في مسرحية ريسايكل Recycle.. نهاية تاريخ الصلاحية الإنسانية

في مسرحية ريسايكل Recycle.. نهاية تاريخ الصلاحية الإنسانية

العدد 706 صدر بتاريخ 8مارس2021

تأتي الارتجالية الهزلية ريسايكل التي يقدمها مسرح الطليعة حاليا - , تأتي كابنة شرعية لقسوة وجود متوتر يستلب النبض ويصادر إيقاعات الحياة , يسحق الإنسان ويدمر الأحلام , يغني للدم والموت والاغتصاب والاستلاب , فقد خلع حلفاء الشيطان كل أقنعة الزيف , ليعلنوا أن الإنسان قد مات , وانتهى تاريخ صلاحيته , وتحول إلى نفايات يجب التخلص منها .  مخرج هذه التجربة وصاحب فكرتها ومصمم رؤيتها السينوغرافية هو الفنان المتميز محمد الصغير , الذي توقف طويلا أمام وحشية هذه اللحظة وقرر أن يواجهها , لعله يستطيع إعادة  تدوير النفايات وتغيير فلسفة الوجود وإنقاذ قدسية الإنسان , ورغم جدية المحاولة وسحر الاختراق , إلا أن الوقائع تتجاوز الحدود والخيال والتصورات , والمؤامرات الكونية المفزعة تثير الرعب والهلع وعبثية الاستيعاب , تلك الحالة التي أفقدت المخرج الجميل محمد الصغير توازنه الإنساني والجمالي , فجاء عرضه ريسايكل دون مستوى أعماله السابقة المسكونة بالتناسق والبريق والمشاعر النارية الصاخبة , فمن المعروف أن هذا الفنان يمتلك وعيا ثائرا وخيالا خصبا وبصمات شابة ولغة فنية شديدة الحرارة , تنتمي لعذابات جيل يبحث عن المعنى , وهو أيضا يمتلك سحر روح الهواية المدهشة , شاهدناه في العديد من عروض مسرح الجامعة , التي تأتي دائما كتيار من الجمال الصاخب الأخاذ , وعى مستوى الاحتراف قدم العديد من الأعمال التي أثارت ردود فعل نقدية وجماهيرية عالية , مثل شيزلونج , روميو وجولييت , الليلة ماكبث , يا هاملت ,  والسيرة الهلامية , ويذكر أنه من المخرجين الذين استطاعوا الانقلاب على المفاهيم الكلاسيكية ,  واختراق هيمنة الوقار التراجيدي  , وكسر كل قواعد الرونق والبهاء , وصولا إلى حالة عقلية مدهشة تبحث عن الوعي والذات والكيان عبر إيقاعات الهزل والبيرلسك والجروتسك  .
ترتكز فلسفة هذه التجربة على استراتيجية واضحة , تهدف إلى صياغة أجيال شابة تتفاعل مع إيقاعات وجودنا المسكون بالتوترات والتناقضات , لنتجاوز مأزق الجمود والغياب , وهي تتجه على المستوى الجمالي على الارتجال بمفهومه العلمي المنضبط , الذي اتخذ مساره عبر الكوميديا الهزلية , فأثار إعجاب الجمهور وترددت ضحكاته , بينما بعثت ردود فعل مختلفة في الأوساط المسرحية , حيث تقدير المدركين لجماليات فلسفة  الريسايكل , ورفض البعض الآخر لتيارات الهزل والضحك وتشويه الشخصيات , وفي هذا السياق كانت الحياة ترقص في مسرح الطليعة مع المخرج الذي أبحر ضد التيار وامتلك خصوصيته المتفردة وبصماته اللافتة وضرباته الجريئة الساخنة , ورغم الإيقاعات المأساوية التي نلمسها بوضوح , إلا أن الإدراك الجمالي لطبيعة الوجود الإنساني بشكل عام , يؤكد أننا نعيش نوعا من الكاريكاتير المثقل بالخلل والتناقضات , فالعالم من حولنا أصبح ساحة تتفجر بالانهيارات والمؤامرات , والبشر أعلنوا العصيان على هيمنة الرضوخ , لذلك اندفع فريق العمل من الشباب إلى التفاعل الحركي والكوريوجرافيا اللاهثة , تجاوزوا مفاهيم الإيهام والتوحد وخرجوا من أسر الجدية  والحس المأساوي , بحثا عن الرؤى الثائرة   المشحونة بلغة المفارقة الساخنة والسخرية اللاذعة والجروتسك الشرس , وفي هذا الإطار نجد أن الجروتسك يسكن قلب عالم المأساة , ولكن إذا كانت رؤية العالم التراجيدية هي تأكيد للثابت والمطلق , فإن الرؤية الجروتسكية هي نقد وانتهاك واختراق للسائد والكائن , وإذا كانت الكوميديا الهزلية تتبنى رؤى المأساة وتطرح نفس تساؤلاتها , إلا أن الإجابات تأتي دائما مختلفة .  
كان المخرج مدهشا في طرح تساؤلاته , بارعا في الأسلوب الذي وضع به الشخصيات في مواجهة الحياة , حيث القيم الإنسانية هشة وضعيفة , والوجود أقوى من البشر , والسياسة هي فن القبض على السلطة والاحتفاظ بها , والحياة مسرحية - - , والمسرح ممارسة علنية  لفعل الحرية , لذلك تمتد المحاكاة الساخرة لإشكاليات وقضايا واقعنا الممزق , وتتفجر المفارقات الدالة المتوترة , التي نراها أمامنا في صورتها الساخرة حيث الإنسان المختنق بكل العذابات الوحشية , التي تدفعه إلى دوائر القهر والكبت والموت والجنون , وتظل المبالغات في كل مفردات العرض هي المسار الوحيد لامتلاك الضوء والوعي , ويذكر أن هذه الحالة قد امتدت بالطبع إلى الأداء التمثيلي والانفعالات والمشاعر والملابس والحركة والألوان والضوء , وتبقى المبالغات الجسدية في تكوين الشخصيات باعثة لحالة من الهزل الشرس والجروتسك المثير , الذي يجسد السؤال الوجودي المخيف حول الموت والحياة وقدسية الإنسان , وهكذا يظل المتلقي في حالة دهشة وتساؤل وضحك وانفعال بتلك التجربة المبهرة , التي تشاغب الأعماق وتترك فيها أثرا باقيا لا يزول , يأخذنا إلى الدفاع عن الحياة وإنقاذها من كل هؤلاء المختفين خلف الستار , الذين قرروا استلاب الروح والمعنى والجسد .
يرتكز البناء الدرامي على صيغة مفتوحة تتسع لكل قضايا العالم , حيث المشاهد العديدة المتوالية , التي تتصل ضمنيا عبر منظور الطرح الفكري - - , موجات الحالة المسرحية تنطلق في إطار تشكيل جمالي ثابت يموج بالحركة والاندفاعات والامتداد والصعود والهبوط , الخلفيات السوداء تكشف أسرار صخب الألوان , والرسم السيريالي الغريب يكشف عذابات القهر والاستبداد , القطع البشرية المتناثرة تروي عن الموت والبشاعة والغياب , والأجساد الممزقة تتوازى مع الزجاجات الملقاة والأكياس والمهملات , وفي هذا الإطار تميزت صورة المشهد المسرحي بالتنوع والثراء , وكانت التفاصيل الغزيرة التي يبعثها تفاعل لغة الجسد مع دلالات التشكيل الجمالي والحركة والإيقاعات , باعثة لتيارات من التصاعد والحضور , لذلك جاء أسلوب الانتقال من الخاص إلى العام ناعما بسيطا وتلقائيا , أما العزف على أوتار الأعماق وتفجير عذابات القهر والإحباط  فقد انطلق عبر الضوء والموسيقى والحوار لنصبح  أمام وجود فني مثير يفتح كل أبواب الجحيم .
اتجه فريق العمل الضخم من الشباب إلى بعث تيار من المشاعر المتناقضة , ليحكوا بالجسد والضوء والهزل والارتجال عن تفاصيل حياة مضطربة وأيام باردة وأحلام مكسورة  وعواطف مكبوتة - - , عن رجال لا يدركون معنى الحب والجسد , ونساء باحثات عن الدفء والارتواء والاحتواء , عن عذابات الفقر والجهل والاحتياج , الغربة والعذاب والغياب - - , عن الليل والضوء والسماء والفراق , وعبر موجات الحركة والضوء والغناء تمتد شراسة الضحكات الحزينة لهؤلاء الذين لم يعرفوا يوما معنى السعادة والاكتمال , بينما تأخذنا الإيقاعات المتوترة المسكونة بالشغف إلى اندفاع الشباب والصبايا نحو الأجزاء البشرية المتناثرة , يجمعونها بإصرار لنصبح أمام مانيكان مكتمل تتحقق به فكرة إعادة تدوير النفايات , ويغيب مفهوم نهاية تاريخ الصلاحية الإنسانية , وحين يضعون على المانيكان الملابس الفرعونية , نصبح أمام حلم شديد الجمال والخصوصية , يؤكد أن الحياة ستبدأ من جديد عبر الوعي بالأصول والجذور والحضارة والتاريخ .
شارك في المسرحية مجموعة كبيرة من الشباب الواعد مثل صلاح الدالى, نانسي نبيل , آية خميس محمد سراج , أمل نور الدين , ياسمين خطاب و أسامة أشرف - - وغيرهم  , وكانوا جميعا على مستوى اليقين أن المسرح هو الحلم وهو التحقق والوجود .
كان الإعداد الموسيقي لمحمد سراج , والأداء الحركي لمناضل عنتر , والأزياء المتميزة لعبير البدراوي .


وفاء كمالو