العدد 808 صدر بتاريخ 20فبراير2023
قدم الفنان العربي غنام غنام العرض المسرحي بأم عيني في مهرجان المنصورة المسرحي الثاني في إحدي قاعات قصر ثقافة المنصورة
(أين هو الاحتلال؟) سؤال وجواب
قرار واستنكار، وكأنما (غنام) يبحث عن أشياء كثيرة عن الماضي البعيد والقريب الحاضر العجيب والغريب في فلسطين وفي داخل كل منا..
فالأحداث لا تعرض لنا بصورة مستقيمة ومباشرة، وإنما هي تنمو من خلال أزمات دائرية فالأبطال يتغيرون مع كل مرحلة، فهم قابلون للتبادل والفعل بتعقد بأفعال محبطة وأخرى دافعة للأمام.
والقدر لم يعد قوى أحادية، بل نحن نلاحظ ساحات قوى تخترقها تيارات متعارضة أو هي متقاطعة تكون الحدث والقضية عبر فعل الحكي لشاهد عيان يحكي بأم عينه.
ولأن (غنام) صادق يحيل العنوان (بأم عيني) إلى صاحبة العنوان الأصلي الكاتبة (فليتسيا لانغر) وهي في مؤلفاتها تدافع عن القضية الفلسطينية وتدين الممارسات الوحشية للاحتلال الإسرائيلي.
وما بين (أم عين فليستا لانغر وأم عين غنام غنام) ندخل إلى عمق العرض دون أن ندري فكعادته يسرقنا غنام من أنفسنا ويزج بنا داخل معترك العرض / القضية.
والذي يؤكد لنا أن كل موضوع يتمتع بمسرحانية خاصة به، وأن البحث عن البنى المعبرة عن هذه المسرحانية هو ما يشكل المسرحية ذاتها، بمعنى أن المتلقي أصبح أحد الشخوص المسرحية ليشكل أحد أركان العرض ومفردات لعبة غنام، تلك اللعبة التي تقول بكل قوة (لايكفي في المسرح أن نقول اشياء جديده وإنما ينبغي أيضا أن نقولها بطريقة مختلفة)، فالمسرح مازال يحكي منحازا للسرد في لوحات متتابعة مرتبة بدقة وعشوائية في ذات الوقت.
هي تستعصى على الايجاز السريع وتتطلب من المتلقي تعاوناً صداقاً، فنحن أمام شاهد يحكي عن ما عاشه كل فلسطيني منذ قرن من الزمان.. يحكي عن نضال الأجداد وإعدامهم ووصايا الآباء وقرع اقدامهم ورغبات الأبناء وحماس الأحفاد متسائلاً وسط كل هذه المفردات (أين هو الاحتلال؟)، فالمسرحية لا تقلد الواقع. بل تعرض له تكويناً أو تشكيلاً.
فغنام لا يطلب من الجمهور أن يلقي بنفسه في الحدوته كما يلقي بنفسه في نهر فيحمله هنا وهناك سواء بسواء، إنما هو يضع بكل صبر فخاخا يلتقط منها شذرات من اللغة التي تحطم السؤال الغبي عن المعنى والموقف عرب تداخل الأصوات ما بين غنام وصوت الناس في حلقته المسرحية.
إنما ينبغي أن تكون الأحداث مرتبطة بشكل تجعل من هذه الروابط مثيرة للاهتمام، لذا فالأحداث لا ينبغي لها أن تتوالى بشكل طبيعي، إنما يجب أن نتمكن الإدلاء برأينا لذلك فإن أجزاء الحدوتة ينبغي أن يمارس بعضها بعضاً بعناية وذلك بإعطائها بنيتها الخاصة وهي بنية مسرحية صغيرة داخل مسرحية أكبر، وتحقيقاً لهذا الهدف استخدم (غنام).. (العناوين – الصور – التواريخ – المباني - القبور – الوقائع المسجلة – أبيات الشعر – الغناء – الموسيقى)، لتمثل هذه الكتابة الدرامية المتقطعة في شكل جزئيات مساحة كبرى من العرض والعرض والحياة...
وخلق منها فقرات بارزة تمثل ما يشبه الفواصل وهي تمزق العرض بفراغات سردية يقوم المونتاج بسدها بطريقته باقتراح ترتيب معين أو بالعكس عن طريق الدهشة بافراز تأثيرات أخرى والتي يترك لمشاهد مهمة إعادة تشكيلها.
لتعلو القوى الدرامية ورهانات الأيديولوجية في شتى حالات الكلام حيث المواجهة البارزة المرتجلة ظاهرياً بين شخص وجمهور.
وكأننا أمام شخص يقول.. (كنت هناك لم أطلب شيئاً، وفجأة التفت وبدأت أفتش في رأسي عن أشياء، فرأيت صفوفاً من البشر ينظرون إليّ) ...
يقدم غنام (بأم عيني) بطريقة تقوم على الغياب الكامل للخيال المسبق... فالأحداث معروفة للجميع الصغير والكبير، لذلك كان يحكي غم في العرض ومعه يكي ويغني المشاهد لدرجه أن (العامل في معمل الطوب يحفظ تاريخ ميلاد غسان ولد في عكا 9 أبريل 1936)
حتى بعد أن تم احتلال البيت، فما زال البيت مقترناً باسم غسان، فالاسم قد حرر البيت وكأن غسان هو من احتل سكان البيت ومغتصبيه ليتردد السؤال أكثر من مرة.. أين هو الاحتلال؟
وكأننا أمام (التجنيبة وهي التحدث على حدة) إلا أنها تجنيبة طويلة ومباشرة بين غنام والجمهور، تتيح ما يسمى باعتزام القول بما هو كذلك يتيحه للسمع وللقراءة.
نحن أمام الكلام المزعوم وضرورة تجسيده حياً فكل شيء في فلسطين مازال حياً حتى الميت مازال حياً.
اللجوء إلى المسرح ...
في مسرحية نهاية اللعبة لـبيكيت.. يقول كلاف في أول عبارة..
(انتهى لقد انتهى.. على وشك أن ينتهي.. قد ينتهي، البذور تضاف إلى البذور واحدة واحدة وذات يوم وفجأة تصبح كومة كومة)
ويقول غنام على لسان ابنته..
(الاحتلال زغرة بزغر..كبرة بكبر)
جملة مرعبة شديدة العمق والتكثيف، تلخص السؤال والإجابة، الأزمة والحل، بل هي تؤكد أن الهزائم الصغيرة تقوي الفلسطيني على عكس هزيمة واحد لا يحتملها المحتل.
لذلك كان الختام
لماذا هزمنا هذا العدو؟
لماذا يهزمنا أكثر من مرة؟
وما الذي يحول دون أن نهزمه؟
وكانت إجابة (غنام) القديمة المتجددة هي اللجوء إلى المسرح، ليتحول المسرح في حياة (غنام) إلى [السكن – الوطن – السلاح – الحاضر – المستقبل – الأبناء] لدرجة أن تتظاهر الكتابة بأنها توقف سير الفعل، وتكشف وتندد بمواصفات العرض فالمسرح لا يتكلم إلا عن نفسه مستخدماً صوراً متداخلة وعارضاً جزئيات من الأداء المفروض أن مرجعيتها الحاضر وحده مع استخدام عمليات قطع في الفعل المسرحي في تقليب للأوجاع، فالشخصيات تعيد تشكيل أفعالها في أكثر من وجه، نحن أمام (مسرح الممكنات) كما أطلقت عليه (أرمان جاتي) وهو مسرح الدراموتوجيه وتعاملها في الفضاء في الزمن مع أبعاد متعددة وعصور متعددة في وقت واحد للتعبير عن الإنسان الذي لا ينفك، لتتحول الكلمة من جديد إلى جوهر للتمسرح، ومن ثم يلجأ المؤلف للكلمة مثلما هو (لجأ إلى المسرح)، حيث التدفق اللغوي المتحرر من القيود الأكاديمية في السعي نحو لغة شفهية مناسبة، فهي لها إيقاعها الخاص وجذورها وفي نفس الوقت تعبر عن ثقافة وخبرة لتتحول اللغة ذاتها إلى قوة وسؤال (أين هو الاحتلال؟).
فالعرض يحكي لغة مصورة بلا مجازات، والمؤلف يحافظ على ذكريات أهل فلسطين التي تنفجر في ثنايا العرض وأحياناً تذوب.. كحالة الذوبان التي احتوت (الأب غنام وابنته) بعد بعاد طويل، وهو ذوبان يتمناه غنام لكل فلسطيني أن يذوب داخل وطنه الخالي من الاحتلال، بل أن حالة ذوبان الابنة في حضن الأب هي تطرح السؤال (أين هو الاحتلال؟) هذا الذوبان يشكل مسرحانية لجأ إليها غنام وعن المسرح الذي يلجأ إليه دوماً بصفته [ضمير المتكلم والفاعل ونائب الفاعل وضمير المخاطب والمستتر]، إنه فعل الوجود في صيغة المضارع هو الصورة المحضة والغائبة بمنطقية العبارة، إننا أمام مضارع فعل الوجود في ضمير الغائب الذي لابد له أن يعود، فالعودة ليست مجرد كلمة ما دمنا نقدر أن ننقلها إلى لغات مختلفة.
لغة من يلجأ إلى المسرح (اكتب بعيني)
حينما يلجأ أحد المؤلفين إلى أن يخترع لنفسه لغة ما، فذلك لأنه غير راضٍ عن اللغة التي بين يديه، أو ربما تربطه باللغة المستحدثة علاقات عاطفية، مع أن اللغة الجديدة هي خلقت في تجويف اللغة المستعملة، فهي تنفجر من الداخل وكأن (غنام) يقول (يا قوم اكتب بعيني).
لذا نحن أمام تسلط الجسد الذي يتكلم وعن رغبة عارمة في إنشاء لغة محتملة، هي لغة مسجلة في الجسد، ضد الفضاء المزدحم، ضد نص غير ضروري، وضد ممثل خاضع للتقاليد البالية، فالعرض يخاطب الممثل فكل شيء يمر داخله ويمر من خلاله، وبالمعاني المضمرة التي يظهرها. مؤكداً على أن الكلمة تجهر برسالتها وهي أن الحياة تستحق أن نعيش من أجلها...
ففي المسرحية غنام حقاً يكتب بعينه كما يقول العنوان ليعود المتلقي متسائلاً هل يكتب غنام أم أن الأحداث هي التي تكتبه؟ لتبدو الكلمة وكأنها هروب تحول دون أن يتكلم الصمت، وهي أيضاً فعلاً يوازي، الكلمة تتحول إلى أداة حفر في الذاكرة البعيدة والقريبة، فالكاتب حينما يتكلم ويكتب هو بنفسه يجري ويتكلم ويصافح ويتوسل ويتساءل .. أين هو الاحتلال؟
لذلك ففي مسرح غنام دعوة مستمرة لإقامة حوار مع العرض، فالعرض المسرحي لا يتكلم وحده، ولكننا نستطيع أن نتصور أنه يجيب عن اقتراحات المتلقي، فالمسرح قلق دوماً، خاصة أن المجتمع يبدع الفن الذي يخلصه من مخاضه، مثلما فعلت بنا (بأم عيني) فهي ترسل العديد من الإشارات لمتلقي يقرأ نصا ويشاهد عرضا يعتمدان على لعبة الدوران، فالمسرح يمكنه ويجب عليه أن يتدخل في التاريخ، فهو شريك متضامن، يلزمنا من الآن فصاعداً على العبور، فالكتابة هي المعركة الأولى ذات النفس الطويل التي تجبرنا على عدم الجري خلف العرض وإنما العبور لشاطئ (غنام) في دفاعة من اختياراته الأيديولوجية من أجل التغيير والكشف عن مصادر داخل المتلقي موجودة بداخله منذ الازل.
وكأن (غنام يقول) ...
ليس المسرح مكاناً مغلقاً تقام فيه حفلات ران عليها الدهر لأعمال خالدة، المسرح سيمارس في المصنع وفي المدرسة، المبدع لن يكون طائراً يغني معزولاً فوق غصن مقطوع.. بل ينبغي أن تولد أغاني أخرى، أغاني ملايين البشر الذين لايزالون يلزمون الصمت ففي صمتهم أقسى أنواع الاحتلال.