محاكمة واد من جنوة تفكيك السلطة بالسخرية منها

محاكمة واد من جنوة تفكيك السلطة بالسخرية منها

العدد 561 صدر بتاريخ 28مايو2018

يأتي العرض المسرحي «محاكمة واد من جنوة» بعد مسيرة طويلة وممتدة للمخرج أحمد عبد الجليل. بدا العرض الذي استمر أسبوعين على أوبرا دمنهور ضمن نشاط الفرق القومية للهيئة العامة لقصور الثقافة، عملا إشكاليا لا يقل طموحه الفني عن جرأته الفكرية، مع خياراتٍ فنية وانحيازات فكرية سائدة، جاء العرض عن نص «إيزابيلا وثلاث سفن ومحتال» للإيطالي «داريو فو»، ومن إعداد د. سيد الإمام، لكن التجارب عادةً لا يتم تقديرها بناء على مقدار طموحها ولا إلى ما هدفت إليه، وإنما بناء على المسعى الذي سلكته لتحقيق ذلك الطموح، وذاك الهدف.
يظل «داريو فو» 1926 - 2016 حالة فريدة في سياق المسرح العالمي المعاصر، فقد شكل منذ خمسينات القرن المنصرم مع زوجته فرانكا راما ثنائيا مسرحيا، يعتمد على نقد وتهديم أسس البنية الرأسمالية التي تقوم عليها النظم الحالية عن طريق السخرية والتهريج، حيث كان يؤمن بأنه إذا كان القانون عماد الدولة، فإن الحرية هي شوق الناس، وأن كل سلطة بما فيها المؤسسة الدينية هي مادة للنقد والسخرية. وفق هذا النهج تعددت أعماله المسرحية الساخرة مصاحبة لنشاطاته الفنية المتعددة الأوجه، مناهضا بها كل ما تم التعارف عليه، اجتماعيا وسياسيا ودينيا، ورغم وصم النقاد له بأنه مجرد هجّاء سياسي، فإنه استمر بدأب تقديم عروضه الكوميدية متوسلا بمنهج بريخت الملحمي، وموظفا طاقته التمثيلية الهائلة وقدراته الفائقة على الارتجال والتهريج متوسلا بالبرليسك والكوميديا ديلارتي ليصنع ما يمكن أن يطلق عليه الإبداع المباشر على خشبة المسرح، معايشا لقضايا عصره، ومتكئا على حكايات التاريخ، وممسكا بمعول التهريج ليقارع المجتمع والدين والسياسة وعتاة الرأسمالية. ما كان نتيجته أن فاجأت لجنة نوبل الجميع بمنحه الجائزة في عام 1997 معلنة ضمن حيثيات منحه للجائزة أنه: «على غرار البهلوانيين في القرون الوسطى حمل على السلطة ورمّم كرامة المهانين». الكاتب إذن مزيجٌ من النادر أن تجد له مثيلاً بين المهرج والحكواتي والفيلسوف والمفكّر والإنسان البسيط.
وأعماله لها هم واحد هو نزع الهالة المقدسة عن مؤسسات السلطة والهيمنة كافة.
النص المترجم الذي تم إعداده هو ذاته نص عرض قدمه «داريو فو» على مسرح المدينة في باريس عام 1971.
يتمركز النص حول حكاية إطارية؛ حيث خشبة المسرح تشكل ساحة إسبانية في القرن السادس عشر يقوم فيها نجارون بنصبون منصة إعدام لشنق ممثل بتهمة الهرطقة والإلحاد، ثم يأتي مرسوم يوافق على تمثيل الممثل المحكوم عليه بالإعدام، دورا في مسرحية تدور حول كريستوفر كولمبس والملكة إيزابيلا، فيوافق ملتمسا كسب الوقت عسى أن يوافيهم مرسوم بابوي بإيقاف الحكم. وهنا يدور التشخيص وندخل في متن المسرحية، نتابع محاولات كريستوفر كولمبس إقناع الملك فرديناند وزوجته الملكة ايزابيللا بتمويل مشروعه للوصول إلى الهند عن طريق الغرب، مستندا إلى الكشوف الجغرافية التي تؤكد إمكانية ذلك. ثم نجاحه في ذلك بعد معارضات من فرديناند وطبقة رجال الدين. النص يعمد إلى المقارنة بين شخصية كولمبس المغامرة التي لا تستنكف أي وسيلة مهما كانت في سبيل تحقيق هدفها، وترضى لنفسها المهانة بل والإذلال من أجل الوصول إلى ما تريد. وبين السلطة الحاكمة وحاشيتها من رجال الدين المحافظة حد التزمت، لكنها تستبيح السعي إلى مصالحها عن طريق الغزو والقتل، وإيجاد المشروعية لذلك. ينتصر «داريو فو» للمغامرة والفكر الحر، مظهرا مدى سطحية وزيف وتزمت الدائرة الحاكمة بما تشمله من حاشية.
جاء النص الذي أعده «د. سيد الإمام» مترجما النص المترجم من لغته العربية الفصحى إلى اللهجة العامية، بعد أن قام بحذف بعض المشاهد، لسهولة التركيز على ما ظنه الدراماتورج أنه ينبغي التركيز عليه، وهو إبراز دور الحضارة العربية وما ساهمت به في إحداث عصر النهضة الأوروبية، فرغم ما فعلته الملكة ايزابيللا وزوجها فإنها تقر بفضل العرب عليهم وتشهد بنظافتهم.
ثم يأتي بعد ذلك الإسهام الحقيقي من «سيد الإمام» بوصفه دراماتورجا، وهو فهمه مشروع «داريو فو» الذي يقوم على السخرية والبرليسك، لأن روحه وتجربته وطريقته لفهم العالم مبنية على هذه الصيغة، تلك الصيغة التي سمحت له بخلق ميزان كوميدي بين وضعين متباينين وغير حقيقيين، فعل هذا في كل عروضه بما فيها عرض «إيزابيلا وثلاث سفن»، حيث احتفظ بكل المرونة والتنويع، السلطة والعلامات التي توظف في خدمة البرليسك لدفع الدراما والشخصيات للحدود القصوى حتى يكون باستطاعته تقديم رؤيته الثاقبة لأشكال أكبر وأوسع من المجاز اللفظي، والإفيه الساخر المباشر على الأوضاع المستهدفة للنيل منها والتحول إلى البنية الكلية الساخرة، بعبارة أخرى يمكن القول اختصارا إن السخرية والهزء عند «داريو فو» مبنية على رؤية كلية وليست مقصورة فقط على مواقف، أو إفيهات. وهذه النقطة المفصلية هي ما استطاع هضمه نص «سيد الإمام» المعد عنه، فقد حذف الدراماتورج من نصه ما لا يفيد غرضه، ومما رآه غير لائق، ومما ظنه غير مفيد أو مطور للدراما، وكان نتيجة هذا كله أن بلور بنية السخرية الكلية، دون أن يفقد التواصل مع المتلقي، ودون أن يغفل التسرية عنه للحظات.
منح ذلك العرض قدرته على النفاذ والوصول إلى ما رمى إليه مؤلفه ومخرجه وممثلوه من تنبيه المشاهد إلى تهافت السلطة وابتذالها أيا كان نوعها، وإمكانية النيل منها بالسخرية والتهريج.

دائما ما يجد المتفرج أحداث ثانوية ساخرة تستحوذ على العرض لمنحه التوازن الدرامي، وهي أحداث سخر لها المخرج «أحمد عبد الجليل» زخيرة كوميدية لا تخطئ، ومنح كل حدث ثانوي الإيقاع الملائم الذي يجعله يبدو مفصليا في البنية الساخرة، وهو مسعى على الرغم من وضوحه فإنه يقع فريسة للهزل الذي يخل ببنية الأحداث.
العرض تتتابع مشاهده حيث يتم تعريفنا بالمكان وبالشخصيات وبالمهمة التي من المقرر أن نعيشها معهم، في العمق يغوص في آليات الالتجاء للقوة وسلوك الاستقواء، والمكائد والحيل المدبرة في البلاط الإسباني، والاختلاف البين بين طريقتي تفكير الملك والملكة، وسطوة رجال الدين، وحيل الشاطر كولمبس، وفي انهيار الأخلاقيات الملازمة لصعود طبقات اجتماعية جديدة، والانتهازية المصاحبة لصعود الملكيات الراغبة في التوسع والاحتلال عن طريق الحروب ونيران المدافع.
في منحى ثانٍ يستثمر العرض بصورة جيدة، تيمة المسرحية الرئيسية، عن الرجل الذي يقدّم لغيره عرضا سيتغير من خلاله التاريخ، مستندا إلى صعيد مغاير لتناول الشخصيات التاريخية، فهو لا يهدف إلى عرض وقائع قام بها كولمبس أو إيزابيلا، يتطرق فقط للجزء اليسير المتعلق بكفتي الميزان المتأرجحتين بين المغامر والسلطة، الأمر الذي أتاح للعرض تقديم حكايته المكثفة دون الاسترسال في أي تبعات تاريخية أو معالجات نفسية لشخصياته.
اعتمد أحمد عبد الجليل في تصميمه للحركة المسرحية لممثليه شكل المثلث، في رأس المثلث تكون منصة الإعدام، أو أريكة الملكة إيزابيلا، ويأخذ الممثلون خطي ضلعي المثلث المتقابلين على يمين ويسار المسرح، أما قاعدة المثلث فهي مقدمة الخشبة ومساحة التمثيل الرئيسية تتخذ شكلا مستعرضا، ويهيمن عليها في الأغلب كريستوفر كولمبس بينما يتبادل زاويتاها اليمنى واليسرى الملك فرديناندو، والجلاد، أو أحد رجال الدين. يحيل هذا الشكل الهندسي تقريبا حركيا بالاستعارة، ما يغني عن القول بالكلمات حول تراتبية السلطة ومساحات النفوذ، والعلاقات الهيراركية بين الشخصيات.
عنصر آخر يجعل العرض يكتسب أهميته هو الأداء الذي استخرجه المخرج من ممثليه، حيث ضم العرض ممثلين يقفون على خشبة المسرح للمرة الأولى، ويحسب للمخرج إدارة هذا العدد الضخم الذي يزيد على ثلاثين ممثلا وممثلة.
نشعر مع الممثل «أيمن أبو اليزيد» (زبادي) في دور «كريستوفر كولمبس» باعتداده بنفسه وبساطته، نلتمس إيمانه القوي بما يريد، ثقته بنجاحه في الرحلة، غناه الحركي كأي محتال لا يألو جهدا في الوصول لما يستهدفه، وقلقه الدفين في مواجهة إفصاحه الواثق، كل ذلك يصلنا دون أي تأسيس حقيقي للشخصية في النص المعد، حركته كافية لكل ذلك، تتراوح بين الإشعار بالثقة، وتخيّل القادم، والاستفادة من علاقات البلاط الإسباني المعقدة، والخوف، والطمع، والقلق، والحيلة، كوكتيل سخّر له الممثل كامل طاقته وتركيزه.
كما تقدّم الممثلة «نورهان رمزي» أداء جيدا في دوريها «إيزابيلا» و«جوفانا» المجنونة، عملها مكثف جدا، خاصة على مستوى الأداء الصوتي الفعال جدا رغم أنها لا تخلو من انفعال أدائي طفيف.
إضافة إلى ما قام به الممثل «محمد زايد» بدور الملك فرديناندو في حيوية وحضور، ومرونة عالية مكنته من الانتقال بين الحالات والمواقف الشعورية المختلفة.
كذلك استطاع الممثل «محمد البنا» في دور الجلاد أن يمثل يد السلطة الباطشة باستخدام تكوينه الجسدي وتلوينات صوته، كما استطاع المخرج من خلاله الدخول والخروج إلى حالات التشخيص من وإلى الحكاية الإطار والحكاية الرئيسية.
وفقت الألحان في التعبير عن التباينات الدرامية المختلفة والمتواترة بين أقطاب الصراع المختلفة، كولمبس، إيزابيلا، فرديناندو، رجال الدين، وحاشية البلاط. فبدت الموسيقى والألحان غنية المضمون وقوية الشخصية استطاع من خلالها «علاء غنيم» أن يحرر العرض من فكرة كونه انعكاسا لحالة صراعية داخل أحد بلاطات الملوك، وإنما حافظ على امتداد نهج أحمد عبد الجليل مع شريط الصوت فتصبح الأغاني في مساحات معينة وسيلة لحيوية الإيقاع وتنشيطه.
«محاكمة واد من جنوة» عرض عن المجتمعات الصاعدة، وعن تلك اللحظات المصيرية التي تضطر فيها السلطة الحاكمة للالتجاء للقوة من أجل أن تستمر في صعودها على حساب مجتمع موشك على الانقراض، وعن انتهاز الفرص المواتية، والإصرار على الغلبة، بمزج الدراما الكوميدية مع التاريخ والمجاز والإسهاب في سبر في العلاقة بين الرغبة والطموح والتسلط ومكائد رجال الدين، ودسائس النافذين في البلاط.
واستطاع العرض أن يسخر من كل ما يمارس بهتانا باسم الدين، ولكل وسيط ديني بين الإنسان وإلهه، كما عزز ذلك من خلال الصورة الساخرة للجلاد، والرعب الذي مارسوه على أصحاب الكلمة والفكر باسم الدين، هو إذ ينقد ما أسماهم العرض «أهل الحل والعقد» ويسخر من تزمتهم وانتهازيتهم، يعمد أيضا إلى الكشف عن الطريقة التي سيطروا بها على العقول وحاولوا فيها تفسير كل شيء بما يجعلهم دائما في موقع الحظوة من البلاط من خلال حديثهم عن البلاء والمحنة والعقاب وغضب الرب.
في عرضه هذا حقق أحمد عبد الجليل إنجازا مهما على مستوى تطويع العمل المسرحي للحظته الراهنة، مستفيدا بشكلٍ ينتصر لحرية الفكر والفن والانحياز للعمل الطموح.
بالنتيجة، صنع أحمد عبد الجليل عملا ممتعا، جاعلا من العرض فرجة مطلوبة، طيعا وبسيطا وصادقا وسهل الاستساغة ومحكم المشهدية، على الرغم من افتقاره لسعة الخيال بصريا.


محمود حامد