الأرض الحمراء.. تلفظ أثقالها

الأرض الحمراء.. تلفظ أثقالها

العدد 627 صدر بتاريخ 2سبتمبر2019

إن صراع الإنسان مع القوى الأكثر منه توحشا وقسوة وقوى تحكم وتملك هي ديمومة تستمر باستمرار الإنسان على الأرض، فيحاول التوافق معها والتكيف على أثقالها وحمل تلك الأثقال فوق الظهور فتنحتي حتى إذا حاولت الرؤوس أن ترفع فوق تلك الأدران كان الخنوع والقهر لها بالمرصاد، فينتصر الطرف الأقوى على الطرف الأضعف دائما وأبدا والقوة والضعف ليس بالكثرة ولا بامتلاك الحق والحقيقة وإنما القوى دائما وأبدا في تلك الأعراف هو من يملك الحكم والمال والسلطة.
على خشبة مسرح صلاح عبد الصبور وضمن فعاليات مسابقة الشباب بالمهرجان القومي للمسرح المصري، قدم فريق مسرح كلية الزراعة بجامعة المنصورة عرضه المسرحي الأرض الحمراء تأليف ألفونس ساستري ترجمة ممدوح البستاوي إعداد وإخراج محمد فرج الذي حاول فيها تجسيد مأساة عمال المناجم الذين سيقوا إلى مصير غير آدمي بالعمل في الأرض الحمراء تلك التي سميت بهذا الاسم كناية عن كثرة التلوث الذي أحال الحياة إلى اللون الأحمر فكانت أرضا حمراء امتصت دماء العمال وعرقهم وأقدارهم، فتحولوا إلى إعجاز نخل خاوية ومع اقتراب الطريق منهم لتحقيق أحلامهم وآمالهم وحقوقهم ابتعد الطريق قدر اقترابه ليثبت أن السعي في عرف السادة ليس إلا (هباء منثور).
بدأت الأحداث بتقاعد أحد عمال المناجم لكبر سنه، فما كان من الإدارة/ الحكام/ أصحاب السلطة والمال إلا أن أمرت بإخلاء منزله وخروجه من الأرض، وهذا تقليد متبع، واستمرارا في التقاليد المتبعة أقام الرجل حفل وداع لأصدقائه، فكان أن ظهر شاب قرر قيادة الجموع لرفض هذه التقاليد من منطلق أنه ليس جزاء من أفنى شبابه في خدمة أصحاب المنجم أن يطرد وينفى ويحكم عليه بالتيه والتشرد، وكشفت الأحداث أن الشاب سلك نفس الطريق الذي سلكه العجوز حينما كان شابا وهو نفس الطريق الذي سلكه سلفه وقمعت ثورته استنادا إلى رضا الرب في الرضا بالأوضاع كما هي فليس هناك خير في الجديد أو في المطالبة بالخير الحقيقي المستحق والخير كل الخير في نظر السادة هو الرضا بالفتات.
وتسير الأحداث في نفس الطريق الذي سارت فيه الأحداث للرجل العجوز إبان كان شابا فبعد حشد الجموع من قبل الشاب والاستعداد لأن تلفظ الأرض أثقالها وتطالب بحقها قمعت ثورته، ولكن بشكل أكثر دموية ورويدا رويدا كبر الشاب وأصبح كهلا وصدر له قرار بالنفي والتيه وترك المنزل. وكتقليد متبع أقام الشاب الذي أصبح كهلا حفل وداع لأصدقائه فما كان من أحد الشباب أن رفض وقرر حشد الجموع لتلفظ الأرض أثقالها وتنبئ بتمرد سرعان ما سيؤد كسابقه، وهي إشارة افتراضية ذلك أن العرض اتجه بشكل كبير إلى مدح الأجهزة المعنية بحماية حق المواطن - (الذي لم يحمي) - القاطن في تلك الأرض كهروب من الاتهامات التي قد يتلقاها من أعد ومن شارك، ولكن السياق العام للحبكة والأحداث أشار إلى دائريتها وليس في ذلك حل قاطع أو صريح نستند عليه لنؤكد أن الحال سيتبدل إلى أفضل مما كان.
جاء ديكور أحمد رشدي موضحا دموية الأرض والجدران مما رأته من سيلان عرق الرجال فوقها كدماء قانية، فضلا عن كم القهر الذي احتوى العمال بوحشية قادرة على سحق هامات الرجال ونجح في كسر المنظر والمنظور عن يمين خشبة المسرح بذاك المستوى الأعلى الذي حوى منزل العجوز من الخارج أحيانا ومن الداخل أحيان قطاع أعلى من خشبة المسرح لأنه إنساني أكثر ويبتعد عن قاع الأرض التي تشربت بالدماء واستمر التوظيف لقطع الديكور بالوجه الآخر الرأسي من القطعة في يسار خشبة المسرح التي نقلت الحانة التي لا تختلف كثيرا في التصميم والتنفيذ عن المنجم، فكان الخط التشكيلي للديكور علامة مهمة من العلامات الدرامية نجحت في تأكيده إضاءة عز حلمي الدلالات الدرامية والجمالية التي ساهمت بشكل كبير في تأكيد مأساوية الحدث دون افتعال لاهتمامها بالحالة الشعورية للشخصيات المنسحقة تحت سنابك أقدام السادة أصحاب رؤوس الأموال الذين تجاهلت مطالب العمال المشروع فتوزعت الأجهزة بشكل جيد ونقلت الزمان والمكان بسلاسة حتى إذا قامت ثورة العمال على الأوضاع المتردية في المناجم تغيرت الحالة الضوئية إلى ما يشبه الكرنفال بقرب الحصول على الحقوق وبعد وأد الثورة عادت الحالة الضوئية إلى سابق عهدها فالتوزيع الجيد لمصادر إسقاط الضوء وكثافته وزواياه نجح إلى حد كبير في نجاح الصورة البصرية للعرض.
أشعار محمد فوزي اهتمت إلى حد كبير بالتمهيد للأحداث والتعليق عليها فقامت بدور الراوي الذي كشف الستار وفضح الحقيقة مع استخدام جمل مناسبة وإنسانية بشكل كبير استطاعت شحذ إيقاع العرض المسرحي بدءا من الأوفرتير الذي أكد أن وظيفة العمال ليست إلا دق المعاول ولتذهب حقوقهم أينما تذهب، وأكدت معاني الكلمات ووضعتها في الإطار المناسب بطبيعة الحال ألحان محمد عبد الجليل (جاليليو) الذي اتضح وعيه بالنغم واستخدم آلات موسيقية مناسبة للحالة الشعورية تماما فبدت الموسيقى مرئية بشكل كبير، وهذا أدى بطبيعة الحال إلى زيادة إيقاع العرض المسرحي.
العرض المسرحي “الأرض الحمراء” لفريق مسرح كلية الزراعة جامعة المنصورة، يصلح أن يطلق عليه عرض جماعي سواء كانت هذه الجماعية في تميز مفرداته المختلفة فاستطاعت أن تكمل بعضها البعض دون أن يطغى إحداهما على الأخرى أو الجماعية على مستوى التمثيل، ذلك أن كل الممثلين كانوا من التميز بمكان أهلهم للإجادة خاصة عمال المناجم في أدائهم الحركي، فبدا أداؤهم أداء رجل واحد آمن بحقه في الوجود وحقه في الحياة.


محمد النجار

mae_nagar@yahoo.com‏