صادق عليها، ورغم أن عضواً أو اثنين من أعضاء اللجنة قرأوها ولم يجدوا مانعاً من تمثيلها .. رغم كل ذلك أبت اللجنة ألا أن تحفظ الرواية عندها حتى تجتمع - وإذا لم تجتمع لسبب من السبب كما يحدث أحياناً – ماذا سيكون مصير الرواية والمسرح وصاحبه وعماله؟ إن الأستاذ الريحاني فكر في أن يغلق مسرحه ويسرح موظفيه إلى أن تتكرم اللجنة بقراءة الرواية. وقد أرسل برقية صارخة بهذا المعنى إلى صاحب الدولة رئيس الوزراء. فهل يُرضي الحكومة هذا التعنت؟ وهل يرضيها هذا السفه؟ وهل يعجبها أن ينضم الممثلون إلى طائفة العمال العاطلين؟ رفقاً بمصالح الناس يا لجنة المراقبة، ورفقاً بالفن والذين نكبوا بالاشتغال به في هذا البلد! وبعد، فأية فائدة من وجود قلم المطبوعات واللجنة معاً! ألا يكفي أحدهما لقراءة الرواية والتصريح بتمثيلها أو عدم التصريح؟ نأمل أن يفحص صاحب الدولة وزير الداخلية هذا الموضوع بما يستحق من عناية ويضع حداً لهذه الفوضى المخجلة، حرصاً على حياة الفن ورقيه.
انتهت مشكلة النص مع الرقابة، وتم الترخيص بالعرض لنجد موضوع المسرحية هو نفسه موضوع مسرحية «مستشفى المجانين» من تأليف ملك المضحكين «جورج فيدو» وترجمها أدمون تويما وقاسم وجدي، وعرضتها فرقة رمسيس ليوسف وهبي عام 1926!! فهل قدمها الريحاني كما قدمها يوسف وهبي؟ وهل اعتمد على نص فرقة رمسيس أم أعاد ترجمتها أو تعريبها أو تمصيرها مع شريكة في الكتابة بديع خيري؟؟


سيد علي إسماعيل