سعد الله ونوس.. والمسرح التفاعلي

سعد الله ونوس..   والمسرح التفاعلي

العدد 839 صدر بتاريخ 25سبتمبر2023

سعد الله ونوس من أكثر المسرحيين العرب تجريبا على مستوى النص المكتوب، حيث تتفاعل في مسرحياته أشكال متنوعة من المسرح، معتمدا على فلسفة واضحة، لتقريب الرؤية المسرحية من الجمهور، مع ضرورة إثارة الدهشة لديه، بتجديد عناصر تثوير الوعي، من خلال تفعيل دائرية الزمن، مما ينتج عنه مراجعة قوية لمعطيات الواقع في ظل المقارنة بالماضي، مع إعطاء مساحة متسعة لإبراز جوهر الفعل الإنساني.
تنقسم التجربة المسرحية لسعد الله ونوس إلى مرحلتين، المرحلة الأولى تضم كتابات البواكير المسرحية مثل «حفلة سمر» 1967، و «الفيل يا ملك الزمان» 1968، و»مغامرة رأس المملوك جابر» 1970، و»سهرة مع أبي خليل القباني» 1972، وهذه المرحلة غلب عليها التجريد المكثف والبعد الفلسفي  ففي هذه الأعمال «وجدنا اهتماما بتوضيح الأفكار الفلسفية التي تحدرت إليه من قراءاته الوجودية، بصورة أساسية، حول معنى الوجود الإنساني وطبيعة السلطة»(1)
دارت المسرحيات الأولى حول مفهوم الهوية ومحاولة التأكيد عليها كما في مسرحية «فصد الدم» 1963، والتي تناول فيها الصراع العربي الإسرائيلي، يقول «ونوس» في مقدمة المسرحية: «في تلك الفترة كان ميلاد المقاومة حلما، وأمنية شبه يائسة.. وكنت أتصور أن ميلادها لن يتم إلا إذا بتر كل فلسطيني بخاصة وكل عربي بعامة، نصفه المعطوب، نصفه المشلول بالأوهام والأكاذيب والخوف. باختصار كان على كل منا أن  يفصد دمه كي تنطلق الشرارة.. وتولد المقاومة»(2)
وفي تلك المسرحيات نجد الربط بين الماضي والحاضر، من أجل إحداث صدمة ودهشة عند المتلقي، وهذا ما يقول عنه «سايمون ديورنغ»: «إن رواية قصص عن الماضي قد تكشف كيف وصل المعاصر إلى ما هو عليه الآن»(3)
ففي «حفلة سمر من أجل خمسة حزيران» اجتاحت «ونوس» رغبة طموحة في الكشف عن الكلمة/ الفعل، حيث الكتابة الشاهدة على الانهيارات العاصفة للواقع، يقول «ونوس» في مقدمة المسرحية: «عندما بدأت كتابة مسرحية حفلة سمر إنما أردت التعبير عن استحالة الكتابة وخواء الكلمات، وفبي الواقع ما فائدة الكلمات حين يكون ما نحتاجه هو الفعل، كنت أتقدم في الكتابة، وكانت مشكلتي تتجلى وتبرز أمامي، لا تكفيني فعالية الشاهد وإنما أريد أيضا فعالية الذي يقاتل ماديا ويوميا، وهنا بدأ بحثي الدائب عن كلمة عارية كثيفة تكشف الواقع وتغيره في آن».
«وهكذا لم يفكر سعد الله وهو يكتب بمقتضيات جنس أدبي محدد، لم تخطر له   أية قضايا نقدية، كانم فقط أنه يعري واقع الهزيمة ويمزق الأقنعة عن صانعيها في سياق هبة جماهيرية تبدأ مضطربة ومرتجلة - هكذا يصف ويتخيل- ثم تتسق وتنمو في فورة عمل فعلي»(4)
ولكن الطابع التجريبي عند «سعد الله ونوس» ظهر في المرحلة الثانية من تجربته المسرحية، فكانت التقنيات الجمالية التي وظفها  ونوس في مسرحياته الأخيرة مواءمة لخلق نص مسرحي بحبكة أو حبكات متماسكة، استطاع أن يعبر عن طريقها عن صراع قوى مجتمعية متناقضة، مثلتها شخصيات جسدت أفعالا درامية بتوتر متصاعد، فجعلها فاعلة ومعبرة عن رؤاها بلغة خطاب تتناسب مع السياق العام لكل مسرحية من  مسرحياته التي كتبها بين 1989 و1997، إذ أن نصوص ونوس هذه مكتوبة باللغة العربية الفصحىوذو أبنية درامية متماسكة نسبيا، وكان لها قرؤها حين صدرت، واستقبلها المخرجون وقاموا بعرضها في أكثر من مكان على الصعيد المحلي والعربي والعالمي.
وقد بدأت تلك المرحلة بمسرحية «الاغتصاب» 1989م،والتي عالج فيها قضية الصراع العربي الاسرائيلي، حيث أبرز فيها حقائق تتعلق بدموية الصهاينة، و»بنية النص مفتوحة لسياق التحولات والاحتمالات في سيرورة تاريخ هذا الصراع  الدامي»(5)
ويتجاوز ونوس التيمة الرئيسية في النص، زوهي قضية فلسطين وتحديد معالم الهمجية الصهوينية الإسرائيلية.
وفي مسرحية «منمنمات تاريخية» 1994م، يقدم «ونوس» نصا مسرحيا تاريخيا، وقد استدعى في هذه المسرحية حدثا تاريخيا هو غزو تيمور لنك لدمشق عام 1400م- 803هـ، ويقصد من نصه ضرورة إعادة قراءة التاريخ، وهذا ىما أشار إليه د. جابر عصفور حين قال: «ونوس ملء ثغرات النص بما يؤكد إسهام الماضي في وعي الحاضر وإسهام الحاضر في وعي الماضي، وذلك في عملية يتحول فيها ناتج الوعي بالطرفين إلى معرفة ترهص الماضي»(6)
وقد اعتمد ونوس» في هذه المسرحية على عدة مصادر تاريخية منها كتاب «بدائع الزهور في وقائع الدهور» لأحمد بن إياس الحنفي.
الخطاب المسرحي عند «ونوس» يرتبط بتعميق الوعي الجماعي والمصير التاريخي، هذا الخطاب يعكس هواجس ذات قلقة معذبة متسائلة.
وهنا تبرز خاصية مهمة في مسرح «ونوس» وهي: التأكيد على وظيفة الاتصال المسرحي وطبيعة العرض كحدث اجتماعي يستدعيه ونوس من تجارب التاريخ متأملا محيطه الاجتماعي وكيفياته الأدائية، أو مكونا له عبر كسر الشكل كبنية مغلقة، نهائية، أمام جمهور منفصل، وصياغة لعبة مسرحية قائمة على تداخل الأمكنة والعلامات والشخصيات التي يجردها السياق وتدرجها اللعبة باعتبارها ذوات فردية.
يبدو «ونوس» في مسرحيات المرحلة الوسطى في كتاباته المسرحية لاعبا ماهرا بفكرة الرمز، يتجلى ذلك في مسرحيته «الفيل يا ملك الزمان» والتي يقدم من خلالها حكاية بها كثير من الأقنعة الفنية، حيث تدور حول فيل الملك الذي يتجول في شوارع المدينة، ونظرا لقوته وغفلته يوقع أمامه كثير من الضحايا، ومنهم طفلة يدهسها هذا الفيل الغشيم، مما يثير غضب أهل المدينة، وقد نجح «ونوس» من خلال لعبة التمويه المسرحي بإخفاء أسماء أهل المدينة والتي وردت مجردة، تفعيلا لعنصر الرمزية، وحين يحاول أهل المدينة الثورة على ما فعله فيل الملك ويتوجهون إلى قصر الملك يقودهم «زكريا» الثائر الشعبي، لكن حين يقابلون الملك يحيدون عن ثورتهم، وهنا يبرز «ونوس» معنى التراجع عن الثورة نظرا لشلخوف من شدة الطغيان.
وفي مسرحية «رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقين»، نجد محاكاة لمسرحية «السيد موكنبوت» تأليف «بيتر فايس»، مع إضفاء بعد واقعي عربي من خلال استلهام شخصية «حنظلة» الكاريكاتورية التي رسمها ناجي العلي.
وتدور المسرحية في إطار واقعي صرف يصور القهر في المجتمع من خلال شخصية «حنظلة» الموظف البسيط في أحد البنوك، لكن يلقى عليه القبض بالخطأ وتمارس ضده أنواع مختلفة من القهر والتعذيب بلا محاكمة، ويضطر حنظلة إلى دفع ما لديه من مال رشوة للشرطي حتى يفك سراحه، وحين يعود إلى بيته تتنكر له زوجته ويجد عشيقها ينام في سريره.
وفي مسرحية «طقوس التحولات والإشارات» 1994م،فقد قامت فيها اللغة بدور رئيسي للغاية، وإن كثر في متنها النصي عملية الوصف والمناجاة، مما جعلها تكاد تقارب تخوم اللغة الشعرية للتعبير عن خفايا الذات الإنسانية، وأراد «ونوس» من أبطال نصه أن يكونوا ذوات فردية تعصف بهم الأهواء والنوازع وترهقها الخيارات، كما وجد بها جرأة في توصيف الملذات الجسدية.
واعتمد «ونوس» على التناص مع مذكرات البديري الحلاق الدمشقي التي دونها في القرن الثامن عشر عن مدينة دمشق وأحوالها الاجتماعية.
ويحدث نفس التنكر حين يعود إلى عمله في البنك، وهنا يصل «حنظلة» إلى نتيجة مهمة وهي ضرورة الاعتماد على نفسه في تقرير مصيره، ونيل حريته. 
وفي المرحل الثالثة لدى سعدالله ونوس والتي تضافر فيها الخاص مع العام واتسعت رقعة الدراما، نجد مسرحية «الأيام المخمورة»، والتي طرحت مجموعة من الهموم الذاتية التي تتلاقى مع الهموم والقضايا العامة، ما بين الطرفين يقع الضمير في محك الاختبار، ويشغل السؤال الوجودي حيزا مضيئا في هذا النص الإشكالي، فنرى النص يبدأ بشخصية «الحفيد»، والذي يشبه «الراوي» في المسرح الشعبي، يقول الحفيد:
كنت في السادسة من عمري، حين غابت أمي يومين، عادت بعدهما، ومعها امرأة عجوز شديدة الضعف والهزال، في البداية خفت منها، ولكن حين تمليت وجهها، وجدته مضيئا وآسرا، لا تشبع العين من النظر إليه»(7)  
وكمعظم أبناء جيله نجد «ونوس» يعود لاستلهام التاريخ ووضعه كقناع مسرحي، كما اعتمد توظيف عناصر تراثية من الموروث الشعبي مثل الأراجوز والحكواتي والمقهى الشعبي.
ويأتي اتكاء «ونوس» على تيمات معينة في مسرحه ليكشف بها ما يعيشه الحاضر من مآسي متعددة، وهو بذلك يسقط أحداث الماضي ومفاهيمه وقيمه على الواقع الراهن المعاش، ليكشف عدمية وبؤس كثير من المؤسسات التي تعمل على استلاب الإنسان، وفقده لحريته.
واهتم «ونوس» كثيرا بالحرية الفردية قدر اهتمامه بالحرية الجماعية، لأهمية دور الفرد في السياق الاجتماعي. 

الهوامش:
فخري صالح: مسرح سعدالله ونوس، مجلة فصول- المجلد الرابع عشر- العدد الأ ول- ربيع 1995- ص322.
2- سعدالله ونوس: فصد الدم- الأعمال الكاملة- المجلد الأول- بيروت دار الآداب- الطبعة الأولى: 2004- ص429.
3- سايمون ديورنغ: الدراسات الثقافية، مقدمة نقدية- ترجمة ممدوح عمران- المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- عالم المعرفة- الكويت ط1، العدد 425- يونيو 2015، ص92.
4-محمود نسيمسعدالله ونوس الراوي والمنظور- مجلة أدب ونقد- العدد 309-  مايو 20011- ص40
5- د. أدهم مسعود القاق: المسرح السوري المعاصر- مركز ليفانت للنشر والدراسات- الإسكندرية- 2018- ص114.
6-د. جابر عصفور: منمنمات تاريخية- مجلة فصول- الهيئة المصرية العامة للكتاب- مجلد 16- العدد الأول- صيف 1997- ص387.
7- سعدالله ونوس: الأيام المخمورة- دار الأهالي للطباعة والنشر- سوريا 1997- ص5.


عيد عبد الحليم