المسرح الألماني المضاد

المسرح الألماني المضاد

العدد 817 صدر بتاريخ 24أبريل2023

بعنوان «المسرح الألماني المضاد» صدر حديثا كتاب عن الهيئة العامة لقصور الثقافة/ سلسلة آفاق عالمية. دراسة وتقديم د. أسامة أبو طالب، تحدث فيه عن أعمال راينر فيرنر فاسبندر Rainer Werner Fassbinder موضحا فيه بالتفصيل والتحليل فكرة وأسلوب وسمات المسرح المضاد Das Antitheater تلك الحركة التي أنشأها فاسبندر، ثم أرفق بالكتاب عد الدراسة أربعة نصوص مترجمة، وهي: «حرية بريمر»، «دم على حلق القطة»، «كاتسل ماخر»، و»لا أحد طيب ولا أحد شرير». يقع الكتاب في 220 صفحة من القطع الصغير.   
في البداية، يوضح د. أسامة أبو طالب أنه لم يتجاوز ما قضاه فنان المسرح والسينما الألماني الشاب راينر فيرنر فاسبندر، على الأرض ستة وثلاثين عاما، رحل بعدها مخلفا وراءه كنزا من الإبداع قلما يتكرر، فيما بين أربعين فيلما سينمائيا وأكثر من ستة عشر نصا مسرحيا، علاوة على درامات إذاعية وأعمال تليفزيونية. وقد ارتبط اسمه بتأسيس حركة مسرحية جديدة أطلق عليها اسم «المسرح المضاد» Anti-theater بالتعاون مع زميليه «ب. رابين»، و»هـ. شيجوللا»، وما يقرب من عشرة زملاء اعتبروا كمؤسسين آخرين لكيان فني مسرحي مشترك.
أما عن بداية الفكرة، فيشرحها الكاتب د. أبو طالب مبينا أن فاسبندر رأى منذ البداية –متفقا مع آرتو- أن المسرح الأصيل إنما يقع في ذلك اللقاء بين الحلم والأحداث. كما ينتمي بشكل آخر إلى منطق المسرح الحيLiving theater  وأفكاره باعتماد وظيفة التحريضIncitement، أو الاستفزازPr. V . cati. N في مواجهة صراع محتوم ضد المسرح البرجوازيBurgerliches Theater  السائد والمنتشر الذي طال تسيده وتمكن استقراره. ولا يخفى تأثره البين بالمسرح البريختي وبمسرح القسوة. وقد نال الكثير من الاتهامات بسبب المنافسة أو بسبب عدم الفهم أو كراهية التجديد المعتادة التي وصفت فاسبندر وأصحابه ومنهجهم بالعدمية تارة، وتارة أخرى بالدعوة إلى الانحراف.
ويرى   أن الاتهام الآخر والأكثر تجنيا وفداحة وخطورة، فقد تمثل في وصم المسرح ومؤسسه وشركائه بكونهم أعداء للسامية يتعين ترصدهم ومواجهتهم، وكفهم عن العمل تماما كدأب كل منظمات الصهاينة عندما تنصب شراكها حول أي من المفكرين الأحرار ممن يخلفونها في الرأي وينقضونها في  التوجهات! وهكذا كان هجومهم الشرس على الجماعة عند محاولة عرضها مسرحيته الجديدة: «القمامة والمدينة والموت» عام 1967. ثم تعرض أفرادها للنقد الحاد الشرس السابق الإعداد والتجهيز من قبل التجمع اليهودي في ألمانيا ذلك الذي وصم فاسبندر نفسه بأنه معا للسامية وبأنه يحمل أفكارا نازية جديدة.
رغم كون المسرحية مكرسة للدفاع عن قضية العمال الأجانب في ألمانيا حيث تتبنى توضيح مشكلتهم والدفاع الموضوعي والإنساني عن حقوقهم المهدرة.
ثم يوضح الكاتب موضوع وشكل عرض «القمامة والمدينة والموت» ويحلل شخصياتها، طارحا التساؤلات حول دور التجريبية المسرحية الجديدة في المسرح المضاد، ما أدواتها الفاعلة ووسائلها وتقنيات عرضها؟ وما مدى فعاليتها المنتظرة وحدودها؟ ثم ما هو الأثر الجمالي المطلوب والمنجز بالفعل من تجربة تلقيها؟ حيث كان لجوء المسرح المضاد في تحققه على المسرح كعرض إلى أشكال هي خليط من أدوات المسرح ووسائله، ومن السينما وحرفياتها إضافة إلى استخدام التمسرح والتغريب بصيغه الأدائية المباشرة مرة، ومرة ثانية بتنحيته كلية وتبني فكرة اللحظة المسرحية الساخنة ذات الطابع الاندماجي بين العرض والمشاهد تمهيدا للخروج بها إلى فعل جماعي ذي صفة تحريضية أسوة بتجارب مماثلة في حركات «الواقعي والخبز والدمية والمسرح الوثائقي» أو بالمسرح السياسي بشكل عام مع فارق أساسي هو سعي المسرح المضاد للاستفادة بكل هذه الحركات دون التقيد الحر داخل الإطار المحدد لإحداها، وإنما استلهامها جميعا في خلق هذه اللحظة وجعلها ذات طابع اندماجي استفزازي في الوقت نفسه.
وأضاف الكاتب موضحا أن المسرح المضاد واصل طريقه مقدما ما يقرب من الثماني عشرة مسرحية ما بين تأليف منفرد لرائده فاسبندر وحده، وبين تأليف مشترك مع آخرين من الجماعة، إلى إخراج للنصوص، بالرغم من جماعية الطابع التي قدمت بها المجموعة نفسها منذ بداية الظهور. ثم يطرح لنا المؤلف أسماء الثماني عشرة مسرحية.
وتحت عنوان جانبي «عالم المسرح المضاد وملامحه الفنية»، يوضح الكاتب أن فاسبندر كان يحلم بمسرح جديد بالفعل، وفي كل شيء، مسرح تتسع فيه وظيفة التنوير السياسي المحدودة لكي تتحول إلى تنوير أكبر حين ينجح في تقديم معالجة أعمق  وليست مجرد معالجة تكتفي بكونها أكثر صراحة، في حين ينبغي عليها أن تكون أشد تعرية وأكثر فضحا، أو مسرحا للتعرية التامة الكاملة والفضح دونما هوادة، حينما يكون التنوير قرين العقلنة ومجاله العقل بالدخول المباشر على الحس مخترقا عالمي النفس والجسد.
وبعد ذلك يتعرض الكاتب لمسرحية «كاتسل ماخر» Katzelmachrer المصنع، ضاربا بها المثل، حيث تعرض الواقع ممسوخا ومشوها بغرض الإحالة به إلى حقيقة هذا الواقع/ المدينة/ العصر.. بإنسانه وآلياته التي حولته هو الآخر إلى مسخ مشوه يمارس انحطاطاته ودناءاته وتشوهاته واعيا، بينما لم يمنعه وعيه بحالة الاتضاع التي تردى إليها من أن يظل مكبلا تماما، وقد شلت إرادته أو فلنقل إنها مسخت هي الأخرى بحيث تصبح أي توبة مستعصية عليه، وبحيث تصبح أي محاولة للخلاص أو للتطهر شبه مستحيلة هي الأخرى بعد أن انحطت معاناته بالمثل، متفقا في ذلك مع برتولد بريخت، ومختلفا معه في نفس الوقت، ثم يتولى الكاتب شرح وجهتي الاتفاق والاختلاف معه.
وبعد ذلك يبين الكاتب أهمية أن ندرك أن فاسبندر في مسرحه المضاد ليس طبيعيا أو منتميا للمسرح الطبيعي إلا حين تواصل بعض شخصياته تلذذها بالسقوط في محاولة متعمدة منه لكسر أقنعة الاحترام الظاهري الزائف وإسقاطه عنها ابتغاء تعذيب المتفرج/ الجمهور المحترم، أو المقنع بادعائه الاحترام.
ويرى الكاتب أن فاسبندر لا يضعنا على طريق التجريب البريختي وحده، مثلما لا يحاول معنا أن يكسر الوهم مستخدما التمسرحTheatricality  فإنه لا يحاول أن يضعنا كذلك في مجال تطهيري تقليدي بالمعنى الأرسطي، وإنما في حالة غشيةTrance  أو ما يمكن أن يسميه مجالا انفعاليا مشابها للحالة الهامشية الواقعة ما بين الصحو والنوم، وتصبح المحصلة أثرا جماليا معاكسا أو مضادا للتطهير، وبأية وجهة نظر مفسرة سواء أكانت تقليدية أو غير تقليدية حين نتعرف على المحورين الأكثر أهمية أو بالأحرى الأساسيين اللذين ينهض عليهما عالم المسرح المضاد محددين موقعه الحقيقي من هموم الإنسان عامة وإنسان العقود الأخيرة من القرن العشرين على وجه التحديد، هذين المحورين، وهما: أولا: العصر – المدينة، ثانيا: المدينة – الإنسان (الفرد)، ثم يسهب الكاتب في شرح هذين المحورين.
وتحت عنوان «الممثل في شعيرة المسرح المضاد» يخبرنا الكاتب بأن أقرب وصف للممثل في تصور فاسبندر، هو ما عبّر عنه مايرخولد حينما سُئل عما يميز الممثلين الذين يعملون معه، فأجاب: أولا أنهم لا يفكرون، وثانيا: أنهم لا يفكرون بأسلوب مثالي بل ماديا، حيث يخرج الممثل في عرف هذا المسرح عن كل ما اتفق عليه من تسميات اصطلاحية تعترف «لاعبا» أو «مؤديا» أو «عارضا» على الرغم من بقاء اسمه ممثلا عند فاسبندر ليتحول إلى عنصر الطقس نفسه ومادته: مقيمه، وصانعه، ومعايشه، وليس إلى مادة للمشاهدة أو لفرجة الآخرين، إنه يعمل وكأنه يعرض نفسه لنفسه ينخرط في أداء طقس بالمعنى الحسي  الإيماني المعتقدي أو الإسراري، هادفا ليس إلى الوعظ بالخطاب الأخلاقي المجرد، ولا إلى التفريج وقوعا تحت فعل التطهير الأرسطي، كما أنه ليس التحريض المباشر وفقا لمصطلح المسرح السياسي، وإنما هو كل ذلك مجتمعا ولكن بقدر.
كما يوضح لنا الكاتب أنه أمام تعليمية بريخت وفي مقابل ما يدعو إليه من وجود تلك «المسافة الفاصلة» بين المتفرج والعارض  تقوم دعوة المسرح المضاد على وجوب الانخراط في الجو المسرحي أو الدخول في المجال الانفعالي الذي تخلقه عملية التمثيل/ المحاكاة في حضور وميض دائم من الوعي أو من اليقظة المعاودة لدى المتفرج التي تعترض الانسياق الكسول خلف حالة الاندماج، ولكن بشرط محدد تماما يتمثل في ضرورة البعد عن التعليمية. 
ثم يبين الكاتب أن الشيء المختلف في مسرح فاسبندر المضاد هو بنية غير تقليدية يريد بها تحقيق هدف تقليدي في جزء منه وهو:
فعل الاندماج في الجو المسرحي أو الحالة المسرحية.
حالة اليقظة المراقبة للوعي – أو المصادرة على استمرار فعل الاندماج.
فكأنه بذلك يحقق الوظيفيتين –الأرسطية والبريخية معا- في عرض مسرحي واحد، وأن وسيلته في ذلك «بنية مسرحية مغايرة» تميز المسرح المضاد في كافة أعمال فاسبندر حيث يقوم بتقطيع سياق القصة/ الحكاية هادما بذلك معمار البنية المسرحية التقليدية المتعارف على تكوينه الهرمي حتى نقطة الذروة إلى أن يتم نزول الحدث هابطا ومعه انفراج الأزمة. 
ثم يتخذ الكاتب د. أسامة أبو طالب نموذجا مسرحية «إي إفيجينيا في تاوريس» مطبقا عليه رؤية المسرح المضاد. ثم ينتقل إلى نموذج آخر وهو «لا أحد شرير ولا أحد طيب» مؤكدا أن في هذا النموذج للمسرح المضاد يحول فاسبندر الإدانة الفردية إلى اتهام جماعي يعم بذنبه الجميع، وينسحب عليهم، ومن أجل ذلك تصبح المشاركة في الجرم بمثابة براءة سالبة بشكل ما أو براءة مدانة بسلبيتها حاملة وزر صمتها أو تقاعسها حيث الجميع متورطون فيما يبدو أنه لعنة جمعية أو إثم مقرر يقفون أمامه أو يرزحون تحت وطأته حيث لا أحد شرير ولا أحد طيب في هذه المدينة/ العصر. 
ويرى الكاتب أنه كشأن مسرحياته دائما تفرض البنية بمعمارها الخاص وجودا متميزا  يستطيع من خلاله أن يتمم عملية الإحالة التي أولع بها من بنى فنية متخلية وعوالم ذات واقع افتراضي إلى عوالم يستطيع عقل القارئ/ المشاهد أن يتصورها أو يعيد تجميعها وتركيبها اعتمادا على مفردات خبرته بالواقع أو التاريخ أو الأسطورة أو بها جميعا ثم يسقطها على أي وجود مادي قائم يعيشه أو يسمع به أن يكتفي بمجرد الاقتناع بوجودها في عالمنا الكبير. 
وفي نهاية الدراسة، يشير د. أبو طالب إلى صعوبة تلخيص أعمال فاسبندر، وأن عدم توافر أعماله كاملة باللغة العربية دفعه لأن يعرف –باعتباره متخصصا- أن تناوله أو عرضه لها «ثيميا»، يمثل تجاوزا لأن مسرحياته لا بُدّ أن تشاهد لأنها كتبت في الدرجة الأولى لكي تعرض.
ويختتم دراسته بقوله إن مجرد نظرة متأملة لإحدى نصوص فاسبندر تكفي للتدليل على خطورتها ليس فقط لأنه رجل مسرح يتجسد فيه الكاتب والمخرج معا. كما أنه مخرج سينمائي أيضا تنتمي مخيلته الإبداعية إلى عالم الصورة بكل عالم الصورة بكل إخلاص، ولكونه أيضا ابن حقيقي لحركة المسرح الحديث ذلك الذي ارتبط  بالمدينة الأوروبية فكرا وضميرا وإحساسا. هذه المدينة تنفسها فاسبندر وعبأ مما فيها حتى الثمالة رافضا أن يغمض عينيه لحظة يستريح فيها معلنا عن يقظته الدائمة المضنية ومكررا دايما «أنام عندما أموت».


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏