أرملة الصحراء الوعي الحركي برواية «واحة الغروب»

أرملة الصحراء الوعي الحركي برواية «واحة الغروب»

العدد 538 صدر بتاريخ 18ديسمبر2017


من المهم للغاية لكل فرقة رقص مسرحي حين تتعرض لرواية معروفة وتعيد تقديمها على المسرح من خلال تصميم - لا يعتمد بداهة على الحوار أو السرد الطويل أو حتى التعريف بكل الأحداث والشخصيات المكملة للحدث - أن تعي كيف تختار مضامينها وكيف تصل للمتلقي إشاراتها وفي تصوري هكذا لعبت فرقة الرقص الحديث في عرضها الجديد على خشبة مسرح الجمهورية الذي جاء بعنوان (أرملة الصحراء) من تصميم وإخراج سالي أحمد، العرض مأخوذ عن رواية الكاتب الكبير بهاء طاهر (واحة الغروب) ولا تلتزم هنا المصممة بالترتيب المنطقي للأحداث أو حتى تنحاز لبطلها وبطلتها الأساسيين حيث الضابط المصري محمد عبد الظاهر وزوجته كاترين، فقط توقفت المصممة عند إحدى الحكايات المؤثرة في الرواية حيث شخصية (مليكة) فتاة الواحة شديدة الجمال التي كانت أمها وحسب العادات القديمة تغير ملامحها بكل الطرق حتى لا تلفت الانتباة إليها، العرض هنا يتمحور حول تلك الشخصية فيقدم علاقتها بأهل الواحة وعلاقتها بأمها وأيضا يتعرض لزواجها وموت زوجها واللعنة التي تحل بها حسب تقاليد أهل الواحة فالمرأة التي يموت زوجها تقبع في معزل عن الناس لمدة من الزمن حتى لا تصيب أحدا لعنتها ويسمونها (الغولة). والغريب في الأمر، أنه ممنوع عليها حتى الاستحمام؟ وحين تخرج لتتطهر يتحاشاها الناس.
العرض يعتمد بداهة على تكوين العلاقات عبر مجموعة من المشاهد المشبعة بالتفاصيل الدقيقة في رسم الموضوعات والأحداث ويحاول أن يتوسل من خلال مشاهد سينمائية مستوحاة من حلم بعض الشخصيات كحلم مليكة بعشيق يأتي على جواد أبيض وعلاقتها بالصحراء الواسعة والعلاقات المعقدة بين أهل الواحة وتعايشهم العجيب مع الفضاء الشاسع.
وتتكئ المخرجة على علاقة مليكة بالأم حيث يتسيد الخوف والقهر معظم تلك العلاقة الشائكة التي تبدأ من مراحل الطفولة وحتى موت (مليكة)، فالأم هنا جزء من ثقافة وعادات مجتمع وحتى لو كانت تفيض بمشاعر حنو على ابنتها، فذلك لن يعطل تنفيذها لكل العادات والتقاليد المرتبطة بالمجتمع، وهو ما ظهر بجلو في تفاصيل العرض واعتمدته المخرجة كدليل على بيان تلك العادات الغريبة التي تحارب الجمال وتحارب الحرية وتحارب الوجود ذاته فالبنت التي توفي زوجها تبدو في ثوب المتهمة وكأنها السبب الرئيسي في ذلك الموت، ولا بد أن تعاقب عليه بنفس المنطق الذي تتبعه الواحة في حكمها الجائر، ففي الوقت الذي تهرع فيه إلى أمها كملاذ أخير تجد الأم جافة وعنيفة في التعاطي مع الموقف الغريب وتقرر أن تتخلى عن فلذة كبدها وتتركها في العراء النفسي والمجتمعي كي تواجه مصير العزلة والموت الاختياري وهو الأمر الذي ترفضه (مليكة) فتقودها ثورتها للموت المتوقع.
تصميم المشاهد وحركات الراقصين في هذا التناول الجاد جاء ليلعب بأكثر من طريقة أهمها إيصال معاني الحكاية الداخلية عبر مشاهد تكمل بعضها البعض فتعطي معنى كاملا لعلاقات مليكة بأهل الواحة وعلاقتها بأمها ثم علاقتها بالزوج وحدث الموت يتخلل ذلك بعض الأحلام والأطروحات المتشابكة التي تكمل عالم واحة سيوة وطريقتها في التعاطي مع المواقف والأحداث. وقد بدأ من هذه السلسة من المشاهد أن هناك فارقا كبيرا بين خيال المصممة وخيال مهندس الديكور (حسام أحمد صلاح) الذي بدت تصاميمه غريبة على معظم المشاهد المقدمة وغريبة حتى على تصاميم منازل الواحة نفسها حيث كانت المنازل عنده عبارة عن بانوهات يمكن تحريكها بسهولة كي تسمح ببعض المشاهد الراقصة، هذه البانوهات عبارة عن أبواب بيوت مرسومة من الخارج يغلب عليها الرماديات؟ ويبدو أن المصمم لم يلحق بالعرض في مراحله الأخيرة قبل الخروج على الجمهور؛ إذ بدت ألوان البانوهات غريبة على التكوين السينوغرافي الكامل وأرجو في حال إعادة العرض في حفلات جديدة أن يتم التناغم بين الديكور وطبيعة العرض بشكل أفضل مما شاهدنا، وخصوصا ألوان البانوهات وعدم تناغمها مع الإضاءة التي صممها عمرو عبد الله.
الإضاءة هنا تماهت مع تيمات العرض بتناغم ووعي ومحاولة طيبة لبيان الجمال عبر تشكيل المسرح بمجموعة من البروجيكتورات التي تعي تماما مصادر القوة في المشهد وكيفيات تلوينه ببالتة تفهم الأزياء وتدرك الخلفية اللونية المناسبة لطبيعة التكوين، ومن ناحية أخرى تم معالجة البانوراما لتكون مصدرا للقوة وتبديل المناظر والمساعدة في ثراء المشاهد وتنوعها، وهي أمور لا تتوفر لكثير من العروض فالمراجع للأجهزة المستخدمة سيجدها في المتناول ولا يوجد جهاز واحد جديد، ولكن خبرة المصمم وطريقته في التعاطي مع العرض الراقص هي التي صنعت الفارق الجمالي وعمر عبد الله معروف أنه فنان “مودي” لا يتحرك في طريق الإبداع إلا لو تفاعل بشكل كبير مع التصاميم الأدائية التي تحركه كمصمم، ويبدو أنه في هذا العرض كان متفقا وطبيعة الموضوع والتشكيلات الحركية المناسبة وطبيعة الموضوع المأخوذ عن الرواية.
وجاء أداء الراقصين ليمرر للمتلقي القدرة الطبية للمجموعة المؤدية وقدراتهم الحركية الطيعة التي تمازجت مع طبيعة الزي وكيفيات الولوج إلى طبيعة الحدث الرئيسي عن أهل الواحة، فقط كان على المصممة أن تهتم أكثر بالمشاهد الخاصة بأهل سيوة وطريقة تفاعلهم مع بعضهم البعض حيث علاقات الشد والجذب بين الأطراف المختلفة والمعارك التي تسود العلاقة في بعض الأحيان، فقد بدت تلك المشاهد باهتة وتحتاج للصياغة الحركية والتفسيرية بشكل أعمق، وحتى علاقة مليكة بكاترين تحتاج للتوضيح بطريقة أكثر عمقا؛ إذ إنها علاقة غريبة ورغم قصرها فإنها ذات طبيعة خاصة، أما العلاقة التي شبعتها المخرجة بكثير من الحركة والتفاصيل الأدائية (علاقة مليكة بخالها)، فقد كانت جيدة ومشبعة بإشارات لا يمكن أن يخطئها المتلقي من شدة وضوحها الحركي والضمني.
حقيقة العرض يمتاز بكثير من مناطق القوة التي تشي بوجود مصممة حركة ومخرجة تمتلك أدواتها وتسعى لاختيار موضوعاتها بثبات ووعي، ولا تخشى القطع على موضوعات مشتبكة كي تختار منها ما يلائم موضوع عرضها وهي سمة أساسية في أي مصمم يعرف تماما مناطق قوته وتفاعله مع الموضوعات التي يود التشابك معها ليعيد طرحها وفق منهج حركي لا يمضي بشكل كامل بالمنطق الذي يفسر الحركة والتصميم، وإنما يأخذ خطوة من الموضوع فيضع لمسات تخص تفسيره لطبيعة العلاقات والأصوات المختلفة في العرض الراقص.
 


أحمـد خميس