النقد المسرحي السري والمجهول في مصر(35) عروس الجنوب سناء محيدلى

النقد المسرحي السري والمجهول في مصر(35) عروس الجنوب سناء محيدلى

العدد 940 صدر بتاريخ 1سبتمبر2025

عزيزى قارئ جريدة «مسرحنا».. هل تتذكر أغنية المطرب «محمد منير» التى غناها عام 1987 - من تأليف «جمال بخيت» وتلحين «عبد العظيم عوضة» - وتقول كلماتها: «اتحدى لياليك ياهروب، وأتوضى فى صهدك يا جنوب، وأصلى الفرض الحطينى، وأكتبلك عمرى المكتوب.. أحضانك فوق الحنيّة، يا جميلة ومريم وبهية، يتفجر فى الموت بركانك، وإيمانك يتفجر فيّا.. الدم على الأرض خريطة، مشتاقه ليوم الحرية.. أشلائك بتلم جراحى، يرتعش الغدر وترتاحى.. ويعود الحلم المسلوب، وأكتبلك عمرى المكتوب.. يا ضى عيون الشهداء، يا زهرة صيدا وسيناء، الثانية من عمرك تحيينى، أبنى وأتبسم وأشاء، كلمة من سيرتك تهدينى، للأقصى يعود الإسراء”.
هذه الأغنية غناها محمد منير تخليدًا لبطولة فتاة لبنانية عمرها سبعة عشر عامًا، كانت أول استشهادية فى تاريخ المقاومة اللبنانية ضد الكيان الصهيونى! وللأسف الشديد لم تذكر كلمات الأغنية اسم الفتاة، ربما لأن الاسم كان معروفًا وعالقًا فى ذهن الناس وقتذاك، حيث إن الأغنية تمت بعد عامين من واقعة الاستشهاد! ولكن الآن لا أظن أحدًا منّا يتذكر هذه الفتاة أو اسمها أو قصة بطولتها، رغم أنها أوصت الجميع بألا ينسوها ودائمًا يتذكرونها باسم محدد، وهو «عروس الجنوب»! ومن وجهة نظرى من أستطاع أن ينفذ وصيتها كان مصريًا ومن جنوب مصر، وهو الكاتب المسرحى «عادل موسى»! وسأروى لكم القصة من البداية، وأقول:
منذ أربعين سنة - وتحديدًا يوم الأربعاء الموافق 10/4/1985 - نشرت جريدة «النهار» اللبنانية خبرًا بعنوان «إسرائيل اعترفت بالعملية الانتحارية فى باتر» ثم عنوان أكبر يقول «فتاة لبنانية اخترقت قافلة عسكرية وتمكنت من قتل ضابطين وجرح جنديين». وقالت الجريدة فى تفاصيل الخبر: «اعترف الجيش الإسرائيلى فى ساعة متقدمة من ليل أمس بأن فتاة لبنانية، تقود سيارة محملة بالمتفجرات تمكنت من قتل ضابطين إسرائيليين وجرح جنديين فى هجوم انتحارى قرب معبر «باتر الشوف» على مسافة 30 كيلومترًا شمال الحدود الإسرائيلية. وعُلم أن الرقابة الإسرائيلية أخرت إعلان نبأ العملية الانتحارية فى انتظار إبلاغ عائلات الجنود الإسرائيليين. وكانت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية والحزب السورى القومى الاجتماعى وزعا، فى وقت سابق، فى بيروت البيان الآتي: «الساعة الحادية عشرة صباحًا من يوم الثلاثاء 9/4/1985 قامت إحدى مناضلاتنا الرفيقة الشهيدة (سناء محيدلي) بعملية انتحارية، استهدفت تجمعًا لقوات العدو على طريق باتر - جزين، حيث كانت تتجمع أعداد كبيرة من الشاحنات والدبابات والآليات المجنزرة والعديد من المشاة المنسحبين من تلال الباروك ونيحا، وذلك باقتحامها القوة العدوة بسيارة «بيجو 504» مجهزة بـ200 كيلوجرام من مادة «ت.ن.ت» الشديدة الانفجار، وقد أوقعت العملية خسائر كبيرة فى جنود العدو يقدر عددهم بحو خمسين بين قتيل وجريح، إضافة إلى إعطاب عدد من الآليات وإحراقها. إن جبهة المقاومة الوطنية تعاهد عروسة الجنوب الشهيدة سناء محيدلى على أنها ستلاحق العدو بالمزيد من العمليات الفدائية الاستشهادية حتى يتحرر جنوبنا المحتل وشعبه الصامد من رجس الاغتصاب اليهودى، هذا العدو الذى لن ندعه يرتاح حتى تحرير ترابنا القومى كاملًا”. وأورد البيان نبذة عن حياتها، جاء فيه: سناء يوسف محيدلى، ولدت فى عنقون «صيدا» فى 14/8/1968، وانتسبت إلى الحزب السورى القومى الاجتماعى فى 1984، وباشرت عملها فى صفوف جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية مطلع 1985”.
وبعد تنفيذ «سناء محيدلي» عمليتها الاستشهادية صباحًا، تجمع اللبنانيون والعرب والعالم أجمع أمام شاشات القناة السابعة فى التليفزيون اللبنانى، ليشاهدوا وصية الشهيدة التى صورتها وسجلتها قبل استشهادها وهى مرتدية ملابسها العسكرية للمقاومة الوطنية، ومما جاء فى وصيتها - المنشورة حتى الآن فى موقع يوتيوب - قولها: “أحبائى إن الحياة وقفة عز فقط. أنا لم أمت بل حية بينكم أتنقل، أغنى، أرقص، أحقق كل آمالى.. كم أنا سعيدة وفرحة بهذه الشهادة البطلة التى قدمتها.. أرجوكم أقبّل أياديكم فردًا فردًا لا تبكونى.. لا تحزنوا على، بل افرحوا اضحكوا.. أنا الآن مزروعة فى تراب الجنوب أسقيها من دمى وحبى لها.. لا تغضبوا على لأنى خرجت من البيت دون إعلامكم.. أنا لم أذهب لكى أتزوج ولا لكى أعيش مع أى شخص بل ذهبت للشهادة الشريفة الباسلة السعيدة.. وصيتى هى تسميتى «عروس الجنوب».
هذه الوصية نفذها الكاتب المسرحى «عادل موسى» فى نص مسرحى بعنوان «الحادية عشرة فى عنقون» وهو عنوان يحمل وقت العملية الاستشهادية التى تمت فى الساعة الحادية عشرة، ويحمل أيضًا اسم قرية الشهيدة سناء «عنقون»! هذا النص قُدم إلى الرقابة يوم 21/11/1985 - أى بعد سبعة أشهر من العملية الاستشهادية - من أجل التصريح بعرضه فى مسرح الطليعة. وكنت أتوقع أن الرقابة ستضع كل العراقيل من أجل رفض هذا النص الجريء كونه يشجع على العمليات الاستشهادية، لا سيما وأن الحادثة كانت حيّة فى الأذهان وصداها كان كبيرًا! لكن توقعى لم يكن صحيحًا حيث وجدت موافقة جماعية من جميع الرقباء على قبول النص وبدون ملاحظات! لذلك سأنقل ما جاء فى تقارير الرقباء، كونه وثيقة مهمة لموقف الرقابة من هذا العمل الاستشهادى الذى يحدث لأول مرة من قبل فتاة لا يتجاوز عمرها السابعة عشرة! هذا بالإضافة إلى أن كل رقيب كان يكتب تقريره وفقًا لما استوعبه من النص، وأدلى برأيه الشخصى والنقدى بل والسياسى فى هذه العملية الاستشهادية!
كتبت الرقيبة «نجلاء الكاشف» فى تقريرها: «بدلًا من أن تحيا الفتاة الصغيرة - ذات السادسة عشر ربيعًا «سناء يوسف محيدلي» - نفس مشاعر الأطفال فى عمرها، نجدها تحيا مشاعر المعذبين والمشردين من أهل وطنها المحتل فى الجنوب، بل تعيش معاناتهم وبؤسهم فى هذه الحياة، فقريتها «عنقوق» التى شردت منها وسكنها الأعداء الذين أدعوا كذبًا أنها أرضهم التى شهدت نشأتهم الأولى بل وأرض ميعادهم. وكان بالطبع أن تضم تلك الفتاة الصغيرة التى شبعها والدها بأقاصيص البطولة والفداء خاصة عن تلك البطلة «صابرين» للدفاع عن وطنها، فها هى تنضم إلى المقاومة الوطنية لتحرير وطنها بعد أن هالها بشاعة هؤلاء الأعداء المدججين بالسلاح الذين يقومون بهجوم وحشى وبربرى على الأبرياء من أهل وطنها الآمنين فى المخيمات. وبعد أن هالها أيضًا صراخ الإذاعات العربية التى اكتفت بالشجب والاستنكار والإدانة دون أن تتخذ موقفًا إيجابيًا، وكأن هذا الصراخ هو مقياس للتحفيز فى هذا الزمان، ما جعلها تشعر بالتعاسة لخوفها من أن تموت بعيدًا عن أرضها، فها هى تقرر الاستشهاد لتقوم بواجبها نحو وطنها الذى شهدت مأساته ولتخلق لها بذلك مكانًا فى ذاكرة الأحياء مثلما فعلت صابرين تلك الشخصية التى أُعجبت بها سناء وعاشت شخصيتها لتخلص بالمغزى الحقيقى الكامن وراءها. «الرأي»: قصة من قصص البطولة الفلسطينية، بطلتها فتاة فى السادسة عشر ربيعًا، أحبت الوطن فأحبت الاستشهاد فى سبيله من أجل تحريره ونصرته، ولا مانع من الترخيص بأداء هذه المسرحية دون ملاحظات». وقد أشر مدير رقابة المسرحيات على هذا التقرير بتأشيرة، قال فيها: “هذه المسرحية تتغنى ببطولة الكفاح الفلسطينى. وهنا بطلة المسرحية فتاة فى السادسة عشرة ربيعًا، وهبت حياتها من أجل وطنها واستشهدت فى سبيله من أجل رفع لواء تحريره ونصره، ولا مانع من الترخيص».
وكتبت الرقيبة «فادية بغدادي» تقريرًا قالت فيه: «تدور أحداث المسرحية حول سناء محيدلى، وهى فتاة فى السادسة عشر من عمرها، نست جمال عمرها وشبابها وامتلأ سمعها وخيالها بقصص البطولة التى كان يقصها والدها عليها ومنها قصة صابرين الفتاة الجميلة التى قاومت بكل قوتها ودافعت عن شرفها.. كما سمعت من والدها الكثير عن بشاعات المستعمر ورأت بعينها ما ترتجف له القلوب وتقشعر له الأبدان ويشيب له الولدان.. وقد روى الوالد لابنته سناء ما رآه يوم أن زار صديقًا له يسكن المخيمات؛ حيث فجأة أحيط المكان بأرتال المجنزرات وحاملات تكتظ بجنود مدججين بالسلاح وبدأ الهجوم الوحشى يطيح بالآمنين.. عند ذلك قذف الوالد بنفسه فى بالوعة حتى لا تهدمه مجنزرة بين تروسها اللعينة.. ومن البالوعة يرى بشاعات المستعمر وكيف مزق أحدهم ملابس سيدة واعتدى عليها أمام زوجها.. وكيف فقأ آخر عينى رجل عجوز.. وكيف دهم أحدهم جسد طفل صغير.. وهكذا سمعت سناء الكثير ورأت الكثير.. رأت بعينها كيف يتصرف المستعمر مع أبناء الوطن.. كيف يهانوا ويعذبوا.. كيف يتصاعد من الحرائق رائحة شواء البشر.. وفى الحادى عشر من عنقون تقوم سناء محيدلى بعملية فدائية وتستشهد فتاة الجنوب الثائر المقاوم فى سبيل وطنها الغالى. «الرأي»: تدور المسرحية حول قصة الشهيدة سناء محيدلى التى استشهدت فى سبيل الوطن الذى احتله العدو الغاشم الذى يدعى أنه عاد إلى الأرض.. أرض الميعاد.. وباسم تلك الدعوة ارتكبت ويرتكب كثير من الجرائم والبشاعات فهو يدمر ويحرق ويعذب ويشوه كل ما هو جميل.. لا مانع من التصريح بتأدية هذه المسرحية”.
وكتبت الرقيبة «ماجدة الشيخ» التقرير الثالث، قائلة فيه: «ظل يوسف محيدلى يلاحق ابنته سناء ذات السادسة ربيعًا بقصص عن صابرين ضحية الأوغاد المحتلين وعن البطولات والفداء والشجاعة كما لو كانت دروسًا مدرسية فبدأت تتساءل عن المعانى الخفية التى تكمن وراء أحداثها وعلى ما يدور حولها وعلى مغزى ما وراء كلام أبيها.. وقد عرفت سر اهتمام أبيها بهذا، وهو محافظتها على نفسها والدفاع عن وطنها الحبيب؛ لأنها وسط ذئاب بشرية وغيلان لا ترحم ويحكى لها أقاصيص رآها بعينه بمخيمات الفلسطينيين من مجازر بشرية مما يعجز الخيال عن وصفه فى سفك دماء الأطفال والنساء والشيوخ الآمنين.. فتطلب الابنة الرجوع إلى بلدتها عنقون وتصر فى طلبها.. بعد ذلك تنضم للمقاومة الوطنية هناك لتثأر لبلدها من الأوغاد المحتلين من أجل التحرير وتدعو كل فتيات وشباب بلدها للانضمام إلى المقاومة الوطنية؛ لأنها وحدها التى تستطيع أن تطرد المحتلين. «الرأي»: تحكى قصة كفاح الشهيدة سناء محيدلى من قرية عنقوق فى الجنوب المحتل المقهور المقاوم الثائر وتوضح لنا مدى تضحيتهم والفداء والشجاعة من أجل تحرير الأرض.. لا مانع من ترخيص المسرحية.. وليس بها موانع رقابية».
وأخيرًا كتب مدير الرقابة تقريرًا نهائيًا بناءً على التقارير السابقة، اختتمه بقوله: “أرى أن النص عمل وطنى يمجد البطولة والفداء فى سبيل الوطن ويصر على الأمل فى استمرار الكفاح من أجل القضية العربية الكبرى وهى القضية الفلسطينية، وأرى اعتماد ترخيص النص لمسرح الطليعة».
وعلى الرغم من كل هذه التقارير الرقابية التى وافقت على عرض النص بمسرح الطليعة وبالإجماع، فإننى لم أقرأ أو أسمع بأن مسرح الطليعة عرض هذا النص حتى الآن، أى بعد مرور أربعين سنة! فلم أجد بُدًا من اللجوء إلى المؤلف «عادل موسى» ليجيب على سؤالي: هل تم عرض المسرحية أم لا؟ فأرسل لى رده يوم 19/7/2025، قائلًا الآتي:
“أخى الفاضل دكتور سيد.. تحية عاطرة لشخصكم الجميل وشكرًا جزيلًا لجهدكم الرائع.. والعمل لم ينفذ - مثله مثل أعمال كثيرة - بسبب التربيطات والمجاملات، وكانت الأولوية للقاهريين والمعارف.. وهذا حدث معى فى المسرح الحديث أيضًا وكان مديره الأستاذ «ف.خ» الذى رفض قيام الأستاذ «م.ف» إخراج نص لى بعنوان «ألو يا سكر» الذى وافق عليه خمسة من لجان القراءة بتقارير جيدة، ولم ينفذ النص أيضًا.. أما عن سبب كتابتى لنص «سناء محيدلي» فكان لجملة قالتها وهى تترك رسالة بزيها العسكرى: «أنا الشهيدة سناء يوسف محيدلى أرجو أن تفرحوا يوم مماتى كما لو كان يوم زفافى».. لقد حكمت على نفسها بالموت والشهادة وهى ملكة جمال جنوب لبنان وابنة السبعة عشر ربيعًا.. لا أنكر أننى انحنيت إكبارًا لهذه البطلة التى فجرت نفسها وقتلت مئات الجنود الأمريكيين ودفعتهم لمغادرة لبنان.. وبهذه المناسبة هل تشاركنى الرأى سيادتكم فى أن هذا العمل وهذه الملحمة وقتها المناسب اليوم فى ظل الأحداث المتلاحقة.. العدوان الوحشى على غزة! خالص تحياتى وشكرى وامتناني». ثم راجعته مرة أخرى فى شهادته وسألته: هل فعلًا من ماتوا كانوا من الجنود الأمريكيين، أم من الإسرائيليين؟ فأجاب: «كانوا أمريكيين فى جنوب لبنان وانسحبوا بعد هذه العملية الجريئة»!
السؤال الذى أطرحه على المسئولين وعلى الباحثين الآن: إذا كان مسرح الطليعة لم يعرض هذه المسرحية فى حينها منذ أربعين سنة! أليس من المناسب أن يعرضها الآن تخليدًا لهذه الشابة البطلة الاستشهادية، لتكون نبراسًا لاستمرار الجهاد والمقاومة فى ظل الإبادة الجماعية التى تحدث لأهل غزة على يد العدو الصهيوني؟! ومهما كان الأمر فالشكر كل الشكر للكاتب «عادل موسى» الذى كتب هذه المسرحية وسجل فيها بطولة سناء محيدلى، ونفذ وصيتها بالحرف الواحد عندما قالت “وصيتى هى تسميتى «عروس الجنوب»”، فقام عادل موسى بتغيير اسم المسرحية من «الحادى عشر فى عنقوق» إلى «عروس الجنوب» عندما نشرها فى سلسلة «المسرح العربى» بهيئة الكتاب عام 1987.


سيد علي إسماعيل