عرفت الهوى نفحات في العشق الإلهي

عرفت الهوى  نفحات في العشق الإلهي

العدد 844 صدر بتاريخ 30أكتوبر2023

بمناسبة الذكرى العطرة لمولد سيد الخلق رسول الإنسانية نبينا الكريم سيدنا محمد -عليه أفضل الصلاة وأتم السلام- قدم قطاع شئون الإنتاج الثقافي برئاسة المخرج الفنان خالد جلال القائم بأعمال رئيس البيت الفني للمسرح، على خشبة المسرح القومي، الأمسية الشعرية الغنائية «عَرَفتُ الهوى» فكرة وإعداد وإخراج الفنان خالد عبدالسلام، من إنتاج فرقة المسرح القومي بقيادة الفنان الدكتور أيمن الشيوي.
جاء اختيار خالد عبدالسلام لاسم الأمسية من عنوان قصيدة لسيدة العشق الإلهي رابعة العدوية، واتبع ترتيبا معينا في الأمسية، فقد اختار أبياتا من قصائد شعرية لشعراء من عصور مختلفة دون ترتيب زمني للقصائد أو الشعراء، بل بترتيب خاص وضعه لبناء عرض مسرحي، يعني به التطور والتصاعد في رحلة العشق التي اصطحبنا معه فيها بكل الحب والإحساس الصادق والمعايشة الحقيقية، فتمازجت أرواح الجمهور مع روح العرض، وحلق بنا إلى أسمى درجات العشق والحب. واختار نماذج من أقطاب الشعر الصوفي مثل رابعة العدوية، والحلاج، وابن الفارض، والسهروردي، وأبو مدين الغوث، وبجانبهم اختار نماذج من الشعر الصوفي المعاصر لأحمد بخيت، وعمرو فرج لطيف، هذا بالإضافة لقصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي (نهج البردة) الذي وظفها توظيفا جيدا، بحيث جعلها تحتضن كل القصائد الصوفية بالعرض، فقد بدأ بالجزء الخاص بالإلقاء بقصيدة (نهج البردة) وأنهى بها الأمسية. واختيار أشعار للتقرب إلى حب الله ورسوله، والساعي وراء هذا الحب يتغير وينضج أثناء رحلته، من الداخل والخارج، حتى يصل إلى أن يعرف الهوى في العشق الإلهي، ويصبح من أهل التصوف، ثم يصل العاشق إلى مرحلة إخفاء هذا الهوى في العشق والاحتفاظ به داخل قلبه وفؤاده، ويناجي ربه بأن يزيده بفرط حبه، ويطمع في رؤيته، ويصبح في حيرة من أمره لأن يقينه بأنه لن يرى الله رؤية العين في الدنيا، لكنه يلح ويلح رغم أنه يعلم الجواب بأنه لن يرى، فهذه الأمسية تدعو إلى الحب والتسامح، وبهما يتطهر الإنسان وتصبح روحه صافية محبة لكل الكائنات، وقد قدمت الأمسية بوسائل مسرحية جمالية متسقة ومتناغمة.
بدأ العرض قبل فتح الستارة بداية جاذبة؛ إذ سمعنا صوتا لدفوف، ثم ينفرج الستار بسرعة بطيئة متناغمة مع إيقاع الموسيقى لنرى المنظر في جو إضاءة خافية ملائكية، ثم نستمع لقانون ثم بقية الآلات. وعندما فتحت الستارة كاملة مع بداية الغناء شاهدنا الفرقة الموسيقية المكونة من الملحن والمطرب المايسترو محمد عزت ومعه المطربة رحاب مطاوع والعازفون: «جيتار (محمد حزين)، عود (داليا حافظ)، أورج (سيف وائل)، كمان (لواء حمدي)، بيز (مصطفى معتز)، رق (مصطفى كرم)، طبلة (أحمد علي)، قانون (طاهر محمد)»، مع  (فريدا أسامة، نورا حسني). والكورال: «(فاطمة سيد – مريم نبيل – أحمد نبيل – نبيل حامد – سعد عادل – حمزة نبيل)»، ورددوا «اللهم صلِ على سيدنا محمد». ونسمع أغنية من أبيات قصيدة (بردة الرسول) لأحمد بخيت، بدأت «هَذا مَقامٌ كريمٌ، لا يليقُ بهِ.. إلاّ فؤادٌ كريمٌ في مَحَبَتِه – لولا المَحبةُ لمْ تثبتْ بنا قدمٌ.. منْ خشيةِ اللهِ، إجلالا لِرَحْمتِهِ – الأولياءُ وقوفٌ خلفَ رايتِهِ.. والأنبياء صفوفٌ دونَ سُدَّتِهِ» غناء (رحاب مطاوع)، فكانت البداية بالتضرع والخشوع، ثم يبدأ (خالد) بإلقاء أبيات من قصيدة (نهج البردة) لأحمد شوقي.
يتصاعد الحب ويزداد السير في طريق النور الإلهي، ويقدم  فاصل موسيقي بسيط، يسطر عليه صوت البيز مع همهمات الكورال، ثم يختار أبيات من قصيدة (عرفت الهوى) لسيدة العشق الإلهي رابعة العدوية، ويبطن الإلقاء بعزف على العود، ومنها «عرفْتُ الهَوى مُذ عَرَفْتُ هواك.. وأغْلَقْتُ قَلْبي عَلى مَنْ عَاداكْ، وقفْتُ اُناجِيكَ يا مَن تَرى خَفايا القُلُوبِ ولَسْنا نراك، أحبُكَ حُبَّيْنِ حُبَّ الهَوى.. وحُبًّا لأنَكَ أهْلٌ لِذَاك، فأما الذي هو حُبُّ الهَوى.. فَشُغْلِي بذِكْرِكَ عَمَنْ سِواكْ»، وتلك القصيدة تعتبر من أشهر قصائد العشق الصوفي، وتبين مدى حب رابعة العدوية لله -سبحانه وتعالى- التي عرفت معنى الهوى والحب، فهو الحب الحقيقي الذي ليس فيه أوجاع ولا أحزان، وهو الحب النابع من القلب والفؤاد الممزوج بالعشق والشوق، والشعور بالسكينة والطمأنينة، فلم يعد مكان لغير الله ، ويختار كما يختار المحب من كل بستان زهرة، فيلقي لأشهر الشعراء المتوفين، ابن الفارض، من قصيدة (أخفي الهوى ومدامعي تُبديهِ)، ومن قصيدة (زدني بفرط الحب فيك تحيرا)، وينهل من شعر الحلاج من قصيدة (لبيك لبيك يا سري ونجوائي) وقصيدة (والله ما طَلَعَت شمس ولا غربت)، ويفصل بين قصيدتي الحلاج قصيدة (أَبدا تَحنُّ إليكم الأرواح) للشاعر السهروردي.
وينتقل بنا إلى أشعار أبي مدين الغوث، ويختار بعض أبيات من قصيدته (تذللت في البلدانِ)، ومن قصيدة (نحن العرايا) للشاعر المعاصر عمرو فرج لطيف، كما اختار بيتا واحدا من مجموعة «سبحانك ربي سبحانك» أشعار عبدالسلام أمين، ويقول: «سبحانك ربي سبحانك.. سبحانك ما أعظم شانك»، ثم يعود لينهل من أشعار عمرو فرج لطيف (مقام الصبر من ديوان قمر – تسابيح)، ويعود ليلقي من قصيدة نهج البردة، ويذكر رسولنا الكريم محمدٌ بتلوينات في الأداء مع استمرار الكورال والموسيقى، فقد اختار منها في مدح الرسول «مُحَمَّدٌ صَفوة ُالباري وَرَحمتُه.. وَبُغية ُالله من خَلقٍ ومن نَسمِ – وصاحِبُ الحوضِ يَوم الرُسل سائِلةٌ.. مَتي الوُرودُ وجِبريلُ الأَمينُ ظَمي»، ثم يعود الكورال في إصدار الهمهمات والآهات  مع الموسيقى ويكمل من القصيدة نفسها «محمدٌ أسرى بك الله ليلا.. إذ ملائكة والرسلُ في المسجد الأقصى على قدمِ – لَمَا خَطرتَ بِهِ إِلتَفَوا بِسَيَّدهِم.. كالشُهبِ أو بالبَدرِ أو كَالجُندِ بالعَلَمِ»، وتعود الهمهمات والموسيقى نفسها، ويقول: «صَلَى وَرَاءَكَ مِنهُم كَلُ ذي خَطَرِ.. ومَن يَفُز بِحَبيبِ اللَهِ يَأتَمِمِ»، وتبدأ الهمهمات والموسيقى ويتمازج بالغناء (محمد عزت ورحاب مطاوع مع الصوليست فريدة أسامة ونورا حسني)، ويعلق (خالد) ببعض من كلمات الأغنية، ويلقي بعض الأبيات من قصيدة نهج البردة، إلى أن تصل حالة الهرموني بين الجميع على المسرح، ويرتفع صوت الجميع متداخلا مع صوت الآلات بذكر الصلاة والسلام على سيدنا محمد، ليصفق الجمهور بشدة فهو الذي اندمج واستمتع بحالة العشق طوال العرض.
كان ديكور (مي كمال) تعبريا، فقد عبر عن التراث الإسلامي بلمسة حديثة، فكان يمثل بعض القطع الخشبية في بهو فسيح بأحد الأماكن محاط بستار من القماش الأبيض، وفي العمق وعلى ستارة سوداء من أعلى يظهر قرص القمر وحوله النجوم تضاء أحيانا كثيرة بإضاءة بيضاء، معبرا عن الحالة الروحية بموتيفات بسيطة دون تكلف أو تزيد.
أما أزياء (مي كمال) كانت عبارة عن ملابس عصرية، يرتدي الرجال فوقها عباءة بيضاء لخالد والكورال، وارتدى العازفون عباءة لونها بني لكسر رتابة اللون الأوحد لتعطي ثراء بصريا، وترتدي النساء فستانا أبيض وطرحة بيضاء.
قدم (محمد عزت) موسيقاه بشكل مدروس بالاتفاق مع المخرج باختيار الآلات الموسيقية التي تعزف صولو مع كل قصيدة، فعندما يقوم (خالد) بإلقاء مطلع من  قصيدة ما، ترد عليه الآلة بجملة موسيقية، وعندما يكرر هذا البيت بأداء آخر أو يعيد تكراره مع إضافة بيت آخر تدخل آلة أخرى، وتُترك الفرصة للعزف المنفرد لتحدث حالة من الانسجام مع إلقاء الشعر؛ ليوكد بالموسيقى على موضوع القصيدة والمعنى المراد، فنجد مثلا في قصيدة (نهج البردة) لأحمد شوقي التي اختار الأبيات من الجزء الأخير منها «يا رب صلِ وسلم ما أردت على.. نزيل عَرشك خيرِ الرسلِ كُلِهم – محيي الليالي صلاة لا يقطعها إلا بدمعٍ من الإشفاقِ منسجم»، يدخل الدف في البداية، ثم الكمان والقانون، ثم همهمات من الكورال ويبطن الأداء بالموسيقى، فقد بدأ المحب السير في طريق محبة الله بالابتهال، ويخطو خطوة للشعور بهذا الحب بالدعاء وإحياء الليالي بالصلاة ولا يقطعها إلا الدمع والحزن على ما فات، وتمنى الأفضل، وينمو هذا الحب ويتصاعد بالانتقال بطريقة الإلقاء والموسيقى نفسها، إلى أن تعلوا الموسيقى ويُكون المطرب (محمد عزت) والمطربة (رحاب مطاوع) دويتو غنائيا يخفت عند إلقاء بعض الأبيات الشعرية، ويرتفع في فترات الصمت، ليصل إلى حالة الذروة في الأمسية، فنسمع صوت الدف فقط عند إلقاء قصيدة (لبيك لبيك يا سري ونجوائي) للحلاج، ومنها «لبَّيكَ لبَّيكَ يا سِرّي وَنَجوائي.. لبَّيكَ لبَّيك يا قَصدي وَمَعنائي – أَدعوكَ بَل أنت تَدعوني إِليَكَ فَهَل.. نادَيتُ إِيّاكَ أَم نادَيتَ إِيّائي»، ويختار من هذه القصيدة كثيرا من الأبيات التي أنهاها بإلقاء «ذاكَ العَليمُ بما لاقَيتُ من دَنفٍ.. وفي مشيئتِهِ مَوتي وَإِحيائي»، والخالق -سبحانه وتعالى- رب العالمين يعلم مدى حب وعشق عبده المخلوق له وحده، فدنف العاشق جعله يتهالك في حبه فمرض، فثقل مرضه ودنا من الموت، وفي مشيئة الله موته وإحيائه.
كانت إضاءة (أبو بكر الشريف) بطلا من أبطال العرض أضفت على الأمسية المتعة البصرية، فقد تفنن في تجسيد الحالة الدرامية بتعدد للدرجات اللونية، والتركيز على الحدث، فيركز بشدة الإضاءة مستخدما اللون الأصفر أو البرتقالي على (خالد عبدالسلام) عند إلقائه حسب الكلمات والحالة الوجدانية، وتخفت الإضاءة على الجميع، أو تشتد قليلا لتسلط على العازفين والمطربين والكورال موزعة بشكل جمالي بتداخل اللون الأزرق والأخضر والروز والبرتقالي والأصفر، وتخفض الإضاءة على (خالد) في حالات الصمت.
«عَرَفتُ الهوى» نفحات في رحاب العشق الإلهي، وقلما نشاهد مثل هذه الأمسيات، التي قدمت من خلال فنان متمكن من أدواته، فقد نجح (خالد عبدالسلام) في إعداد وإخراج فكرته عندما حول أبيات تراثية وحديثة من الشعر إلى دراما تمثيلية، الذي كان صادقا في عمل معايشة كاملة لحالة الشعر بالانتقال من حالة إلى أخرى، فهو متخصص في تدريس فن الإلقاء بالمعاهد والأكاديميات المتخصصة، ومتمكن من قواعد اللغة العربية ونطقها نطقا سليما يشعرك بأنه يتحدث العامية من عذوبة أدائه، فهو من المتفردين في فن الإلقاء والتلوين في الأداء الصوتي الذي صاحبه بالتعبير الجسدي، فكان ينظر أعلى المسرح كأنه ينظر إلى السماء لمناجاة ربه، أو النظر للجمهور ليحسه إلى مشاركته الحالة الروحية والعودة إلى الله، وبالفعل شاركه الجمهور هذه الحالة من العشق الإلهي، وردد كثيرا كلمة الله مستحسنا الحالة الشعورية، وكان يكمل بعض كلمات القصيدة قبل أن ينطق بها (خالد) الذي كان يعلق بعضا من هذه الكلمات في إلقائه، فعلى سبيل المثال علق كلمة أبيه ليرددها قبله الجمهور؛ عندما اختار من شعر ابن الفارض قصيدة (أخفي الهوى ومدامعي تُبديهِ) ومنها «أُخفِي الهَوَى ومَدامِعِي تُبديهِ.. وَأُمِيتُهُ وَصَبَابَتِي تُحِيِيِه – وَمُعَذّبِي حُلْوُ الشَّمائِلِ أَهْيَفٌ.. قَدْ جمعتْ كُلَّ المَحَاسنِ فيهِ – فكأنهُ في الحُسْنِ صُورَة يُوسفٍ – وكأَنني في الحزِنِ مِثْلُ أبيهِ»، فمن صدق المشاعر وحسن أداء (خالد عبدالسلام) ذابت روحه واختلطت جوارحه بالعشق الإلهي، وأبهر الجمهور وحلق بهم إلى عالم سماء الحب الذي دعت له جميع الأديان.
التحية واجبة للفنان (خالد عبدالسلام) ومساعديه: (هالة صلاح – إيمان صلاح – سامي الوكيل – محمد ممدوح – فاطمة الزهراء)، ولمدير المسرح القومي الفنان الدكتور (أيمن الشيوي)، وأتمنى استمرار عرض هذه الأمسية مرات ومرات على خشبة المسرح القومي، أو تعرضه فرقة المواجهة في الأقاليم المتعطشة لهذه العروض التي تدعو إلى الحب والتسامح، كما تحبب الجمهور في نطق اللغة العربية السليمة.


جمال الفيشاوي