لمن ينتمي المسرح؟ الكورالية القديمة مقابل الدراما الحديثة (3-3)

لمن ينتمي المسرح؟    الكورالية القديمة مقابل الدراما الحديثة (3-3)

العدد 715 صدر بتاريخ 10مايو2021

 وليس من المستغرب أن تكون تلك النصوص التراجيدية الأثينية أو عناصرها التي لم تلائم هذا النموذج العام، مثل مسرحيتي يوربيدس « ايون Ion”، أو “هيلين Helen” اما متجاهلة أو معدلة لتتوافق مع هذا التوقع . كما يقول روش ريم، مسرحية “ ايون “ مثلا لم تكن تراجيدية بالمعنى الشائع للكلمة . بذلك أصبحت المعاناة والرعب السمتين المميزتين للتراجيديا . اذ كانا السمتان اللتان اختارهما عادة الأداء الدوري الشائع . ولم يكن الثلاثة وثلاثون نص التي بقيت ( من حوالي ألف مسرحية عرضت في القرن الخامس ) هي بالضرورة المسرحيات الأثينية الأصلية التي فازت في المسابقات . ( فمسرحية سوفوكليس « أوديب « لم تفز، مثلا : ولم تفز أيضا مسرحية يوربيدس « ميديا « ) . ولذلك كانت عناصر هذه الأعمال الدرامية المعاد أدائها هي العناصر التي ظهرت بقوة أيضا في الثقافة التي تبتها روما باعتبارها تراثا متوسطيا متعدد اللغات، ولاسيما بعد أن أصبحت النصوص اليونانية ( ولاسيما هوميروس والتراجيديون الثلاثة ) جوهر التعليم المتوسطي القديم . وبمجرد انشاء مثل هذه الشعبية، فقد أصبحت الى حد ما ذاتية التوليد، لأسباب لا تتعلق تماما بالخصائص الداخلية للمسرحيات نفسها، في اعادة صياغة الرومان للثقافة اليونانية، والالمام الشديد ب “ميديا “ أو “هيراكليس “ أو “أورست” التقليديون، والتي أصبحت، علي سبيل المثال، فرصة لخلق أنواع جديدة من المعاني . يبدو أن المواقف والشخصيات التي اثارت أقوى المشاعر، والتي أصبحت مركزة في اللحظات الحاسمة لاتخاذ القرار، والتي قدمت للممثلين الامكانيات الأكثر درامية ( لأسباب مفهومة)، مفضلة باستمرار، ولكنها متع منفصلة تماما عن الاقتراحات الاستفزازية التي تقول أنه في حالة فعل متطرف مثل قتل ميديا لأطفالها، فانها دائما وجهة نظر أخرى . 
 في العصر الحديث، عندقراءة الدراما الكورالية باعتبارها سردية ( جزئيا من خلال أرسطو ) فقد كان ينظر الى الكوراس علي أنه شخصية أخرى في الحدث، موثوق فيها، وسيد الاحتفالات، أو الفاصل الزمني . وعند قراءة الدراما الكورالية كفلسفة، يُرى الكوراس علي أنه معلق على الأحداث بشكل مفاهيمي . وقد تأثرت رؤى التراجيديا اليونانية هذه باعتبار أنها تأثرت بالرومان السابقين . وقد لعب سينكا، وكان كاتبا رومانيا في بلاط نيرون (4 ق.م – 65 بعد الميلاد)، دورا رئيسيا في ترسيخ أفكار التراجيديا اللاحقة باعتبارها موضع الرعب الانساني : في مسرحه الشعري البدني الذي تختفي فيه الجوقة . ولم تضفي تراجيديات سينيكا علي الاقناع طابعا دراميا، أو تشكك في قدرة الجمهور علي الحكم، بل استكشفت الاماكانيات المجازية للمواد المألوفة بشكل جوهري . وعلي الرغم من أنه يمكن اعتبار سينيكا مصدر الهام لعروض العنف اللاحقة بداية من مسرحية شكسبير «ماكبث» وصولا الى مسرحية سارة كين «فيدرا»، الا أن عنفه الخاص ظل موجودا في شعره، كما تقترح هيلين سلاني : 
 ظلت القسوة داخل الخطاب المنسوب الى سينيكـا ولم يتـم   تمثيلها علي خشبة المسرح : قدم الكوراس تفسيرا أخلاقيا  أو سياسيا أو تعليميا للأهوال خارج خشبة المسرح . 
 وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، كما أوضح جوشوا بيلينجز، فقد كانت مناقشة أرسطو للتراجيديا ( ولاسيما الفصل السابع – الجزء الأول ) والتي كتبها كتوصية توجيهية لما يبدو أنه يعمل بشكل أفضل، تمت قراءته علي أنه وصف للنصوص التراجيدية التي ظلت موجودة : 
 كان الفهم الحديث للكوراس التراجـيدي بـأنه مشــارك   أساسي في الفعل التراجيدي – وهو الوصف المعياري  لأرسطو وهوراس الذي يقول انه يجب دمج الكوراس  في الحبكة – فهما مغلوطا باعتباره حكما وصفيا علي دور الكـوراس في التراجيديــا، كجـزء أسـاسي مـن الفعل التراجيدي . 
ويجادل بيلينجز أن هذا التغيير، كما اكتشفه كتاب الرومانتيكية الألمانية وفلاسفتها، كان أساس احداث تحول من مشاهدة الكورال الى مشاهدة الأغنيات . ومنذ بداية القرن التاسع عشر وحتى الآن، ومع اكتساب المفهوم الحديث للتراجيديا المرتكزة علي النص، أصبح يُنظر الى الكوراس علي أنه مشكلة في ادائها . وليس من قبيل المصادفة أن اعادة تنقيح المسرح في الستينيات في القرن الماضي، حيث أدى اعتبار أنها تدور حول الجماعة الى احياء الاهتمام بالتراجيديا اليونانية منذ ذلك الحين، وفقا لاديث هول، الى عرض المزيد من المسرحيات اليونانية ربما بشكل أكبر مما عرض في تاريخها كله منذ علروضها الأولى في القرن الخامس قبل الميلاد – بما في ذلك العصور القديمة نفسها . وكما لاحظ كل من بيتر مينيك و هيلين ايستمان، كل منهما علي حدى، (وكلاهما منظرين وممارسين) أن الزيادة في الممارسة غير المرتكزة علي نص، وعودة الى أولوية الجمهور وذاتية الاشارة قد تلاقيا مع الدراما اليونانية (الكورالية) وتحولا من مشكلة للأداء الى مشكلة عن الأداء .
 اذن، لعب اعادة الأداء وأرسطو دورا رئيسيا في تجسيد الدراما اليونانية : ولكن وسطت المناقشات في الأكاديمية تصوراتهما بعد ظهور الدراما الحديثة . وما تلى ذلك يؤكد أهمية اللحظة التاريخية عندما ساعد المنهج العلمي وامكانياته التقدمية كما عبرت عنها الجامعة الحديثة في تضييق الأفكار القديمة للكورالية المتسامية والمفارقة الى حدود نص أو مناسبة بعينها . وبذلك، حددت فكرة المسرح نفسه في شكله النصي، فضلا عن مسرح الجمهور، أو قدرة جمهور المسرح علي التعرف علي نفسه . وفي أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر، كان السبب تحديدا أن المسرح كان يفهم سابقا علي أنه أداء للجمهور الذي تسبب فيما يسمى « العروض الحفرية Archaelogical productions (باستخدام النصوص التاريخية الأصيلة) في الاحساس الذي أحدثوه . وكانت قوة اعتراضهم على التأثير عبر خلجان شاسعة من الاختلاف الثقافي والزمني اكتشافا غير متوقع . وامتزج هذا باهتمام واسع (بالروايات والمسرحيات)، بالمسلمات البشرية لعلم النفس والشخصية لخلق مفهوم جديد للمسرح باعتباره أدبي . 
المسرح في مقابل الدراما 
في بريطانيا، تم الترحيب بأداء جوال لفرانك بنسون لسمرحية « أجاممنون» في أوكسفورد عام 1880 في قاعة سانت جورج في لندن، وهو مكان ارتبط بأداء الموسيقى الكلاسيكية والكلمة المنطوقة، باعتباره أول أداء في بريطانيا لنص أصيل من الدراما اليونانية، وبعد ذلك ببضعة أشهر قدم ويليام بويل أول نسخة ورقية لمسرحية « هاملت « والذي تم الترحيب به باعتباره أول أداء علني أصيل لنص شكسبير الفعلي منذ أيامه . وعمل بنسون وبويل معا بعد ذلك بوقت قصير، اذ تم تعيين بويل مديرا للمسرح في فرقة ف . ر. بنسون عام 1884 التي شاركت في جولة عالمية عرضت خلالها « الثلاثية الأورستية « . وتطورت فكرة هذه العروض الجوالة ومسرح الصندوق الأسود، جنبا الى جنب مع احترام جديد للنص الدرامي . وقد شارك بنسون وبويل في الاهتمام بنص الأداء التاريخي، ورأيا تحديهما بأنهما جعلاه يعمل دراميا في شكله النقي : وكانت فكرة جديدة في ذلك الوقت . وقد ارتبط اسم مجموعة من الفنانين المجددين – مثل بنسون وبويل ولويس كامبل وجلبرت موراي وبنيامين جويت – بكلمن مسرحيات شكسبير والمسرحيات اليونانية الأصيلة. وقدم مثل هذا الاهتمام المبكر بالنص، الذي ترسخ ذات يوم، مساحة تقدير يستطيع فيها أن يجد كتاب الدراما الأدبية مثل ابسن وشو القبول . وجرب كل من ه.ج.ويلز وجوزيف كونراد كتابة المسرحيات بنفس الطريقة التي جربا بها كتابة أشكال جديد من الرواية والسينما . ويلاحظ جيل مارشال، في مناقشته لهذه التحولات العامة في مفهوم المسرح ليس فقط في بريطانيا بل أيضا في الولايات المتحدة، كيف أن هاتين الكلمتين – « المسرح» و « الدراما» – أصبحا متعارضين بين عامي 1880و 1890 : 
 كان الصراع بين القديم والجديد جزءا من نقاش أوسع هــذه
 هذه المرة، كما يلاحـظ أرثر هنري جونـز، بين المســرح
 والدراما، وبين عوامل الجذب والمتطلبات التجارية للعرض
 والاهتمامات الأدبية . 
ولا شك أن هنري جيمس، الذي اشتهرت مسرحيته التي قدمت في المسرح باعتبارها رواية، قد اشتهر بصراعه مع هذا الانفصال : 
 تكمن كل البغضاء في الصلة بين الدراما والمسرح . احدهما
 يعجبنا اهتمامه وصعوبته، والثاني بغيض في شروطه . 
لقد لعبت النصوص التاريخية من الدراما اليونانية وشكسبير دورا أساسيا في ارساء الأسس لظهور هذه الفكرة الجديدة في المسرح ولاسيما لأنها كانت مشهورة ومحترمة فعلا، في السياقات غير الأدائية : ولاسيما في التعليم . وقد تم الاستيلاء علي هذه العروض الأركيولوجية المزعومة وجذبت انتباه المجمتع الفني التقدمي الأوسع، بما في ذلك الروائيين والرسامين والموسيقيين والمصممين وصناع المسرح ( مثل هنري جيمس وأوسكار وايلد وجوردون كريج وفريدريك جرانفيل باركر وجورج برنارد شو ) والعديد منهم ارتبطوا مركزيا بكل من الدراما الحديثة والحركة من أجل مسرح وطني جاد . وقد كان تأسيس بنيامين جويت لقسم الدراما في جامعة أوكسفورد عام 1883 سعيا وراء انشاء هذا المسرح الجديد الجاد المرتكز علي النص . وقرار جويت بتأسيس قسم الدراما بأكسفورد لم يكن كجمعية داخلية، ولكن كمنظمة جامعية مع رؤساء أندية ومدعوون آخرين في مجلس الادارة، يقترحون أن هذه الدراما الجديدة لم تكن كما كانت ناديا اجتماعيا تحركه العضوية، ولكنها جاذبية عالمية . حيث كان جويت في عام 1880 ضد جولة عرض المخرج بنسون لمسرحية “ أجاممنون “ في لندن، بحلو وقت عرض قسم الدراما في أوكسفورد لمسرحية “ تاجر البندقية “ عام 1883، والذي وصف بأن أداء شكسبير كان أكثر ذكاء مما يمكن أن يأمل تحت أي ظروف أخرى، وقد شجعه هذا للخروج في جولة في مسارح الفودفيل في لندن وسترتفورد، مما يشير أنه بحول ذلك الوقت رأى دوره في تأسيس قسم الدراما في أوكسفورد باعتباره فرصة لاستخدام أوكسفورد والسياق الأكاديمي للتأثير علي الموقف تجاه المسرح وعلي الصعيد الوطني نحو الاهتمام الدقيق بالنص واحترامه . وقد دُعي أوسكار وايلد الى أوكسفورد في منتصف 1880 لمراجعة عروض قسم الدراما في أوكسفورد في جهد لدعم الاهتمام بالجمعية الجديدة في عقدها الأول، وهي تناضل لايجاد جمهور من الطلاب والاستحسان العام : 
 أعلم أن هناك كثيرين من الذين يعتبرون شكسبير أفضل في   الدراسة من خشبة المسرح . وبهذه الرؤية لا أوافق ........  فقد كتب شكسبير مسرحياته لكي يتم تمثيلها، وليـس لنا أي   حق لتبديل الشكل الذي اختاره هو نفسه للتعبير الكامل عـن أعماله ... ..ولماذا لا تمنح الدرجات العلمية للتمثيل الجيـد؟
 اليست تعطى لمن يسء فهم افلاطون ويخطئ في ترجمـــة
 أرسطو ؟ . 
في مقارنة وايلد الايجابية بين الممثل الجيد والباحث الأكاديمي السيئ، فانه يميز مفهوم التمثيل بأن تفسير للنص . اذ تُرى كلمات النص علي أنها منفصلة وموضوعية، واثارة للفهم ( واساءة الفهم واساءة الترجمة) . ولكنها ليست اكتشاف للاحتمالات المؤثرة لكلمات النص الفعلية التي كانت تحدث ثورة في المسرح فقط، كما أعلنت الصحافة . ولكنها فكرة المرئيات الأصيلة أيضا . ويستمر وايلد قائلا : 
 حتى الملابس لها قيمتها الدرامية . فهي تعطينا الدقة الأثرية، 
 فور رفع الستارة، صورة مثالية للعصـر ..... يعيــش القرن 
 عشر بكل كبرياء ملابسه ونعمتها أمامنا بالفعل ...ويضاف
 الى ذلك الواقعية الفكرية الأركيولوجية وسحر هذا الفن . ما كان جديدا في هذه العروض الأصيلة هو الانشغال الساحر بفكرة الموضوع الأدائي التاريخي، سواء كان مجسدا في الكلمات، والملابس، والمناظر والصوت . وخلال تغير التركيز من الجمهور الى الشيء المقدم علي خشبة المسرح ساعدت هذه المسرحيات القديمة في تمهيد الطريق للدراما الحديثة . 
 لقد كان المسرح يفُهم، حتى هذه النقطة باعتباره اجتماع عدد من المتفرجين في القاعة المضاء مثل خشبة المسرح، وغالبا ماتواجه المقاعد خشبة المسرح، تواجه الكثير من المقاعد بعضها البعض . لقد كانت مثالا أو أداء للجمهور . وقد أدى هذا السياق الى اكتشاف أن النصوص اليوناية السياسية لها قوة تأثير على الجمهور الحديث خارج سياق ثورية جمهورها الأصيل في عام 1880 . وفسرت كتابة ر.س. جيب في عام 1883 أن أداء المسرحيات اليوناية الأصيلة لم يكن موجودا من قبل لأنه من المفترض دائما أنها واضحة لأهل أثينا . وقد كان الافتراض أن مسرحيا سوفوكليس الناجحة افترضت أثينا البطولية، أو كما قالت مجلة التايمز، لا يمكن لأحد أن يتوقع أو يطلب أن تثير مسرحية سوفوكليس الجمهور الحديث الى هذه الدرجة . لقد أدهشت المسرحيات القديمة الجميع باقتراح أن هذه لم تكن هي الحال، اذا فسرها المؤدون بشكل جيد . . فقد بدا أنها تثبت أن الموضوع اكتسب قوة التأثير الغامضه . 
 وقد تضمنت الثقافة البريطانية المتنوعة قبل الدراما الحديثة البيرليسك والعروض الفنية المذهلة، وعروض مسرح الهواة، والتسلية الموسيقية، والصور الحية : وكان المسرح الجاد يسمي « التمثيل Representation” . ولكن الدراما المتعلقة بالعلاقات بين الشخصيات علي خشبة المسرح، التي من المتوقع أ ن نحللها ونفسرها بمصطلحات علم النفس والعاطفة، فانها مختفية ( أو علي الأقل، في خصوصية مفاهيمية جماعية ) فقد ظهرا عام 1880 . وبعد سبع سنوات من العرض التجريبي الأول لبنسون وبويل للمسرحيات القديمة، افتتح أندريه أنطوان مسرحه المجاني في باريس، والذي قيل انه استلهم المسرح الحميم Intimate Theatre عند ستراندبرج في ستوكهولم، ومسرح البلاط في لندن ( البلاط الملكي فيما بعد) . وكان أنطوان رائدا في استخدام الاضاءة العلوية، والمساحة الحميمية (بحيث يمكن رؤية وجوه الممثلين وسماع همس الأداء الواقعي) والممثلين المتمركزين بشكل مثير للجدل، بما فيهم هو نفسه، وهم يديرون ظهورهم للجمهور. وعرض المسرحيات باحترام غير مسبوق لسلطة وتكامل النصوص الحرفية، وغالبا ما كان يتواصل مع المؤلفين الأصليين للمسرحيات ( مثل تولستوي وهابتمان ) بشكأن تفاصيل الترجمة . وقد عرض أول نصوص كاملة لشكسبير في فرنسا ( مع الأحمق الذي أعيد الى مسرحية «لير»، وحفار القبور في مسرحية « هاملت» ) . 
 وتصف زوي سفينسن (2010) مغامرة الدراما الحديثة باعتبارها جوهر تجربة الجمهور التي تحولت من كونها تجربة عن الهوية الاجتماعية والسياسية، الى تجربة عن التحليل النفسي والتوقع . وتصفها جين تشوثيا بأنها العلاقة الأساسية التي انتقلت مما كان بين الشخصية والجمهور الى علاقة بين الشخصيات علي خشبة المسرح . وتؤكد توافقها مع تطور اضائة خشبة المسرح المؤثرة واظلام القاعة، أي مع الحائط الرابع . اذ تقول : « لم يعد الجمهور يعايش جوهر الفعل المعترف به، بلأ اصبح يعايش ايهام رؤية عالم آخر حقيقي محوره الذات .» وأصبح الجمهور متفرجين سلبيين،،اصبح كل من « بورتر « و « بوتوم» من الشخصيات وليسوا كوميديين . وتحولت العلاقة المجازية بين العالم الحقيقي وعالم المسرحية (التي فقدت لأن المسرح تغير ) من الأداء امام الجمهور، الى الأداء من أجل الجمهور، والابتعاد عن ممارسة القرون لتأسيس نموذج القرن العشرين السائد . 
 وقد جعل تجسيد العرض اختفاء فكرة التمثيل ممكنة باعتبار أنه تواطؤ مع الجمهور . ويعرف المخرج كارل هيب، الذي تخصص في عرض مسرحيات الأسرار، الدراما الحديثة بأنها “ عدم السماح للجمهور برؤية الثغرات « . والمخرجة كاتي ميتشيل، التي تدعى خط نسب يعود الى ستانسلافسكي مباشرة، تشتهر بتدريب ممثليها علي عدم التفكير في الجمهور . في مسرحية وايلد « أهمية أن تكون ارنست The Importance of Being Earnst” عام 1895 مثلا، كماهو الحال في الفارص عموما، يتم اخبار الجمهور الذي يعرف طوال الوقت، ما سيتم الكشف عنه (أن جاك ليس ارنست، وقد تم العثور عليه)، كما هو الحال في نموذجها القديم المنسوب الى سوفوكليس، «أوديب الطاغية Oedipus Tyranus« (علي عكس رهاناته التراجيدية، تنطوي علي رعشة خفيفة)، تكمن المتعة المركزية في التوقع الجماعي لثورته الحتمية، أو بالأحرى في تواطؤ المعرفة نفسها . وبالمقارنة، في الأعمال المعاصرة علي نطاق واسع، لابسن، ستريندبرج، وتشيكوف، وشو، فاننا نعتمد علي المهم في نفس الوقت مثل الشخصيات، وتنبؤنا ( أو مفاجئتنا ) وفقا لتقديرنا لعلم النفس . وأن الفكرة القائلة بأن الممثلين يجب أن يتظاهروا بأن الجمهور لا ينظر اليهم هي فكرة مختلفة تماما عن متعة المعاملة بالمثل المعترف بها والشاملة بين المؤدين والجمهور كما نجد في نصوص أوسكار وايلد أو أسلافه المسرحيين في الفارص أو الكوميديا الاحيائية أو الكوميديا الرومانية أو التراجيديا الأثينية . وقد نظمت هذه العروض حول استمتاع عام ومعترف به . وكان هذا هو السبب الدينامي وراء التابلوهات الحية، والتي كانت بالنسبة لكاثرين فال مجموعة مسرح متحف فيكتوريا وألبرت، تلخص القرن التاسع عشر . 
 سيظل المسرح – والى حد ما يجب أن يكون دائما – متعلقا بالجمهور والجماهير بعد هذا الغير : ولكن كما جادلت سوزان بينيت، فان هوية المسرح مع الجمهور، وبالتالي سوف تتراجع أهميته العامة بشكل أصيل لصالح تحليل وتفسير التقديم الموضوعي . ودعوة ستريندبرج الشهيرة للغيير في مقدمته لمسرحية «الآنسة جوليا « تتشبث بتغيير بؤرة التركيز التي أنشغل بها هؤلاء الرواد . 
 عندي بعض الأوهام بأنني قادر علي اقناع الممثل بالأداء   أمام الجمهور وليس الأداء معهم ... ولا أحلم بأنني سأرى  ظهر الممثل طوال مشهد مهم بالكامل، ولكني أتمنى بشدة  بأن تؤدى المشاهد الحيوية أمام شرفات المتفرجين وكأنهـم   ثنائيات لجلب التصفيق ( الوحش الأسود في نظــري) مــع  تناول العشاء مع السيدات اللاتي يأكلن في برود، وقد ساد  الظلام في القاعة أثناء الأداء، هي في المقام الأول خشبـة   مسرح صغـيرة وقاعة صغـيرة – ثم ربمــا تظهـر درامــا   جديدة، وربما يصبح المسرح مرة أخرى مكانا للمتعلميـن ويصف نعت هانز ثيز ليمان للمسرح بعد الدرامي طبيعة الأشكال المسرحية قبل الدراما الحديثة: يشكل الحضور المشترك للمؤدين والجمهور العمل . فيصبح الجمهور واعيا بذاته مثل المؤدين، ويصبح المؤدون مشاهدين واعين ذاتيا بأفعالهم : فالمسرح بعد الدرامي يجذب الاهتمام الى نفسه باعتباره فعل الاتصال الذي يتحول فيه المتفرجين باستمرار الى حالة الفرجة . وبهذه الرؤية يكون المسرح هو نقطة التقاء كل الفنون، التي لا يتم ادراك المسرح فيها بحضور التمثيل كما قالت اديث هول أخيرا، اتباعا لجولدمان، ولكن ادراك الحضور المشترك للمؤدين والجمهور. ويبدو أن المسرح بعد الدرامي، والمسرح قبل 1880، ومفهوم المسرح في اليونان القديمة والرومان يمتلكون جميعا فكرة أن المسرح ليس للجمهور فقط، ولكنه صراحة ومبدئيا عن الجمهور . 
 وقد تم التعبير عن أولوية حضور الجمهور معماريا من خلال مسارح العصر الفيكتوري التي بنيت في منتصف العقد الأخير من القرن التاسع عشر بأشكال تعود الى العصور القديمة . فعندما بنيت هذه المسارح، شارك المؤدين والمشاركين في مساحة واحدة، وكانت تضاء بشكل متساو، ويرون بعضهم البعض . وأصبح كثير من هذه المسارح التي مازالت تستخدم في بريطانيا طبيعية كبيت للدراما الأدبية الجادة، ولكن البعض يمكن أن ينكر أنها غير مناسبة لهذ التجارب . فالمقاعد كانت تقيد رؤية خشبة المسرح، أو هناك رؤية أفضل في مقاعد أخرى، للتعبيرات والنظرات والترددات – وهذا مجهد من مسافة . ولم يكن الرقص والغناء وحدهما كما يبدو هما اللذان منحا هذه العروض شكلها التراجيدي : فالمسارح نفسها فهمت خشابتها بما في ذلك قاعاتها . وحقيقة أن فاجنر قد أظلم القاعة في أوائل عام 1857، في سعي لنوع من الانغماس العاطفي الخاص والذي ساد لاحقا، ولكنه لم ينتشر علي الفور، وتؤكد أن المسرح المظلم لم يكن فكرة واضحة فورا علي أي حال . ولم يكن الأمر متعلقا فقط بعدم الشعور بالأمان، بل كان ذلك يعني أن المشاهدين لن يتمكنوا من رؤية بعضهم البعض : فمنذ العصور القديمة كانت الدراما التي تشاهد بشكل جماعي في قلب متعة المسرح العام بقدر ما كانت الدراما . 
 ومع الانتقال من القاعة الدائرية اليونانية الى شكل حدوة الحصان الرومانية، أصبحت بعض المقاعد عمودية بالنسبة الى للمشاهد في المقدمة، وواجهت كل منها الأخرى مباشرة، فضلا عن مواجهة خشبة المسرح . وفي القرن السادس عشر طرحت حدة منحنى حدوة الحصان الروماني مشكلة للفنانين في عصر النهضة المتحمسين لاعادة بناء تأثيرات منظور سينوغرافي بعد اكتشاف شكل حرف M . وقد أذهلهم التناقض بين الايهام المنظوري وشكل حرف ال U للمسرح الذي جسد الحضور الجماعي باعتباره المنظر المهم . وتزال مباني المسرح الدائمة تظهر هذه الأولويات المتناقضة في أواخر عام 1884، عندما أعيد بناء مسرح « أولد فيك « صناديق خشبة المسرح المواجهة . 
 وقد جادل علماء مسرح القرن التاسع عشر مثل تاسي ديفيز و جيم ديفيز و كات نيووي من بين أخرين، أن ذلك ليس بسبب التأثير الارتجاعي للدراما الحديثة علي افتراضاتنا عن ماهية المسرح فقط، بل ان القرن التاسع عشر ككل، قبل الدراما الحديثة والمسرحية باعتبارها نصا، قد تخيل نفسه بأنه مسرحي . فقد كان المسرح هو الاستعارة الأساسية في تمدين المجتمع الذي كان مفهومه عن المساحة العام والعضوية العامة يخضع لتغير سريع . فقد كان المسرح أيضا مساحة مفاهيمية للثقافة الجماهيرية حديثة العهد . وليس من قبيل المصادفة أن تنشأ الدعوات لمسرح قومي مدعوم من الدولة في عام 1890 و1900 بين نفس مموعة المنتجين الذين جادلوا بأنه يجب أن يرتقي الى مكانته كفن . 
 ومفهوم المسرح المرتكز علي موضوع – ولاسيما المفهوم المتفق عليه أو الخاصية أو المكانة الرفيعة – هو بالطبع رؤية أسهل لدراسة المسرح . فقد تطورت الدراما الحديثة في نفس الوقت مثل الجامعة الحديثة، مع التخصصات التي تتنافس علي مكانة علوم مستعارة . وقد شجعت هذه القوى رؤية المسرح باعتباره مرتكزا علي النص، والعمل المستقل باعتباره استدعاء للفهم الذاتي . وامتدات التيارات الحداثية داخل وخارج المسرح، مثل الرمزية والتكعيبية، الى تركيز مماثل علي العمل باعتباره موضوعا مؤلفا ومستقلا ومتحديا للتفسير . والتناول اكورالي للمسرح، بالمقارنة لا يرى التعددية كفكرة، وكمشاركة كحدث، ولكن علي وجه التحديد المواقف من حيث التكرار مع مرور الوقت . كما يصف ألبرت هينريش دراما الجوقة الأثينية : 
 البعد الطقسي للتجربة المسرحية الأثينية كذاكرة لنشأتها في الطقوس الدينية الكورالية (تكمن فيما وراء) القدرة المكملة للكوراس الدرامي لكل من الاسقاط والاستبطان هذا التوتر المميز بين المثال والتكرار، والتجسيد والتمثيل، يدفع الى المقارنة والعكس صحيح: من متلقي واحد والعديد من الآخرين المحتملين من الجماهير الآن، الى اولئك الموجودين في الماضي والمستقبل. وكما قالت رابيكا شنايدر «المحاكاة أداة قوية للتفاوض بين الأفراد ... لاحياء زمن في زمن آخر» . ويقول جانيه وهوبمان مثلا : 
 الكواس الترجيدي ليس مجرد مجموعة من العجائر أو  النساء الأسرى، أو الموطنين المقنعين في المسرح ... وليس مجرد كوراس واحد في نوع يتميز بالتعامل مـع الأشخاص، اذ يمكنه أن يدفع الحدود الاشارية للتجسيد فيما وراء التكافؤ الصارم، ويمكـن للكوراس أن يوجـد هنا وهناك وفي كل مكان، والآن وفيما بعد .. ويمر بحرية بين هذه المستويات المختلفة خلال معنى الكلمة والصــوت والحركة . فقدرته المعروفة في الاشارة الى نفسه ورقصه في العرض، أو يسقط نفسه علي الكوراس الآخر البعيد، هو جزء من نموذج مجموعة نقل المحاكاة الأوســع فــي الحركة بواسطة أغنية الكورال . 
بمعنى أن الكوراس هو دائما كل أنواع الكوراس الموجودة في أي وقت مضى . ويمكن تناول اداء الكوراس كاستعارة للكيفية التي تقدم بها اعادة عرض الأعمال، سواء النصية أو غيرها، مساحة حيث يمكن جلب جماهير حقيقية متعددة وضمنية في الماضي والحاضر الى حضور درامي مشترك . وتقترح المستويات المتعددة والمتناقضة التي تحدث علي أساسها بالضرورة عمليات الفهم الاجتماعي ذات الطابع الشكلي التي نسميها اليوم « المسرح « . 
.........................................................................................
كلير فوستر تعمل أستاذا بجامعة كمبريدج منذ 2014, وهي الشريك المؤسس لشبكة الأداء متعدد المجالات في مركز بحوث الفنون بنفس الجامعة 
هذه المقالة تمثل الفصل التاسع من كتاب “الأنثروبولوجيا والمسرح والتطور Anthropology, Theater, and Development “ والذي أعده الكاتبان Jones Tinius , Alex Flynn عام 2015.


ترجمة أحمد عبد الفتاح