أساليب التناول الفينومينولوجي لفن التمثيل(2)

أساليب التناول الفينومينولوجي  لفن التمثيل(2)

العدد 706 صدر بتاريخ 8مارس2021

وفي الطرف الآخر من نفس التدرج نجد الممثلة اليانورا دوس التي لعبت نفس أدوار سارة برنارد في مختلف مسارح نفس المدينة، وكانت في كل ليلة تؤدي معجزة اختفائها الوحيدة . وبشكل عام يمكن دراسة طريقة تمثيل دوس الأسلوبية باعتبارها مثالا للصيغة التمثيلية أو صيغة الأداء بأسلوب ضمير الغائب . ورغم ذلك كانت لها لحظات تألق وتصعيد أختفت فيهما ذاتها تماما لدرجة أن الفنانة تعاود الظهور من جديد في الجانب الآخر من الايهام، بمعنى أنها تدهش المشاهد بدقة الصنعة . ويربط شو هذه اللحظة في أدائها لشخصية « ماجدة « في مسرحية «البيت» تأليف سودرمان . ففي الفصل الثالث تواجه «ماجدة» الوصول غير المتوقع لوالد طفلها في غرفة معيشة والدها، وهي لحظة تمتلئ بتوتر شديد، تمر منها  (ماجدة- الشخصية) بنجاح . فيقول شو، « ولكن عندما بدأت تستجمع شجاعتها وتشعر بالأمان من الصدمة والاحراج :
حدث لها شيء مزعج : بدأ وجهها يحمر، وكانت واعية بذلك وبدأ الاحمرار ينتشر ببطء ويزداد عمقا، وبعد جهــود مضنية تشيح بوجهها لتحجب عنه الرؤية دون أن تدرك أنها تفعل ذلـك وتتوقف فجأة وتنتهي الحمرة بين يديها بدلا من وجهها، وبعــد هذا العمل التمثيلي البطولي لم أجد خدعة، فقد بدا لي تعبيرهــا  ذا تأثير أصيل مكمل للخيال الدرامي . وفي الفصل الثالث، من مسرحية غادة الكاميليا، حين نهضت بوجه مختلف وهي تجهش بالبكاء . وكان هذا البكاء محميا بالاندفاع الى الخضوع، سواء  بالتخيل أو بدون التخيل، ولكن احمرار وجههـا لم يبــرر هــذا  ولا بد أن أعترف ببراعتها الاحترافية المكثفة لأنها تأتي دائمـا بشكل تلقائي .
ما يحدث لنا أثناء قراءة هذين التقريرين عن اللحظات الرائعة في المسرح هو أعجوبة حساسيتنا تجاه منطقة السلوك التي يحدث فيها فعل التمثيل . ولادراك التطور الطبيعي لحمرة الوجه كعمل تمثيلي بطولي، لا بد أن نضع في اعتبارنا تصنيفين : الحقيقي والمتخيل اللذين يذوبان في ظاهرة واحدة . فكيف يمكن أن نرى الحقيقي فنا، في حين أن الفن يكمن بدقة في جعل المتخيل حقيقي ؟ وبرنارد شو بالطبع ليس متفرجا عاديا، بل يصف بالتأكيد شيئا يخص “ دوس” يجعل المشاهدين يأتون لمشاهدتها . وهنا في الواقع يكون لدينا نافذة مباشرة تطل علي الغاية من التمثيل، ف “ دوس « لا تخدعنا وهي تؤدي دور « ماجدة « بقدر أكبر مما فعلت «سارة برنارد « . لسبب بسيط، هو أن المسرح ليس مكان الايهام، اذ يقول سارتر بوضوح « يجر الممثل كبرياءه في حقيقة أنه قد يكون مقبولا لكونه « الشخصية « بشكل جيد، حتى لو لم يعرف أحد أنه لم يكن كذلك انطلاقا من ذاته . ولذلك نرى أحيانا أن الأسلوب يخرج أكثر جمالا عنه في أحيان أخرى . وقد كان سيمونز وبرنارد شو مبهورين بالممثلتين «  برنارد ودوس « . فهما ممثلتان كبيرتان لانهما تأتيان بالحقيقي في شكله المحض، وخيالية شخصيتي « ماجدة « وفيدرا « هي وسيلتهما . وربما من الخطأ هنا أن نرفض العنصر المتخيل في الأداء . صحيح أن سيمونز وبرنارد شو ربما كتبا بسهولة عن الشخصيتان اللتان تؤديهما «برنارد ودوس « دون الاشارة الى الوسيلة التي جعلتهما تتوصلان مع الشخصيتين . ولكن كما يحدث، كانتا تقدمان الفن في الممثلة، وكيف يوجد كموضوع لانتباهنا . ف»دوس” تختفي بهدوء في الشخصية، وتحول برنارد الشخصية الي تعبير عن الحالة المزاجية . وفي حالة دوس يكمن السحر في أن المرأة فهمت الشخصية بشكل جيد ويمكنها أن تجبر نفسها علي تصور أنها يمكن أن تكون هذه المرأة التي تستغني عنها في الأداء، بمعنى أنها أخضعت نفسها لهذه العملية . وفي حالة برنارد فان المدهش أن تسمو المرأة فنيا بالتمثيل الخالص لتصل الي هذا المستوى المكثف الذي يستوعب فيه المتخيل بنفسها ( أو كما يقول شو ) – الشخصية .
صيغة المشاركة :
     كان بامكاني اختيار مصطلح أقل سذاجة من « صيغة المشاركة» لوصف صيغة الأداء الثانية . ولكن هذا المصطلح يوحي بالفكرة الرئيسية : ازالة المسافة بين الممثل والمتفرج، ومنح المتفرج أكثر من مجرد دور مستتر في التبادل المسرحي . وبالطبع تختلف الدعوة الى المشاركة من الضمني الى العلني، ومن النموذج المرسوم الي الشفهي . والسمات الدالة هي أن خشبة المسرح تستخدم شكلا ما من التوجه الخطابي في علاقتها بالمتفرج . ويمكننا أن نفكر في هذا علي أنه صوت «نحن»، بمعنى أن المتفرج يشارك الممثلين في استغلال خشبة المسرح . ولكني أفضل المحافظة علي المعنى الجاد لضمير المخاطب “ أنت” باعتباره المخاطب في فعل الكلام . باختصار، لو كانت “ نحن “ تتحدث الي نفسها، فلا بد أنها تنقسم الى «أنا» و « أنت» . وربما ترمز الي هذه الصيغة في الكلام الجانبي الكوميدي الذي يفترض أن المتفرج مشارك في اقامة الشراك والخداع، أو بشكل آخر، يؤدي الممثل شخصية تعيش في عالم يتضمن المتفرج . وبشكل عام، هذه هي الفرضية الخيالية للمسرحية الآن . ثم تضطلع بشخصيات معينة، لأنه من الصعب علي الكوميديا أن تفعل ذلك ان كان عليها أن تتضمن المتفرجين في تطورها . علاوة علي ذلك، فان الممثل الذي يؤدي كلاما جانبيا أو مونولوج للمشاهدين فانه يكون دائما داخل عالم المسرحية، لأن المتفرج الذي يتوجه اليه هو فكرة متفرج . والمتفرج هنا له فعلا مكانة الشخصية الموثوق بها في التراجيديا الكلاسيكية الجديدة، بعكس المتفرج الفعلي الذي يحاول مسرح المشاركة الحديث أن يربطه شفهيا بالمسرحية . ولكن الكلام الجانبي الكوميدي مع الافتتاحية يوحيان بحرية كاملة تتبناها أغلب المسرحيات الكوميدية مع متفرجيها . وتدفق هذه الحرية ليس هو ببساطة الاشارة الى المتفرجين، فنحن غالبا نقول ان الكوميديا تعكس ذاتها في تقديم الضحك .
     والطريقة المفيدة لمناقشة صيغة المشاركة في الأداء هي مقارنة الارتباط بين الكوميديا والتراجيديا باعتبارهما نقيضين متعارضين بالنسبة للمتفرجين . فنحن نقول غالبا ان الكوميديا تثير الضحك ولتراجيديا تثير البكاء والدموع . والحقيقة هي أن الميلودراما هي التي تثير الدموع، بينما تثير التراجيديا الصمت . ونقطة التمايز هي أن التراجيديا شكل غير قابل للمشاركة أثناء أدائها . فالتراجيديا تخلق تجربة تقمص في حين أننا نذوب فيما يمكن أن يسمى الوحدة المحسوسة بعمق في السكون التام لقاعة المسرح عندما تقول الشخصية التراجيدية أشياء مثل « انك لن تعود ثانية»، لأن ما يشاركه المشاهد في هذه اللحظات، وفي المسرحية عموما، هو شيء أقل أهمية . وربما يعرف الممثلون أن القاعة كلها، كما يقول «هاملت»، ملفوفة بالسحر، ولكنه شيء خاص . وكما هو الحال في التجربة الميتافيزيقية، تقدم المسرحية التراجيدية الاستعداد التمثيلي لاكتشافها . فما تميل التراجيديا لاعطائه لنا، في النهاية، هو مشاهد بديل للواقفين علي خشبة المسرح، ويظهر مشاعره في قاعة المسرح . فعبارة مثل عبارة « كنت « ( « انكسر ياقلبي .. أتوسل اليك أن تنكسر «) تستخدم كقوة مضيئة تؤسس الاستقلال العاطفي في المسرحية .
     واضح أنه من الخطأ أن نقول ان التراجيديا لا تعترف بالمتفرج عموما . فالتراجيديا الاليزابيثية في تطورها من المسرحية الأخلاقية لم تتوقف عن وعيها المسرحي بذاتها . فشخصيات مثل « آرون” و “ادموند” و “ ياجو « تتحدث بسهولة مع الملقن أو علي الأقل مع تقاليد الملقن . ولكنهم جميعا أشرار ومدبرو مكائد، ولديهم شيء مشترك مع المهرج في الحبكة التراجيدية الفرعية : يبدو أن الشخصيات التي تتعامل مع المتفرجين في التراجيديا هم المهرجون والأشرار . وهذه الممارسة ليست محصورة في الدراما الاليزابيثية، اذ يبدو أن الفكاهة والخيانة تنجذبان طبيعيا الي أضواء مقدمة المسرح، ل، الفكاهة تبدو ناقصة بدون المتفرجين، ولا يجب أن تضيع الخيانة المسرحية جيدة التحفيز اذا استطاع الشرير أن يفوز بتأييد المتفرجين . فالشرير في العصر الاليزابيثي، مثل لاحقه شرير القرن التاسع عشر، هو ما يسميه كينيث بورك « كاتب الكاتب المسرحي « . اذ يبدو أنه يقول لنا « تصور أني شر محض، وان لم أسأل نفسي فسوف أكون سببا لاهتماك بالآخرين « . وبعيدا عن الأشرار في مسرح شكسبير الذين لا يمكن وصفهم بالملل، من الصعب أن نشعر بأي شيء تجاه شخصيات الأخيار بسهولة، لأنهم لا يبدو أنهم يتحملون أي أعباء سوى المسرحية . انهم موجودون بشكل مهمل علي مستوى الصرامة والجدية التراجيدية . فمن غير المتصور لشخصية مثل «لير» أو « ماكبث « - أو « هاملت «، الذي هو قرين المهرج، أن تظهر الألفة للملقن لأن هناك شيئا ما هو اختصار المسافة الجمالية التي تمنح الشخصية التراجيدية الكذب والتعاطف . لأن الشخصية التي تتوجه الي المتفرجين تتبنى موضوعية ما تجاههم وتمنح تفوقا لعالم المسرحية . وهذا صحيح حتى فيما يتعلق بالبطل التراجيدي الذي يعلق علي الحدث، مثل شخصية « كوينتين « في مسرحية أرثر ميللر و « توم وينجفيلد” في مسرحية تينسي ويليامز، اذ أنقذوا التراجيديا مثلما أنقذها « هوراشيو”، وكما تقول العبارة  في مسرحية “ الملك لير “ “ هذا ليس أسوأ شيء ما دمت بقيت حيا لكي تقول انه كان أسوأ شيء “ .
     والضحك في الاطار التطهيري هو النقيض الجدلي للسكون التراجيدي، وكما يعرف الجميع، فانه من الصعب أن نضحك في مسرح نصف ممتلئ . وربما الأصعب أن تقدم كوميديا يُفترض أنها تثير الضحك . ففي أحد خطاباته يسأل « كيركيجارد « صديقه الأجنبي « هل ضحكت يوما وأنت وحدك ؟» ويستنتج من ذلك أنه لابد أن يكون غريب الأطوار حتى يفعل ذلك . يستتبع ذلك أن النوع الفني الذي ينتج الضحك للناس هو الشكل الأكثر اجتماعية من أي شكل درامي آخر، بالطبع باستثناء القناع . وأن التراجيديا هي شكل لا اجتماعي علي الأقل من وجهة نظر المنطق العاطفي . فالتراجيديا كما يقول « لوكاتش” هي فن لحظات الموت، فن الوعي باللحظات الأخيرة، اذ عندما تتوقف الروح عن الوجود، تتشبث بعمق وحميمية بما تملكه . ومن الممكن أن نضيف أن الكوميديا  هي علم لحظات الحياة والتأكيد بأن الثراء الواسع للوجود هو المهم فعلا وأن الموت يمكن يمكن تأجيله . وأنا لا أعزو الأداء في الكوميديا الي صيغة المشاركة، بل أقترح فقط أن الكوميديا كامتداد لموضوعها تشجع علي التقارب بين الفن والمتفرجين بطريقة مغايرة للدراما. وهذا المبدأ الاجتماعي لا يقف عند حد الدراما الملائمة لأن جيران الكوميديا هما الواقعية والسخرية وأن ما ينشطهما هو معيار الحياة الاجتماعية التي تكمن في أساس الكوميديا . فأنا مثلا أفكر في الممثل البريختي وهو يؤدي بصيغة التعبير الذاتي، لأنه يظل وبدرجة ملحوظة المؤدي الواقف خارج الدور . ولكن هذا ليس تعبيرا عن الذات فعلا، بمعنى أن الأداء والبراعة الفنية هي مركز الاهتمام، فابتعاد الممثل عند بريخت وانفصاله عن الدور هو استراتيجية للايقاء علي المتفرج علي المستوى الموضوعي عند مشاهدته للمسرحية . علاوة علي ذلك فان الممثل عند بريخت كما يقول بول هيرنادي “  يجب بلا شك أن يتطابق مع المؤلف أو المخرج علي الأقل بقدر ما يتطابق مع نفسه، والركيزة النفسية الفيسولوجية للشخصية التي يلعبها، بمعنى أن يظل مؤديا بشكل واضح . اذ يمكن أن يجد الممثل عند بريخت كل أنواع فواصل التعبير عن الذات في النص البريختي، ولكن باعتباره الممثل الذي يملك علاقة لا تمثيلية تجاه المتفرجين، وأنه يعمل بصيغة المشاركة بشكل أساسي .
      ومن خلال الارتباط الواضح يمكننا أن نستنتج تناظرا بين صوت المخاطب وصوت الملحمي، والذي يمكن أن نقابله بصوت المتكلم الغنائي ( أو صوت التعبير الذاتي ) . ولاشك أن مصطلح « الملحمة Epos “ أو العمل ذو التوجه الشفهي، عند فراي هو الأكثر ملائمة . ولكني أفكر في الملحمي باعتباره الشكل الذي يتحدث به الشاعر الى أبناء وطنه عن مسائل قومية، أو يستخدم عادة ضمير الغائب ا، الحكي أو وجهة النظر ( مثل « عندئذ قام هيكتور وذبحهم جميعا «) . ولكن الشيء المتضمن في أسلوب التبادل هو الألفة والقدسية . فالملحمي يتوجه للمشاهدين من مقدمة المسرح، لأنه يمكن يوجد شيء بسيط عن الأمجاد البطولية لأمة أخرى في غناء الشاعر الملحمي . والتمثيل الملحمي كشكل متوائم مع المسرح، فمن الممكن تحديد أغلب أنواعه في الصيغة الثالثة أو الصيغة التمثيلية، بالتوازي مع التراجيديا. ولكن الممثل عند بريخت هو ممثل غريب، لأنه يريد أن يتحدث الى أبناء وطنه عن المسائل الوطنية التي يجب أن يسمعوها، ولكنه في أغلب الأحوال لا يقدم محاكاة، بمعنى أنه لا يريد أن يلفظ شيئا من الشخصية الوطنية . ولذلك يتحدث اليهم كما قلنا بشكل فصامي، وبنقد ذاتي لما يفعله كشخصية . ولذلك  ينحاز الى المتفرجين بذات ناقدة، وليس الذات التي يجسدها . انها استراتيجية مماثلة لاستراتيجية الواعظ الذي يقول « أقف أمامكم باعتباري أحمل خطيئة» . فالاعتراف يستخدم لابعاده عن الخطيئة . ولأن بريخت يستخدم ذلك، فان هذه الاستراتيجية مثيرة للسخرية : انها وسيلة لرفض خطيئتك في فعل عرضها، ولكن الكوميديا ليست بعيدة أبدا عن عالم بريخت .
     من الممكن أن يكون لدينا مسرحا من خلال التوجه مباشرة الى المتفرجين : عن طريق تفادي كل محاولات التظاهر في التمثيل والتعبير عن الذات . وهذا هو افتراض مسرحية بيتر هاندكه “ اهانة المشاهدين»، فهذه المسرحية تنكر بشكل ظاهري أنها تنتمي الى أي نوع من أنواع الأداء المسرحي . فالمتكلمون الأربعة ليسوا ممثلين، ولا يؤدون تمثيلا، ولا يتكلمون مع بعضهم البعض . ولا يتحدثون عن أنفسهم كشخصيات («كلامنا هو التمثيل») . ولا توجد حبكة ولا توجد، ولا أي اعداد للمشاهد ( « هذه الألواح لا تعني أنها العالم .. انها جزء من العالم» )، ولا توجد ترتيبات اضاءة تفصل المتكلمين عن المتفرجين، وقد تم استبعاد كل ما يمكن أن يجسد المسرح ويتغذى عليه، فيما عدا بنية العلاقة بين الممثل والمتفرج . والمضمون مكرس لقلب هذا الأثر المسرحي رأسا علي عقب . وهدف المسرحية ليس اهانة المتفرجين، بل جعل المشاهد هو بطل الحدث وفكرته الرئيسية .
     فهل يمكن تسميتها مسرحية ؟ . والاجابة هي أنها بالطبع كذلك . فالممثلون لم يتركوا خشبة المسرح واستبدالهم بمتكلمين . ويمثلون دور المتكلمين الذين يرفضون أنهم ممثلون . وهناك ديكور مرسوم غائب بشكل واضح، واضاءة ملائمة تماما تلقي الضوء على أي تغيير مفاجئ في المسرحية : ادراك المشاهدين والاطاؤ التراجيكوميدي القديم، واعداد الموائد، باختصار هناك محاكاة طوال العمل . واذا كان لا بد للممثل عند هاندكه أن ينسى سطور دوره، فانه سوف يكون في نفس مأزق الممثل عند بريخت أو أي ممثل آخر . ويعي هاندكه كل هذا، عندما يقول أحد المتكلمين في مسرحيته « هذه المسرحية كلاسيكية»، دون أن يوضح الى أي مدى هي كلاسيكية .
     تكمن أصالة المسرحية فيما يمكن أن نسميه « المخاطبة You-ness”، أو المستوى الخاص الذي يتأثر من خلاله التقارب بين المشاهد والممثل . وأشك كثيرا فيما لو كان روسو قد تذوق عمل هاندكه، ولكن هناك جزءا وصفيا في مقال جاك دريدا عن روسو، يوضح ما تهتم به مسرحية اهانة المشاهدين، وهو شوق روسو الي عرض مسرحي له حضور :
 “ ولكن ما هي خشبة المسرح التي لا تقدم شيئا للعين، انها المكان الذي     لم يعد فيه المتفرج هو من يقدم نفسه اما كمشاهد أو كمشاهد . ويمحو من داخل ذاته اختلاف الممثل والمتفرج، والشيء الممثل representing والشيء الممثل represented ، والرائي والمرئي . بهذا الاختلاف، لن تؤسس سلسلة الاختلافات نفسها واحدة تلو الأخرى . فالحضور سوف يكون كاملا، وليس كالشيء الحاضر للرؤية، ولكنه يهب نفسه للبديهة كوحدة تجريبية . أو مثل الأفكار المستقلة التي تضع نفسها مع أو ضد . وسوف تكون مفعمة بحميمية الحضور الذاتي مثل وعي أو عاطفة التقارب أو التماثل الذاتي. “ .
 في الواقع تتحول المخاطبة الى نوع من « الكلامية me-ness” والشيء الغريب هو ألا يصبح المتكلمون حميميين في سلوكهم مع المشاهدين، بل يصبحون حميميون في المادة . فهم لا يعاملون الجمهور كجماعة محتشدة، بل يشيرون بشكل متزايد الى صور الخصوصية الفردية : غمضات العين، والتنفس، وابتلاع الريق والجلوس والشم والتعرق، ومدركات الانتباه غير القابلة للمقاومة، لأن الكلام أصبح نوعا من المسبار التشريحي (لماذا .. كم أنتم واعين بذواتكم ) بمعنى آخر، لو قال لك أحد « هناك بقايا طعام علي ذقنك، فان الجسم يترك كل ما يفعله ويتعامل مع تلك المشكلة . وهذه أكثر الأشياء اهانة في العرض . ولكن لأن المتكلمين يقولون كونها مهينة، في هذا السياق هو طريقة جيدة لكسر الحائط :
 “ انها ليست افتتاحية لعمل آخر بل افتتاحية لما فعلته، وما تفعله
 وما ستفعله . أنت موضوع هذا العمل، وهذه الافتتاحيـة هــي  الموضوع . انها افتتاحية لممارساتك وأزيائك . انهــا افتتاحية   لأفعالك، وخمولك، انها افتتاحية لنومك وجلوسـك ووقوفــك  ومشيك . انها افتتاحية للمسرحيات وجدية حياتك . انه أيضــا   مقدمة المستقبلية للمسرح . انهــا أيضا افتتاحيــة لافتتاحــيات   أخرى . فهذا العمل مسرح عالمي . “
المنطق هنا يشبه منطق مسرح بريخت الذي يتميز بالاغتراب واعادة المشاهدين الي العالم بوعي جديد . ولكن لا يوجد شيء سياسي في خطة اعداد هاندكه . ان ما تحاول أن تفعله المسرحية كافتتاحية هو تحويل انتباه المشاهد العادي الى حدث المسرح الذي يشير الى ذاته . يرجع الى عالم ما قبل أو ما بعد عالم المسرحية . وهو ليس البرنامج الذي يرجح أن يعمل وراء رحلة الرجوع، وهو لا يزيد عن برنامج بريخت أو أي برنامج اجتماعي اصلاحي آخر . ولكن هذا لا يهمنا هنا . لأن مسرحية « اهانة المشاهدين» تحمل مبدأ المشاركة الي حد غامض . وهو أداة متفوقة لاثارة موضوع طبيعة العملية المسرحية والخبرة للدارسين الذين لم يفكروا كثيرا في الارتباط الفينومينولوجي بين المسرح والحياة، أو ارتباط المسرحية بالمشاهدين، لأن مسرحية هلندكه تعرف المسرح أثناء تعريته، وتخلقه وهي تزعم أنها تهدم منطلقاته . وكما يقول دوجلاس هوفستاتر “ ان المسرحية فيها بلاغة غريبة، بمعنى أنه في الوقت الذي يعري فيه المتكلمون مستويات المسرح، الواحد تلو الآخر، يتركون المشاهدين في حالة تنوير ذاتي . ونجد أنفسنا قد رجعنا بشكل غير متوقع من حيث بدأنا . ف هاندكه، مثل عالم الرياضيات « جودل «، يستخدم الاشارية الذاتية للمسرح كتفسير لماهية وكيفية عمله . وربما يؤثر، مع المؤدين الملائمين والمشاهدين، في عواطفنا مثل مفارقة « ايبيمينيدس Epimenides” “هذه الجملة زائفة “ .
الصيغة التمثيلية :
     الفكرة العامة للصيغة التمثيلية متضمنة في كثير مما قلناه عن الصيغتين السابقتين . في الواقع، تعرض الصيغتان، التعبيرية عن الذات، والمشاركة في الكلام والاستماع، المسرح في شخصيته المنفتحة، أو ما يمكن أن نسميه « مغازلة الريش courtship plumage  « . ففي الحالة الأولى يتقدم المؤدي ويدهشنا بامكانياته وبراعته الفنية . وفي الحالة الثانية، تقول خشبة المسرح للمشاهدين «لماذا لا نتظاهر بأن كل هذا ايهام . فنحن فيه جميعا . ونفعل ذلك من أجلك « . وربما كانالمصدر الأكثر ثباتا في قوة اغراء المسرح هي الدراما المتعلقة بموضوعها، أو باستخدام مصطلح أرسطو بشكل فضفاض « قوة المسرح هي ممارسته « . فمهمة المسرح اللانهائية هي أن يدور حول شيء، فهو لا يحكي عن الناس، بل يحكي عن أفعالهم، في فرحهم وحزنهم . المسرح في النهاية تمثيل، وكل ما قلته هنا  علي سبيل تعديل منظورنا علي أساس تمثيلي لا يختزل أهميته، حتى في حالتي الأوبرا والتمثيل الصامت . ويمكننا أن نجادل بأن الرقص، في بعض أشكاله الحديثة، لا يحتاج موضوعا لتمثيله : مثل رقصة تنويعات علي الشكل الكروي . ويعتمد نجاح الحجةهنا علي الكيفية التي يمكن من خلالها اثبات الكروية بذاتها، لنموذج لترتيب الجسم حتى يخضع نفسه لها، ولذلك فهي ليست موضوعا للتمثيل .
     وفيما وراء صيغة الأداء التمثيلية، ومفهومنا لها الاحساس المشترك بأننا نأتي الى المسرح أساسا لمشاهدة مسرحية، وليس مجرد أداء . واستمرارا لتناظر الاستبطان مع الغنائي والملحمي المشارك، يمكن أن نصف الصيغة التمثيلية بأنها الدرامي في التقديم المسرحي – مفتاح ضمير الغائب  هو وهي وهم – الذي ننظر فيه بموضوعية الى الدراما ذات البداية والوسط والنهاية التي تحدث أمام عيوننا . ويبدو أن كل طاقات الممثل الفنية تميل صيرورته الي شخصية، وبالنسبة للمشاهدين فانه ممنوع عليهم  أن يكونوا طاقات فنية، بل يصيرون حقائق لطبيعة شخصيته . ولا علاقة للأمر بالمصداقية  هنا، فالمشاهد يرى من خلال العلامة اللغوية للفن ليصل الى المدلول من ورائها . فالمسرحية ليست نصا جديدا يمكن أن يظهر من خلال سحر المسرح، بل هي الآن تجسيد لخبرة انسانية ذات مغزى . وحتى لو كانت المسرحية أكثر الكوميديات تفاهة، فانها شيء يمكن أن نختفي بداخله لأنها عن أناس ( مضحكين تافهين ) . ولذلك تكمن البراعة الفنية في قوة الموضوع، والمشاركة في الاتفاق المتبادل بين الممثل والمشاهد وملائمة الموضوع لمجتمع من الناس .
    قبل الانتقال الي الصيغة التمثيلية، يجب أن أؤكد علي معالجتي لهذه الصيغ الثلاث وكأنها حدثت بشكل بحت هو أمر ملائم للتعريف . ان قدرتنا على دمجهم أو الابقاء علي واحدة منهم في وعينا الادراكي هو الذي يضفي عمقا وملمسا لتجربة المسرح . المسرح ليس مجرد قصة مثيرة للاهتمام يتم أداؤها، انه تعاون، ومجموعة من الافتراضات المهذبة عن حضورنا أمام شيئين آخرين ( وهذا هو السبب في أن التدريبات ليست أداء ) . ولذلك لا يوجد عدم توافق بين هذه الصيغ : فهي تتعايش معا باستمرار ( علي مستوى ما ) علي نفس خشبة المسرح، وربما نسمعهم معا أو بالتتابع، فربما نختار نوعا ما أن نسمع المزمار أو الكمان أو الأوركسترا بالكامل . وربما يكون هناك بعض التفصيل في هذه النقطة . افترض أن هناك شخصية تتحدث مباشرة، بشكل مشترك، الى المشاهدين ( بالطبع دون أن تخرج عن عن الشخصية ) : فهل يتضاءل الجانب التمثيلي للحظة ؟  ربما .. ولكن ليس بالضرورة . انها حقا مسألة نوع التمثيل الذي تم انشاؤه بواسطة المسرحية (او العرض) . وأحد افتراضات الواقعية المباشرة، مثلا، هو أنه لا يوجد اعتراف بحضور الجمهور، لأن المسرحية جادة جادا في كونها واقعية، ولا تكاد تخدم مصالح عرضا مثل « استيقظ وغني Awake and Sing”، اذا أدى موريس كارنوفسكي بعض السطور أمام جمهور لم يكن من المفترض وجوده . ولكن انتهاك هذا المبدأ، المعد بشكل صحيح، يتوافق مع كل أشكال الواقعية كما نرى في كلام «توم وينجفيلد “ ( “ هذه المسرحية ذكرى “ ) في بداية مسرحية “ اللعب الزجاجية Glass Menagerie” . والغرض من مبدأ المشاركة هنا هو تضمين الدراما في الاطار الأوسع لوعي « توم» الانعكاسي، وليس أقل واقعية من كونه خارج الفعل الدرامي أو داخله . بمعنى آخر، عندما تستدعى صيغة المشاركة لأهداف موضوعية، فلن يكون ذلك أكثر تدميرا لايهام خشبة المسرح، حتى لو كان أكثر واقعية من النظم خماسي التفعيلة أو الأغنية في الأوبرا . انه ببساطة وسيلة لتعديل اقتراب الجمهور الايهامي من الفعل .
....................................................................................
برت أو ستاتس (Bert O’States 1929 -2003) ناقد مسرحي واستاذ للفنون المسرحية بجامعة كاليفورنيا – سانتا باربرة بالولايات المتحدة . ومن أهم كتبه :
توقعات كبيرة في غرف صغيرة: حول فينومينولوجيا المسرح Great Reckonings in little Rooms: On the Phenomenology of Theater  1984
الأحلام وسرد القصص Dreaming and Storytelling  1993
متعة اللعب The pLeasure of Play  1994 .
نشرت هذه المقالة في الفصل الثالث من كتاب « تأملات في فن التمثيل Acting Recondered  “ الذي أشرف علي اصداره  “ فيليب زاريلي “ وقد صدر عن روتليدج عام 2002.


ترجمة أحمد عبد الفتاح