يهوذا.. أين ذهبت إنسانيته؟

يهوذا.. أين ذهبت إنسانيته؟

العدد 626 صدر بتاريخ 26أغسطس2019

في الشكل الأسطوري أو الروايات الدينية أعتادنا الا ننبُش بين ثنايها لنبحث عن أسباب حدوثها, مهما كثرت التأويلات نسندها في نهاية المطاف لكونها أسطورة أو معجزة دينية تعود لمشيئة الآله, ولا شأن لنا في تتبع أسبابها حتى وإن كانت في أحيان كثيرة غير مُقنعة لأفكارنا.
قدم المعهد العالي للفنون المسرحية العرض المسرحي “يهوذا” إخراج كريم عبدالكريم المأخوذ عن نص “ليلة إنتحار يهوذا” للكاتب عصام عبدالعزيز, ضمن فاعليات الدورة الثانية عشرة للمهرجان القومي للمسرح المصري.
بداية من أسم العرض تنكشف سير الأحداث قبل بدأها, فالجميع على علم بقصة يهوذا الإسخريوطي وأنه واحدا من تلاميذ المسيح الإثني عشر, وهو من وشى بمُعلمه/ المسيح عند اليهود مقابل ثلاثين قطعة فضة, بل ومن بعدها أصبح يهوذا أيقونة للخيانة يُستشهد بها, وسار على نفس النهج في المسرح شكسبير عندما خلق شخصية برتوس الخائن لصديقه يوليوس قيصر, وأصبح عند ضرب أمثله للخونه لا يغيبا يهوذا وبروتس من مضمون المثال.
ولكن الفرق عند شكسبير أنه كتب دراما مُتقنه أبرز بها المعاناة الداخلية لبروتوس قبل الإقبال على تلك الخطوة/ قتل يوليوس قيصر.
بينما ليهوذا فشاعت التأويلات نظراً لكونها حادثة ذُكرت في الأديان. ولكن قلما ما بحث نحو معاناة يهوذا ذاته قبل وبعد إرتكاب فعل الوشاية بالمسيح
سار العرض على نفس وتيرة الأحداث المشهورة دون الخوض في لعبة التغير أو إضافة لمسة فنية مختلفة عن القصة المتداولة, مما يرهق المتلقي في أحيان كثيرة نظراً لعلمه المُسبق بما يراه.
ولكن الإضافة جاءت في الاتجاه نحو دواخل يهوذا, تصوير معاناته وصراعاته الداخلية التي لم نرها من قبل ولا توجد رواية مؤكدة لها.
حاول العرض ان يجعل المتلقي يدين البطل/ يهوذا, ويتعاطف معه في الوقت ذاته, وتكمن إدانه المتلقي له من زمن بعيد نظراً لكونه رمز الخيانة الأشهر, ولكن التعاطف معه يأتي بلمس المعاناة الداخلية, أستند العرض في تقديمها على مجموعة من الراقصين بشكل واضح من الملابس والإضاءات الحمراء والرسم على أجسادهم يتضح أنهم شياطين وأن هم من عبثوا في صدر يهوذا ووسوسوا له حتى أرتكب جرمه, كان من الأفضل لو لم يتم التنويه عنهم بشكل صريح أنهم شياطين وفُتح مجال التأويل أمام الجمهور بشكل أكثر رحابه نحو كونهم دلالات وجهته لإرتكاب الأثم بصفة عامة, فيجوز تأويلهم حينها بأنهم شياطين من الجن أو من الأنس أو من ذاته وأنهم ليسوا إلا أفكاره الخاصة, حتى تظهر إشكالية العرض بشكل أكثر دقة في كون الإنسان مخير أم مُسير؟, وليبقى المتلقي في حالة من الحيرة بين إدانته أو التعاطف معه, لكن الإدلاء بكونهم شياطين حصر عقل المتلقي أكثر في كون يهوذا أو الإنسان بشكل عام مُسير بالطبع, وبالفعل المتلقي محصور منذ البداية في حكاية يعلمها كل العلم من قبل.
ومن هنا يتضح أن للمخرج إتجاه واضح نحو هدف التعاطف مع الشخصية, وإن سبب الوشاية كان التأثير الأكبر عليه من قبل هؤلاء الشياطين, ولكن إذا أراد المخرج ذلك بالفعل فكان عليه أن يؤسس الشخصية بشكل مُتفن عن ذلك, فلا داعي لقصر مدة العرض إلى هذا الحد التي تقل عن الساعة إلا ربع!, فكان بإمكانه أن يؤسس لشخصية من البداية تحمل جوانب الخير والشر معاً, لكن حوار الشخصية قبل إرتكاب الجريمة بأكمله يؤكد على بزوغ الشر بقلب ذلك اليهوذا منذ مولده, فأين أختفت المبررات الدرامية؟ والتي لا تعتبر مساس حينها ولا عبث بالحادثة الدينية إذا كان يريد ألا يعبث مُطلقا, فحسب كان على الأقل توظيف الشخصية الدرامية كبطل يحمل جوانب الخير والشر معاً, كما أن المُمثل الذي لعب شخصية يهوذا لم يكن إنفعاله بالقدر المطلوب لإبراز الصراع النفسي, , فالأداء التمثيلي والإيقاع الرتيب قد يخسف بالصراع أرضاً في معظم الأحيان.
ويعتبر العرض هنا منقسم إلى شقين الشق الأول حال يهوذا قبل الوشاية والثاني حال يهوذا بعد الوشاية, اهتم العرض بالشق الثاني على مستوى الإضاءة التي زادت من ناريتها نظراً للصراع الداخلي, واهتمت باللون الأخضر عند ذكر اسم السيد المسيح لتدلل على نقاءه والجنة إلخ..., وعلى مستوى الدراما الحركية لتبرز الصراع الذي يعصف بالشخصية يميناً ويساراً, لكن في بعض الأحيان كان يتم إقحام الدراما الحركية للتأكيد على الصراع مما كان يضعف من مجهوداتهم الواضحة فيها.
فالاهتمام بالجزء الثاني/ بعد الواقعة, جاء على حساب الجزء الأول وجعله مميت إيقاعياً, على الرغم من أن الجزء الأول كان لابد له أن يكون في نفس قوة الجزء الثاني حتى يكون ممهداً للصراع, فليس من المنطقي أن تُلقى أمامنا شخصية تحمل الشر بالفطرة وتريد من الجمهور رغماً عنه التعاطف معها وهي من البداية توجه عقله على ألا يتعاطف معها مهما حدث!!
كما أن الصراع عنصر من عناصر الدراما والاهتمام ببلورته أكثر من اللازم يؤدي إلى اهمال باقي العناصر الأخرى مما يؤدي إلى ضعف الصراع ذاته بل وضعف بنية العرض ككل, لأنها عملية تكاملية ولا يمكن لعنصر أن يترنح على الخشبة وحده فحسب.
أمتازت ديكورات العرض بالبساطة المُطلقة وكان أهم ما يبرزها هو المستوى الأعلى الذي بمجرد إزاحة الستار عنه فى النهاية نرى فيه يهوذا مصلوباً كما صُلب المسيح, وأنه مُحال أن يُغفر له حتى بعد إبدأ ندمه في أحيان كثيرة.
فالعرض كاد أن يغوص في تفاصيل لم يتطرقها الكثيرون من قبل, ولكنه لم يستغل الفرصة بالشكل الكافي, وأفقد المتلقى متعة مشاهدة اللعبة المسرحية التي بات ينتظرها.


منار خالد