العدد 599 صدر بتاريخ 18فبراير2019
خلال المسار الثاني «جائزة سمو الشيخ سلطان محمد القاسم» بمهرجان المسرح العربي الذي احتضنته القاهرة، تم تقديم العرض المسرحي «النافذة» لفرقة المسرح الحديث بالأردن، تأليف الكاتب العراقي مجد حميد وهو النص الحائز على المركز الأول في مسابقة التأليف المسرحي بالدورة السابقة لمهرجان المسرح العربي التي عُقدت في تونس، للمخرجة الأردنية الدكتورة مجد القصص، إعداد زيد خليل مصطفى، بطولة الفنانين الذين تفوقوا على أنفسهم خاصة وأن كل منهم يجسد أكثر من شخصية: حمد نجم، وإياد الريموني، ونهى سمارة، وهشام سويدان، ويزن أبو سويلم، ورنا قدري.
تدور أحداث العرض حول شخص يتم التحقيق معه لسبب غير معلوم، ويمارس معه المحقق القهر والعنف مستخدما معه كل وسائل التعذيب، مما يجعله يفقد الوعي في لحظات متباعدة يتم خلالها تذكر والدته ووالده وأخيه الشهيد وحبيبته.
وعلى الرغم من تصريحات د. مجد القصص حول اختلاف هذا العرض عما قدمته من عروض مسرحية سابقة، حيث تابعتها لسنوات طوال خلال مشاركتها في مهرجان المسرح التجريبي، فإنني أرى أنها لم تغير من معالجتها التجريبية للنصوص، وأن أهم ملامح العروض المسرحية التي تقدمها أن المحور الرئيسي الذي تدور حوله هو الإنسان وفضاء الحرية والتحريض على رفض القمع وعدم الاستسلام، بل أرى أنها أصبحت أكثر نضوجا، واستخداما للرمزية والإيحاءات والإسقاطات التي تتميز بها، فبدأت بمخاض الولادة والأم التي تموت عقب الولادة مباشرة، فيولد الأمل المتمثل في الطفل من الألم والمعاناة، بل من الموت، مستعينة في ذلك بدمى وليست شخصيات حقيقية، فكلنا دمى في يد السلطة تحركنا كما تشاء، كما لعبت السخرية من السلطة كحيلة قوية من حيل الدفاع النفسي دورا كبيرا ومحوريا حين جسدت الصراع بين المحقق والمتهم بصراع الشخصيات الكرتونية «توم وجيري»، وحين تعددت وجوه المحقق الذي يمثل السلطة فألبسته ملابس الساحر والدجال والمهرج، وجود الكرسي المتحرك الذي يجسد حالة العجز التي تكبل الأيادي وتمنعها من فعل أي شيء.
كما توجد لقطة سريعة جدا ربما لم يلحظها البعض وهي حين يقوم المحقق بخلع السروال عن المتهم في دلالة بارعة عن الانتهاكات التي يتعرض لها المعارضون السياسيون في المعتقلات.
أضافت أيضا تقنية السينما التي تلعب دورا جوهريا في مسار الأحداث، فلم تكن مجرد عنصر من عناصر الفرجة المسرحية التي تعطي للعرض بعدا جماليا وترفيهيا، بل في حالة تشابك دائم مع الأحداث فما يحدث في الخلفية هو ما يتم تجسيده على أرض الواقع.
شغلت ثنائية العلاقات حيزا كبيرا في العرض منها: المحقق والمتهم، الابن والأم، الشقيقان، الحبيبان، الطبيبتان، الترابيان، ولم تكن في الشخصيات فحسب بل في قطع الديكور المستخدمة: بابان، منضدتان، كرسيان، كذلك لغة الحوار التي تجمع بين الفصحى والعامية، وكأنها أرادت أن تنقل لنا الحياة بثنائياتها وتناقضاتها التي نحياها: الحياة والموت، الخير والشر، الذكر والأنثى، الأبيض والأسود، فوضعت أمامنا العالم كله من دون كلمة واحدة، في حين تظهر لنا الشاشة الأرض كلها بجبالها وأنهارها وبحارها وقد غطتها مربعات الشطرنج باللون الأحمر ثم اشتعال النيران فاختفاء ملامح العالم.
فالسياسة ما هي إلا لعبة يكسبها الأقوى، وغالبا ما يكون الأقوى هو السلطة بكل أشكالها.
جاء بالنص عدة عبارات قوية جدا وتحمل دلالات عميقة منها: “لا شيء يخضع للمنطق” التي تنطبق على العرض، “ما تعودنا نرجع منتصرين من الحرب”، كذلك الحوار الذي دار بين المتهم وشقيقه الشهيد حيث قال الشهيد: “ليه بنحارب؟” فرد عليه: “عشان تموتوا ونحلف برحمتكوا”، في تجسيد قوي جدا لانعدام القيمة في كل شيء حتى الشهادة. وأخيرا، العبارة التي انتهى بها العرض: “عليك أن تكتشف شباكك بخيالك، انزع الخوف عنك، لا تتركهم يرقبونك أينما ذهبت، أو أينما حللت.. تخلص من خوفك المزروع منذ طفولتك في ذاتك.. أخرج من رأسك ذلك العالم الجبان وتحرر، إنهم يراقبونك في كل مكان يريدون تحطيمك، يقتلون كل شيء فقط، لأنه وقف في طريقهم، أو لأنهم يريدون ذلك، لا يتركونك تنهض، لكن عليك أن تنهض ولا تستسلم، وافتح النافذة ولا تحبس نفسك من شدة الخوف من صوت المطر أو البرق أو الرعد، صنعوا الحروب فاصنع أنت الأمل ولا تسكت”، تلك العبارة التي تفتح بابا للأمل والقدرة على الخلاص رغم مأساوية الأحداث.
د. مجد القصص ممثلة ومخرجة ومؤلفة مسرحية أردنية من أصل فلسطيني صاحبة تجربة متميزة في المسرح الأردني المعاصر، حصلت على الماجستير في «مسرح فيزيائية الجسد» من جامعة لندن، ورئيس فرقة «المسرح الحديث»، قدمت مجموعة من العروض منها: «وبعدين»، «ليالي الحصاد»، «القشة»، «من الحب ما قتل»، «الخادمات»، «الباب»، «نساء بلا ملامح»، «كوميديا سوداء»، «قبو البصل»، «القناع»، «بلا عنوان»، «سجون»، ولها عدة مؤلفات منها: «مدخل إلى المصطلحات والمذاهب المسرحية»، و«رواد المسرح والرقص الحديث من القرن العشرين.. النظرية والتطبيق».