المسرح كما أحبه، ليس فقط سببًا للمتعة أو وسيلة للدهشة البصرية. لكنه، في أجمل تجلياته، نافذة تكشف لك لغزًا ظل يحيرك سنوات طويلة.وهذا بالضبط ما جرى معي منذ أيام حين حضرت بالمصادفة عرضًا مسرحيًا عنوانه بدا لي غريبًا في البداية، «ابن الأجنبية». شارك في تقديمه مجموعة من الشباب، مصريون وسودانيون وسوريون.لن أتوقف هنا عند تفاصيل العرض الفنية- ديكورًا أو أداءً أو تشكيلات حركية- فقد وعدت أصحابه ألا أفعل ذلك إلا عند إعادة تقديمه، بعد الاستفادة من الملاحظات التي تناقشنا فيها فور انتهاء الليلة الواحدة التي عُرض فيها. فهم، كأغلب شباب المسرح، يملكون من الحلم الكثير، ومن «القروش» القليل.لكنني سأتوقف هنا عند ما فعله العرض بي. فهو ببساطة وضع يده على سؤال قديم ظل يدور في ذهني لسنوات. وحين انتهى، أمسكت بهاتفي وعدت إلى البحث عن الحالة النفسية التي تناولها، ووجدتني أقول :الآن فهمت.“عرض ابن الأجنبية» هو كتابة جماعية عن حالة شبه حقيقية كما أخبرني أصحابها. وهو يحمل من أخطاء البدايات ما يمكن احتماله، خصوصًا في أداء الممثلين. لكنه يحمل في المقابل من المعاني الكثير. والأهم أنه فتح لي نافذة لفهم حالة قابلتها منذ سنوات وكانت بالنسبة لي لغزًا كبيرًا. فقد فهمت من خلاله لماذا كان شخص عرفته طويلًا يمارس عنفًا غريبًا وغير مبرر تجاه من لا يملكون مواجهته، بينما يلين فجأة أمام الأقوياء وأصحاب السلطة.الحالة النفسية التي كشفها لي العرض يمكن أن نسميها ببساطة: التباس الهوية وأثرها». فالعرض يتحدث عن طفل جاء نتيجة زواج رجل بامرأة أجنبية، ونشأ معها في بلد الأب. يكبر الطفل حائرًا بين عالمين: لغة تختلف قليلًا، ملامح ليست «مطابقة» لما حوله، عادات منزلية تبدو غير مألوفة، وأسئلة يومية يواجهها في المدرسة والشارع:“إنت منين أصلًا؟”“ليه بتتكلم كده؟”“أمك مش من هنا؟”أسئلة قد تُقال ببراءة، لكنها تتحول- مع التكرار- إلى وخزات صغيرة تبني داخله شعورًا بالهشاشة. ومع أول لحظة تنمر، صريحة أو ناعمة، تتشكل الندبة: إحساس بأنه ليس «تمامًا» مثل الآخرين، وأنه يحتاج دائمًا لمن يحميه.هذا الجرح لا يزول. يرافق صاحبه في كل مراحل حياته. يكبر، يتعلم، يعمل، وربما ينجح في مجال ثقافي أو إعلامي. لكنه يظل يحمل داخله شعورًا بأن العالم مكان غير آمن، وأنه بحاجة إلى حماية. إنه دوما يبحث عن «ظهر»: رئيس في العمل، كفيل، شخص نافذ… أي سلطة تمنحه شعور الأمان المفقود.ومقابل هذا الخضوع للأعلى، يشعر بقوة زائفة تجاه من هم أسفل. فيمارس عنفه على زملاء أضعف، أو موظفين لا يستطيعون الرد، أو أي شخص يعرف مسبقًا أنه لن يتمكن من مواجهته مباشرة.العنف هنا ليس تعبيرًا عن قوة، بل انعكاس لجرح قديم يتخفى وراء قناع من الصرامة.إنه دفاع طفل لم يُعالج يومًا، يحاول أن ينتصر متأخرًا في معارك خسرها صغيرًا.“ شكرًا فريق «ابن الأجنبية»، لقد ساعدتموني على حل اللغز.وأعدكم بأنني سأبذل جهدي كي تتمكنوا من إعادة عرضكم، لأنه يستحق أن يُرى ويُناقش.وحينها، سأعود للحديث عن التفاصيل الفنية… تلك التي همست بها لكم عقب العرض.