تستعين بدرويش .. الفنانة نادرة عمران تتساءل: هل سنعود؟

تستعين بدرويش .. الفنانة نادرة عمران تتساءل: هل سنعود؟

العدد 679 صدر بتاريخ 31أغسطس2020

في المسرح الذي يقول كل الخيانات ولا يخون.
في المسرح الذي تسقط فيه كل الأقنعة، وتظهر وجوه القتلة والمجرمين. 
في المسرح، نجلس، نتمعن، ونحلل... ثم ننعزل إلى غربة اختارتنا قبل أن نختارها، اخترناها كي لا نقع في حفرة من حفر الضحايا، أو كي نبتعد عن طوابير كتائب الخونة والمرتزقة.
هو المسرح، حضن الذاكرة والأحلام التي تضرب قلبي وتكاد تطلب منه السكوت. قلت لحالي: أهدئي، فجلست.........
صوت كارم محمود أنعش قلبي. 
« يا حلو ناديلي...وشوف مناديلي
ودي طرحة بالترتر على حرير قلاب
فوق الجبين تسحر وتجنن الخّطاب
منسوجة يا طرحة.... بالعِز والفرحة
وليل مواليلي.... يا حلو ناديلي......»
يا إلّهي لهذا الجمال، سكينة في هذا العالم الغشوم، ما زال فيّ جزءٌ حي، سأهرب به إلى المسرح. 
دفعت بابه الذي أقفله عالم علم الأشرار، عبرت كل المقاعد الخاوية، كل شيء صامت، صمتٌ مَهيب كصمت الجنازات، وما أكثرها... تحركت بصمت أخرس إلى الخشبة، صعدت إليها كأن التقيت صدر أمي، لا لن أنشج، سرت حتى قلبها ونظرت أمامي، إنه البحر... البحر الممنوع من حضور الصيادين الذين يأتونه باحثين عن صيد سمكات المتعة والمعرفة الطازجة، أريد أن أحكي لهذا البحر المهجور... كيف حرق الغول بلادنا وأقرأ له من نصوص الخراب عن الخراب، وأقرأ من نصوص الحالمين الذين رحلوا وتركونا للعدم، ودرويش الذي نام واستيقظت الحاجة إلى كل ما قال: 
« ماذا يعنيك من تاريخي ايها العالم؟ ماذا يعنيك؟
: كنت أراك دائماً على تراب فلسطين حتى خرجتَ وعاد الصفاء والسلام إلى الأرض، فلماذا تعود الآن؟ لماذا تكسر الصفاء؟ فالأمن الدولي مشروط بغيابك عن فلسطين وعن الإنسانية.
: لكن العالم وعدني بصداقةٍ مقابل التوقيع على هدنةٍ مع القاتل، ولقد تصدق العالم عليّ: أعطاني طحيناً وثياباً وخياماً كثيرة لي ولأطفالي، سمح العالم لأطفالي أن يولدوا مقابل أن أعطيه الوطن والأمن.
حين كنت أشعر بالبرد في المنافي، كانت صحف الرأي العام العالمي تقيني من البرد والأمطار، وحين كنت أشعر بالجوع، كانت فقرةٌ من ثلاث أسطر من خطاب رئيس دولة((متحضرة)) تشبعني، وحين كنت أشعر بالحنين، كانت الأغاني ((الأجنبية)) تجعل الرحيل تجربة جميلة... تجربةً جميلة.
وهكذا ينام العالم، وهكذا يصحوا وهو مدججٌ بالسلاح، وأنا مدججٌ بالقيود،
القوي متحضر والضعيف بربري، وليس التاريخ قاضياً، التاريخ موظف، والذين يتباهون بالحضارة والتمدن، هم غالباً ما يكونون القتلة.»
وابتعد صوت درويش وتعالت أصوات نعي التاريخ والجغرافيا والأوطان. 
وأشاعوا موت اللغة وموت النص والمؤلف.
 لماذا لا يريدوننا أن نقول؟ وعلى المسرح، لا يريدون كلمات، يريدوننا أن نتقافز في الهواء ليكون كل ذلك هباء وبلا ذاكرة.
ماذا يعنيك من تاريخي أيها الرجل الأبيض الذي تقتل كل ما عداك؟
ويعلن خادمك، مذيع قصور سلاطين الصحراء براءة القاتل من دم القتيل، ويعلن تحضيرات مراسم الدفن. في أي صحراءٍ ستدفنون القتيل الأول وليس الأخير؟
«في ساعةٍ متأخرة من النهار، ينهض العالم من غرفة النوم إلى غرفة العمليات، لقد كانت ليلته صافية، وأحلامه متواصلة السعادة
فلماذا توقظ العالم من النوم؟؟!»
لا شيء، فقط كنا ننتظر مؤسسة الرأي العام العالمي ومنظماته ليقولوا لنا ماذا نقول. 
«العالم يريد أن يلعب وأن يشرب
لماذا توقظ العالم من النوم؟؟ّ!
هذا ليس صوتي، هذا صوت ارتطام جثتي بالأرض......»
سكوت تام....
وغادرت الخشبة، فالمسرح لا يقبل اليأس، وارتكنت إلى زاوية كتبي التي تحكي قصص بلاد لنا، وصارت بعيدة. 
وقرأت حوارية درويش مع الطفل الذي في داخله...
«متى نلتقي ثانية؟
«حين تدق جدار صدري وتقفز منه لتجلس في مواجهتي كعادتك. 
ولكن لا تكثر من زياراتك... أرجوك، لا ينقصنى حزن وبراءة.
تقتلني؟
حين يقتل الإنسان طفولته ينتحر. وأنا في حاجة إليك كشهادة على جيل. لا تأت كثيراً لأن البشاعة تملأ المدن، وأصدقائي يموتون كثيراً هذه الأيام.
لا تنسني.
وعاد إلى صدري ليتسلق جذع شجرة التوت في ساحة البيت القديم، ويقطف القمر الذي لم يسقط في البئر.»
انتظر....لحظة.....
هل القمر لم يسقط في البئر حتى الآن؟ 
وهل سنذهب إلى المسرح ثانيةً؟


كاتب عام