السينوغرافيا الرمزية والأداء الاحترافي في ما بيفصلش شحن!

السينوغرافيا الرمزية والأداء الاحترافي في ما بيفصلش شحن!

العدد 555 صدر بتاريخ 16أبريل2018

منذ البداية اعتمد عرض (ما بيفصلش شحن!) على نوع معين من السينوغرافيا هو السينوغرافيا «الرمزية» التي يعتمد فيها الممثلون على الإيحاء والتلويح ولغة الجسد، كما تستخدم العلامات المجردة السمعية والبصرية (الرموز، والإشارات، والأيقونات) في إيصال الرسالة الدرامية دون استعمال المرجع المادي والديكور الواقعي الحسي المباشر. وتستبعد هذه السينوغرافيا التفاصيل الواقعية والطبيعية وتستبدلها بالرمزي. مثلا: يرمز إكسسوار الكرسي إلى العرش، والخيمة إلى الحرب، وتحيل الشجرة على الغابة حيث تحضر تلك المكونات فوق خشبة المسرح باعتبارها علامات رمزية إحالية على مستوى الألوان والخطوط والأشكال والكتل والأزياء والإضاءة والماكياج.

من ناحية أخرى يتكئ مسرح الطفل بصفة عامة على المحور (التوعوي، والتلقيني) ثم تبقى بعد ذلك إشكالية قولبة هذا المحور وصبه في قالب من المتعة والتسلية، وهذا ما وعته جيدا المخرجة (مونيكا جوزيف) حين شرعت وبرهافة في إخراج نص (ما بيفصلش شحن!)، حيث استوعبت فكرته الرئيسية ونقلتها بوعي ووضوح إلى تلك الكوكبة المائزة من (النجوم الصغيرة) التي أدت أدوارها باحترافية وثقة وتناغم لافت، فكان العمل بطولة مطلقة لكل شخصية منهم على حدة، حيث أدى كل منهم دوره أداء ساعد في نقل الفكرة، وتحقيق المتعة.
يدور هذا العرض المكون من فصل واحد وثلاثة مشاهد، الذي امتد لثلاثين دقيقة على المسرح الكبير بمكتبة الإسكندرية، وكان موجها لفئة الأطفال من سن الحادية عشرة فما فوقها، بفكرته الرئيسية حول (أهم المخترعات الإنسانية) من وجهة نظر الكاتبة (إيمان الشيمي)، التي تتمثل في اختراع (آلة الطباعة) وما تبعها من فوائد نقل (العلوم، والآداب، والفنون، والخبرات المختلفة...) من مكان إلى مكان ومن طبقة اجتماعية إلى أخرى بعدما كان اقتناء الكتاب الورقي مقتصرا على طبقة الأغنياء نظرا لتكلفته الباهظة، ولامتداد فترة كتابته.
أجاد الممثلون - الذين كانوا في نفس عمر جمهور التلقي - تقديم أدوارهم التمثيلية واتسم أداؤهم بالنضج والوعي والاحترافية، سواء كانت أدوارا «فانتازية» مثل شخصية (النحلة بيبليو)، أو «واقعية معاصرة» مثل شخصيات (نور، وزياد، وفريدة)، أو «تراثية ماضوية» مثل شخصيات (المخترع جوتنبرج، أفلاطون، أرسطو، وأثينا)، كما طوع كل منهم سينوغرافيا الحركة «الجسدية»، وطبقته «الصوتية» ليعكس الحالة الانفعالية، ويمنح المشاهد انطباعا بجنس وعمر الشخصيات.
بدأت المخرجة (مونيكا جوزيف) عرضها مستغلة بعض الإكسسوارات المعاصرة في مشهد البداية حيث تدخل فتاة في عمر جمهور المشاهدين بملابس عصرية تحمل جهاز (التابليت) وتحدث صديقتها عبر الهاتف بمتلازمتها التي تكررها من حين لآخر قائلة: «يا نهار.. يا نهار...!» بينما تدور حولها النحلة الناطقة (بيبليو) التي تعرفها بنفسها ويدور حوار حول الخوف ومشروعية الدفاع عن النفس المكفول لكائنات عالم الحشرات كما هو مكفول لعالم البشر، ثم ينعطف حديثهما حول الكتب الإلكترونية، فتطلب النحلة من (نور) أن تحكي لها إحدى الحكايات المخزنة في ذاكرة جهازها، وما أن تلبث الفتاة في الحكي حتى ينقطع الشحن، ثم يدخل طفلان آخران هما (فريدة)، و(زياد) الذي تدل ملابسه الكلاسيكية وإكسسواراته المكونة من (نظارة كبيرة، وحقيبة بها بعض الكتب) على حبه للقراءة وشغفه بالكتب الورقية، حيث يؤكد (زياد) على أهميتها وتميزها ويدلل على رأيه بمقولة إنها: «مابتفصلش شحن»، بينما تنحاز البطلة (نور) إلى الكتاب الإلكتروني، فتدور حولهم النحلة العجيبة (بيبليو) عدة دورات لتأخذهم في رحلة نحو الماضي ليعرفوا أي الأمرين أصح.    
ولم ينتقل المشهد من الحاضر للماضي انتقالا فجائيا، وإنما استعرضت المخرجة تطور مراحل الكتابة في المشهد (الثاني) حيث يلعب عنصر (الملابس) دورا لافتا في تحديد المراحل التاريخية التي تطورت فيها الطباعة من خلال (الملابس الفرعونية، والزي الوطني القديم للصين، والزي العربي...).
كما استخدمت (مونيكا) فكرة الألواح المصنوعة من الفلين لتماهي بها ألواح الطمي التي كانت تنقش عليها رموز الكلمات.
وقام الطفل (زياد) بدور الراوي الذي يحكي يشرح تفاصيل وتواريخ هذا التطور برفقة حركة الألواح التي يحملها الأطفال على خشبة المسرح، مما ساعد على اختزال الزمن وتكثيفه الذي تجنب به ترهل العرض، كما حافظ على الجانب المعرفي المنشود.
وتنوعت عوامل ومقومات (المتعة الفرجوية) في عرض (مابيفصلش شحن!)، حيث لعبت (الإضاءة) دورا مائزا في تبئير وتهميش الشخوص والأماكن حسب الحاجة، وتكثيف الحالات الانفعالية، ونقل التأثيرات النفسية من المؤدي إلى المشاهد عن طريق (طارحات الإضاءة، والأمشاط، وكشافات تكسير الإضاءة...)، ومن المشاهد التي لعب فيها عنصر (الضوء) دورا مائزا مشهد اخفاق المخترع (جوتنبرج) حيث استخدمت المخرجة (طارحات الإضاءة) على البطل الرئيسي الذي اتخذ وضعية الركوع بوسط المسرح المعتم دلالة على لحظة الانهزام والاستسلام التي كان يمر بها، بينما مررت الأمشاط على الأبطال الماضويين (أرسطو، وأفلاطون، وأثينا) الذين تحلقوا حوله يبثون في نفسه الأمل ويشحذون عزيمته في مشهد شديد الروعة بالغ التأثير.
أما عن عنصر (الديكور) فقد اقتصر على مجسم لآلة جوتنبرج للطباعة تتوسط خشبة المسرح، لتجسد الفكرة، وترمز لزمنها، وكرسي عريض على يمين المسرح يجلس عليه الممثلون في الزمن المعاصر، وابتعدت المخرجة عن السينوغرافيا الكلاسيكية التي تحاكي الواقع في التفاصيل والحجم. فادخرت بذلك أكبر مساحة ممكنة للممثلين الذين كان يصل عددهم في بعض المشاهد لتسعة أو عشرة أشخاص.
فضلا عن (التوظيف الموسيقي) الذي أبرز جماليات العرض، وأبعد الرتابة والملل عن المتلقين، كما قام بدوره الدلالي والإيحائي، وساعد على تكثيف البعد الدرامي داخل العرض، ولقد تنوع فشمل (التمويج الآلي، والأغاني، والمرددات)، و(الأصوات الاصطناعية، والمؤثرات الصوتية) وغيرها من الموسيقى التي أسهمت في إغناء وإثراء العرض المسرحي، وإضافة المتعة والدهشة السمعية عليه.
وفي المشهد الثالث والأخير يعود الأبطال للزمن المعاصر محملين بما شاهدوه من أحداث وما عرفوه من حقائق ليتفقوا معا على أن لكل كتاب أهميته.
وينتهي العرض بدخول مجموعة من الأطفال لتغني وترقص على أغنية عن (الكتب) دعمت البعد الرمزي، كما أضفت على نهاية هذا العرض الممتع والمفيد ثيمة من المتعة والبهجة حتى اللحظة الأخيرة.
بطاقة العرض
اسم العرض: مابيفصلش شحن
جهة الإنتاج: مكتبة الإسكندرية
عام الإنتاج: 2018
تأليف: إيمان الشيمي
إخراج: مونيكا جوزيف


إيمان الزيات