العدد 550 صدر بتاريخ 12مارس2018
عندما يصبح “الإعدام” حُكم من لا يملك الحق، لمن لا يستحق الموت.. فلابد أن تلحق بنا لعنة الجنون الذى يهدم ويبنى، ذلك الجنون الذى بإمكانه بناء مدينة فاضلة وبإمكانه أيضاً خرابها ودمار أرضها.
عُرضت مسرحية الجريمة الكاملة – تأليف وإخراج محمد عادل – على المسرح الفلكي، تدور أحداث العرض حول جريمة “إغتصاب” قام بها شخص مُهاجر “ضيف” من بلدة أخرى هارباً من الحرب التى تحدث على أرضه، تجاه فتاة رجل من سكان القرية الأصليين مالك أصلى من مُلاك الأرض والمحصول، وهناك إشارة طوال العرض أن هؤلاء المهاجرين الوافدين من بلاد الحرب لا يشبهون سكان القرية الأصليين، ربما فى الديانة او اللون او الشكل ولكنها تُركت لتأويل المتلقى، ففى رأيى أنه يُعد إسقاط على إختلاف الديانة لأن جميع من بالقرية بلا استثناء كانوا يؤكدون بشكل أو بآخر على اختلاف هؤلاء “الضيوف” عنهم، والذين لا يستحقون الرحمة ولا حسن المعاملة.. ظهر هذا أيضاً على المستوى البصرى أن السكان الأصليين للقرية كانوا يتحركون بحرية أكبر فى الفضاء المسرحى “المحكمة” ويذرعون خشبة المسرح ذهاباً واياباً، على عكس هؤلاء المهاجرين “المُغتصِب” وصديقه فهم كانوا محدودين الحركة فى الفضاء المسرحى لا يتحركون الا للضرورة..
فكرة تنكير وعدم تحديد إسم للقرية بهدف التعميم كما أنه إسقاط على القرى التى تحدث فيها حوادث الفتنة والحروب الأهلية، كما أن الزمن الدرامى مبهم غير محدد ولا يستطيع المتلقى أن يستشفه من خلال ملابس الممثلين لانها محايدة ولا عن طريق مصطلحاتهم أيضا لانها عادية تناسب أى زمان وهذا أيضا بهدف التعميم واسقاط على فكرة أن هذه الجريمة قد تحدث فى اى وقت و اى مكان من العالم، هذا بالاضافة إلى أن فكرة اللا زمان واللا مكان أعطت للعرض طابع عبثى مُبهم – من وجهة نظرى – ولكن قد يكون هذا عن قصد من قِبل المخرج.. كما أن الفكرة الرئيسية للعرض “قضية” أو جريمة الإغتصاب التى قام بها شاب شاذ – يحب الرجال كما وصف نفسه فى العرض – والتى اُعدم من أجلها ولو بالطبع لم يفعلها وهناك الكتثير من الأدلة على ذلك، تؤكد أيضا على الطابع العبثى للعرض، فكيف يُعدم شخص شاذ بسبب قيامه بإغتصاب أنثى؟؟ وكيف ألم به كل هذا اليأس الذى جعله لا يحاول المقاومة ولا يحاول الدفاع عن نفسه؟؟
أما عن العلاقة بين الممثلين والجمهور (الصالة والخشبة) فكانت فى رأيي علاقة تكاملية، حيث أن الجمهور كان له دور هام جدا فى الدراما بإعتباره يمثل هيئة المحلفين الأدلاء الموكل لهم مهمة إنقاذ المجنى عليه ومساعدة أهل القرية فى التعرف على الجانى الحقيقى – كما قال “الراوى” فى بداية العرض – وهذا إن دل على شئ فيدل على أن الجمهور (الصالة) جزء من الدراما ولا يتجزأ من أحداث العرض ومساهم فى تحديد مصير الجانى الذى ستنتهى حياته بالاعدام وأيضا مصير المجنى عليه (الآنسة) التى ضاعت حياتها بالفعل بضياع بكارتها بعد اغتصابها.
كما أن من المُلفت للنظر أن االشخصيات ليس لها أسماء (الآنسة – الجانى أو المُغتصب – القاضى) فهى صفات وليست أسماء، والهدف من هذا - فى رأيي - التعميم واسقاط موجه للمتلقى أنه قد يكون مكان أي شخصية من هذه الشخصيات.. فالمخرج والمؤلف كان يهدف بأكثر من طريقة لجعل المتلقى متورط فى “القضية”.
أما عن موقع المسرح داخل المدينة، فهو المسرح الفلكى – مسرح الجامعة الأمريكية – الذى يقع بميدان التحرير، وهذا يمكننا ربطه بالطابع التجريبي للعرض، حيث تبنى العرض أفكاراً مغايرة وخارجة عن المألوف وقد تكون غريبة فى نظر المجتمع، فكانت شخصية “الآنسة” بمثابة ثورة تواجه كل هذا اللا معقول، فهى تعارض أبيها أفكاره الإضطهادية ضد المهاجرين إلى قريتهم والذى يراهم مجرد حشرات لا تستحق سوى أن تُدهس بالاحذية – كما وصفهم لها – وكانت أيضاً تعارض “المحامى” الفاسد فى أفكاره التى تتقابل كثيرا مع أفكار والدها، ولكنه بالطبع من سكان الأرض الأصليين فلن يوجه إليه أحد اتهام كهذا ولن يشك فيه أحد للحظة حتى ولو كان طوال العرض يتوجه للفتاة بالتحرش اللفظى والعديد من المضايقات، فهو الحالم الوديع الذى يبحث عن من دمر حياة موكلته، فبالتالى كان يجب أن يكون “الشرير المطلق” ليس واحدا من السكان الأصليين لأن جنسية المتهم – الذى لم يكن من السكان الأصليين للقرية – أثرت فى الحكم عليه وإعدامه حتى ولو لم يكن فعل هذه الجريمة، وعلى الرغم أنه لم يكن فاعل الجريمة فكان يجب خلق هذا الشرير المطلق من العدم، حتى ولو كان شاذاً لا يحب النساء! هكذا يؤثر رأى الأغلبية فى قضية ما على رأى الأقلية.
أما اذا تحدثنا عن علاقة العرض بالفضاء العام، ففضاء مدينة مثل مدينة القاهرة تزداد به عمليات التحرش والإغتصاب والاضطهاد لكل ما هو خارج عن المألوف، وقد يقصد مخرج ومؤلف العرض بهذا اسقاط على العلاقة بين الشعب والسلطة! كما أنه يمكن تأويله بأنها مواجهة بين الطرف الاكثر قوة – المجتمع الذكورى – و الأطراف الأثر ضعفا – النساء والشواذ – حيث أن ثنائية “القوى والضعيف” تحققت فى العرض على أكثر من مستوى، السكان الأصليين أو اصحاب الأرض “القوى” والمهاجرين أو الضيوف “الضعيف”، المجتمع الذكورى “القوى” والنساء والشواذ “الضعيف”، الرجل “القوى” والمرأة “الضعيف”، رجل القانون أو القاضى “القوى” والمتهم “الضعيف”.. ولكن دائما ما حاول كل ضعيف فى العرض أن يقاوم القوى، حتى ولو لم ينصر فقد اكتفى بالمقاومة، فمثلا هناك اشارة فى العرض بأن المتهم احاول أن يسيطرعلى شذوذه وحبه للرجال، وهناك اشارة اخرى بأن الفتاة حاولت الهرب بسبب بطش أبيها ولا مبالاته ونظرته المتعالية لكل من هو مُهاجر، ولكن هل مجرد المقوامة أمر كافى؟؟
كما أنه – فى رأيي – بالطبع والد الآنسة له دور فيما حدث لها بسبب أفكاره العنصرية التى يصدرها طوال الوقت ويحاول زرعها فى ابنته التى ترفض أن تُنبت تلك الزرعة!
خلق مؤلف وخرج العرض بعض التفاصيل التى تجعل المشاهد متوتر طوال الوقت ويبحث مع أهل القرية – بإعتباره من هيئة المحلفين – عن سبب كل ما يحدث فمثلا قاعة المحكمة – الفضاء المسرحى للعرض – بدون تمثال العدالة مما يدل على غياب العدالة فى هذه القرية الظالم أهلها، ومما يؤكد أيضا على تيمة العبث فى العرض. كما أن تمثال سيدة العدالة (وهو الذى عبارة عن سيدة مغمضة العينين تمسك فى يد سيف و اليد الأخرى بها ميزان) فهى مغمضة العين حتى لا ترى شخص وتنحاز له كما انحاز المحامى ضد المتهم، وتمسك سيف للحزم والقوة و اليد الاخرى بها ميزان للسلام والعدالة.. كما أن “القاضى” فى العرض كان يعمل مطرب وكان يغنى كلمات لا نعرف مصدرها فى البداية ثم بتتابع الأحداث نعلم أن كاتب هذه الكلمات هو المتهم نفسه، فكيف للقاضى أن يغنى كلمات المتهم؟ وهذا ليس فقط تأكيد على تيمة العبث، ولكن عن دل هذا على شئ فيدل على مدى جهل رمز العدالة “القاضى” بمهمته الأساسية وهى تحقيق العدالة ونشر السلام.
ظهرت أيضاً تيمة الغُربة فى العرض فى شخصية المتهم الذى اتغصب الفتاة وهو لا يستطيع أن يفعل هذا بسبب شذوذه ولكنه لم يكن يملك أن يدافع عن نفسه، لانه يرى أنه ليس له الحق فى هذا وأنه سيموت فى كل الأحوال، كما ظهرت أيضا فى شخصية الآنسة والتى تختلف تماما عن شخصية أبيها العنصرية فهى كانت تبتسم لهؤلاء المهاجرين الغرباء تهديهم الورود وتطلب منهم المساعدة وتمد لهم يدها، وأيضا الحوار الذى دار بينها وبين أبيها عن مدى إختلافه عنها وأيضا مراودتها فكرة الهرب وترك أبيها لانه لا يشبهها تؤكد على تيمة الغربة. والغربة لم تقتصر فى العرض على المهاجريم فقط (المتهم) بل السكان الأصليين (الآنسة) أيضا لديهم نفس الشعور.
أما عن الطابع الكوميدى فى العرض فكان فى نظرى فى غير محله، فأحياناً كان يقوم والد الآنسة بإلقاء إفيه أثناء لحظات الذروة والتراجيديا، مما يعتبر غير منطقى فهو من المفترض أن يكون أكثر المتضريين وأكثر الشخصيات حزناً، بدلا من ان يكون مصدر للكوميديا!
لعبت موسيقى العرض دور هام فى العرض، فكانت موسيقى حية يقوم ممثل بعزف بيانو فى لحظة الصراع الذروة والفواصل التى كان يعنى فيها “القاضى” كلمات المتهم المُعبرة عن مدى اليأس والإحباط والغربة.
قد تكون الجريمة التى يقصدها المخرج، والتى يقوم بالاسقاط عليها هى جريمة أبعد وأعمق من “إغتصاب الفتاة” قد تكون اسقاط على اغتصاب وطن مثلا، او حدث بعينه مثل حدث فض رابعة والاستهانة بقضية رابعة، بغض النظر عن إقتناعنا - بكونها قضية من الأساس - من عدمه.. وقد يكون إسقاط على العلاقة بين الشعب والسلطة.
ولكن هل كون المتهم شاذاً – أو كونه قال أنه شاذا – ينفى عنه جريمة الإغتصاب أو يعتبر دليل برائته؟؟ بالطبع لم يكن دليل براءة مُطلق وكافٍ ولكن هناك بعض “التفصيلات” التى تجعل المتفرج – بإعتباره ضمن هيئة المُحلفين الأدلاء – يراه بريئاً، فمثلا دليل إدانة المحامى يعتبر هو نفسه دليل براءة المتهم، فالمحامى كان متحالف مع القاضى وهذا ظهر فى المشهد الذى تقابلا فيه ليلا فى بار وقام القاضى بإعطاء “دبلة” المتهم على أنها دليل إدانة وُجدت فى مكان الحادث، ولكن لم توضح لنا الأحداث من أين حصل عليها القاضى، ولماذا أعطاها للمحامى – إذا اعتبرنا أنها بالفعل دبلة المتهم – مما يجعل الملتقى بلقى بإتهاماته على المحامى بدلا من المتهم الحقيقي، هذا بالاضافة أن المخرج أعطى للمتلقى – هيئة المُحلفين – إشارة فى نهاية العرض بأن المتهم الحقيقي هو صديق الشاب الشاذ ولكن فى رأيى كعضو من أعضاء هيئة المحلفين الأدلاء أن الهدف من هذه الاشارة مجرد تشتت وتشوش للمتلقى حتى لا يستطيع هيئة المحلفين الوصول للجانى الحقيقى، فينجح الهدف الأساسي للعرض وهو أن لا توجد هناك حقيقة مُطلقة، وكل الأشياء بإمكانك أن تكذبها.