بريفاتوبيا شبح الخوف من الآخر يهدد الأبرياء

بريفاتوبيا  شبح الخوف من الآخر يهدد الأبرياء

العدد 531 صدر بتاريخ 30أكتوبر2017

دائما ما تسحق الحروب والنزاعات أبرياء لا ذنب لهم وتعاقبهم على أشياء لم يقترفوها، أبرياء لا يريدون سوى أن يبقوا في ديارهم بأمان وإلا تُباح دماؤهم. ولكن في الحقيقة، ما يحدث كان عكس ذلك في ظل الصراعات والحروب المختلفة الأسباب حيث يجدون أنفسهم مذنبين تُدمر حياتهم أمام أعينهم يغرقون في دمائهم وهم مكبلو الأيدي، ومن ثم لا يجدون أمامهم سوى الهروب من بلادهم رغما عنهم تاركين كل شيء بحثا عن حياة آمنة، ولكنهم يصطدمون بالواقع الذي يجعل البعض منهم قتلى والبعض الآخر غريبا في بلاد تنظر لهم دائما وأبدا نظرة الآخر الآتي لانتهاك ثرواتهم وتهديد حياتهم الآمنة، وهو ما يجعلهم يشيدون الأسوار حتى لا يأتي هذا الآخر ظنا منهم أنه سوف يُدنس مدينتهم الفاضلة.
ألقى العرض الأمريكي “بريفاتوبيا” - تأليف ماريا إيفستاثيادي وإخراج هاندان أوزبيلجين، الذي قدم ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي والمعاصر في دورته الرابعة والعشرين - الضوء الساطع على ما يحدث لهؤلاء اللاجئين الذين فروا من بلادهم بحثا عن حياة آمنة وهادئة، فلم يعلم هؤلاء اللاجئون أن الموت يلاحقهم وكأنهم هربوا من الموت للموت، فقد كان عرض “بريفاتوبيا” هو دقة إنذار للجميع للتصدي لهذه الأفعال المُشينة التي تحدث لهؤلاء الأبرياء.
بدأ العرض لحظة دخول الجمهور لخشبة المسرح حيث وجد الجمهور بعض الأبواب المغلقة على جانبي المسرح، وهناك شخص يقف عند كل باب ومن ثم نجد أن الجمهور متورط بشكل أو بآخر داخل الحدث المسرحي، فهذه الأبواب لم تكن مجرد معبر للجمهور لمشاهدة أحداث العرض، لكنها جعلت الجمهور مشاركا ومتورطا في الأحدث، كما كان هناك بعض المشاهد هبط فيها الممثلون الثلاثة من على خشبة المسرح، وقاموا بالتمثيل وسط الجمهور ولم يكتفِ المخرج بذلك بل جعل البعض الآخر يلقي حواره الدرامي من وسط الجمهور وكأنه يقول أنتم لا تشاهدون فقط في حقيقة الأمر أنتم جزء من هذا العرض أو بالأحرى انتم أحد سكان هذه المدينة الفاضلة الخضراء. جاء ديكور العرض معتمدا على التكنولوجيا الحداثية بشكل كبير، التي عبّر من خلالها المخرج عن حال اللاجئين تارة وعن العنف الذي يتعرضون له تارة أخرى، حيث استخدم المخرج شاشة متوسطة على يسار المسرح عُرض عليها صور وقصص حقيقية لهؤلاء اللاجئين ضحايا الصراعات والحروب مثل صربيا وسوريا وغيرها، كما استخدم في عمق المسرح شاشة كبيرة عُرض عليها فيديو يجسد الطريقة التي يتعامل بها اللاجئون في البلاد الأخرى لنرى من خلال الأداء الحركي الذي قام به الممثلون مع الفيديو كيف يتعامل سكان المدن مع هؤلاء اللاجئين الذين هربوا من الحروب ليصطدموا بما هو أشد قسوة من الموت.
جُرد من وحدتي الزمان والمكان إلا أننا نكتشف من خلال الأحداث أنهم في شاطئ يبدو عليه الثراء ليذهب المخرج بالجمهور ويذكرهم بقصة الطفل السوري الذي لقى مصرعة على شاطئ أثناء هروبه مع عائلته من سوريا بحثا عن حياة آمنة بعد الأحداث التي شهدتها سوريا بسبب الثورة. ومن جانب آخر، عبّر المخرج عن العنصرية التي ما زال يتعامل بها الأبيض مع الأسود، فقد جاءت الممثلة السمراء لنرى من خلالها كيف يتعامل معها الأبيض ومدى العنصرية والوحشية التي يتعامل بها الأبيض مع الأسود، والتي لا تمت للإنسانية بصلة، ومن ثم نجد أن هذا الآخر لم يكن فقط اللاجئ الهارب من الحرب والصراع، بل إنه أي شخص تختلف هويته عن سكان تلك المدينة الخضراء الفاضلة.
واستكمالا لكسر الإيهام الذي اعتمد عليه العرض من بدايتة، والذي استخدمه المخرج ليبث في نفس الجمهور الثورة التي تدفعه للتصدي لوقف هذه الأفعال المشينة وتغيرها، جاءت نهاية العرض المسرحي “بريفاتوبيا” صادمة لبعض الجمهور حيث ظلت الفتاة ملقاة على الأرض تستغيث عبر صرخات قاسية ودموع حارقة منتظرة أن تجد قارب النجاة لإغاثتها لتظل الفتاة على هذا الوضع إلى أن يستجيب أحد الجمهور ويصعد خشبة المسرح لينقذ تلك الفتاة، وبالفعل لم ينتهِ العرض المسرحي إلا بعد أن استجاب اثنان من الجمهور وصعدا خشبة المسرح وقاما بإنقاذ هذه الفتاة. والجدير بالذكر، أن استخدام المخرج لفكرة استمرار العرض وعدم إسدال الستار إلا بعد أن يستجيب أحد الجمهور لإنقاذ الفتاة هو ما خلق حالة من الإثارة والتفكير، بل والثورة التي أشعلت الرغبة في التغيير، ليؤكد على أن الوضع لن يتغير طالما ما زالنا نشاهد في صمت. وبالفعل، نجح المخرج في الاستحواذ على عاطفة وعقول بعض الجمهور الذي اختلفت ردة فعله منهم من شاهد في صمت ومنهم من استجاب بالفعل وصعد الخشبة دون تفكير لإنقاذ الفتاة، ومنهم من خرج عن صمته صارخا في غضب شديد لما يراه على خشبة المسرح، ففى الوقت الذي انتهى فيه العرض المسرحي بدأ التفكير والنقاش بين الجمهور الذي استمر لفترة طويلة بعد أن أسدل ستار العرض.


رنا أبو العلا