حُكم قراقوش !!

حُكم قراقوش !!

العدد 878 صدر بتاريخ 24يونيو2024

تعرض الريحاني لوعكة صحية طارئة استغرقت بضعة أيام، وعندما استرد صحته قام برحلة مع فرقته إلى دمنهور وطنطا، وعرض فيهما مسرحية «الدنيا جرى فيها إيه؟» ونشرت مجلة «آخر ساعة» في منتصف فبراير 1935، إعلاناً بذلك قالت فيه: «على مسرح البلدية في مساء 25 فبراير بدمنهور. وطنطا في مساء 26 فبراير. شيء جديد، استعراض عظيم هائل، الأستاذ نجيب الريحاني في دور كشكش بيه، في رواية «الدنيا جرى فيها إيه؟»، 40 ممثلة وراقصة على المسرح، 12 منظر من أبدع المناظر، 18 قطعة غنائية تلحين النابغة زكريا أحمد. يشترك في تمثيل الرواية جميع أفراد الفرقة وفي مقدمتهم الآنسة الرشيقة فتحية شريف. رقص، طرب، موسيقى. تطلب التذاكر في دمنهور من متعهدي الحفلة منصور أفندي عبد الوهاب، ويومياً من شباك تياترو البلدية. وفي طنطا من محل قميص هاي لايف بشارع الشيخة صباح، ومن عائلات السيد علي الفقي التاجر بميدان الصاغة».
وظلت الفرقة تظهر وتختفي وتعرض المسرحية نفسها أو تعرض مسرحياتها القديمة طوال هذا الموسم دون أي جديد يُذكر سوى عرضها في حفلة الجمعية الخيرية، والتي أعلنت عنه جريدة «المقطم» في منتصف أبريل 1935، قائلة: «تحيى جمعية المساعي الخيرية المارونية ليلتها السنوية الكبرى اليوم بالأوبرا برعاية الملك، وتطرب الحضور أم كلثوم، وعزف سامي الشوا، مع تخت العقاد. ويمثل نجيب الريحاني فصلين من روايته «الدنيا جرى فيها إيه؟»».
في هذه الفترة كان المسرح المصري يمر بأزمة شديدة التعقيد، نتجت من الأزمة المالية العالمية، حيث توقفت أغلب الفرق المسرحية أو تفككت، وتحولت دور المسارح إلى دور سينما، وهذا أدى إلى تجميع أعضاء الفرق المسرحية المصرية في فرقة واحدة، هي «اتحاد الممثلين»، التي كانت النواة الأولى للفرقة القومية!! كان الريحاني مغموساً في هذه الأحداث، لدرجة أنه كان سينضم إلى الفرقة القومية، ولكن أسباباً منعته. والغريب أنه نجح في استئجار «مسرح رمسيس» - منافسه يوماً ما – وأطلق عليه اسم «مسرح ريتس»!! وبدأ موسمه – مع بداية ظهور الفرقة القومية تقريباً – مما يعني أنه في اختبار صعب!! ورغم صعوبته إلا أنه نجح نجاحاً لم يحققه من قبل!! فقد افتتح الموسم بمسرحية «حُكم قراقوش» التي لاقت استحسان النقاد بصورة غير مسبوقة، ولم أجد نقداً مكتوباً عن أحد عروض الريحاني السابقة، مثلما وجدته عن هذا العرض كماً وكيفاً!! وهذه المسرحية كتبها الريحاني وبديع، من تلحين زكريا أحمد، ومثلها كل من: ميمي شكيب، زوزو شكيب، فتحية شريف، زوزو دلماس النجمة اليونانية.
أول نقد لهذه المسرحية نشرته جريدة «البلاغ» في أواخر نوفمبر 1935، تحت عنوان «رواية حكم قره قوش على مسرح ريتس (رمسيس)»، جاء فيه الآتي: بدأ الأستاذ نجيب الريحاني موسمه التمثيلي في يوم الجمعة الماضي برواية «حكم قره قوش» التي ألفها هو والأستاذ بديع خيري. وحوادث الرواية تدور في أيام حكم هذا «القره قوش» فإذا فتحت الستار رأينا قهوة بلدية بخان مرجوش بالقاهرة حيث اعتاد فريق من السوقة والرعاع أن يجتمعوا بعيداً عن أنظار الناس يدبرون السرقات وجرائم النشل والاعتداء على الأهالي. وظلت هذه الجماعة تهدد القاهرة حتى عرف خبرها رجال البوليس فشددوا عليها الحصار من أجل التسليم، حتى علم السلطان قره قوش حاكم البلاد في هذا الزمان فاصطحب وزيره کرکوند وارتديا ثياب التنكر وخرجا يستطلعان أحوال هذه القهوة. وحدث حين وصولهما إلى هذه القهوة أن شاهدا شخصاً يدعى «بندق أبو غزالة»، وهو رجل طيب القلب يشتغل محصلاً لأملاك التركي الثري «شاكوش أغا» الذي تقع هذه القهوة في ممتلكاته. في هذه القهوة استطاع السلطان ووزيره أن يريا الشيء الكثير من غرائب الإجرام مما دهشا له أشد الدهشة وقد حانت فرصة نادرة جرى فيها الحديث بين بندق وبين السلطان قره قوش فهم منها أن بندق غير راض عن قره قوش وأساليبه في نظام الحكم وأنه يتمنى لو حكم بدله سبعة أيام فقط! وكم كانت دهشة السلطان عظيمة لهذا الحديث الممزوج بشيء من الفكاهة، وبينما كان السلطان يضحك من هذه المحاورات بينه وبين بندق إذا بالأميرة شمس بنت السلطان تدخل القهوة متنكرة، طالبة لقاء «بندق أبو غزالة» الذي شاهدها صدفة أثناء زيارته لأحد الأضرحة وفتنه جمالها  إلى درجة الجنون وأرسل باسمها  إلى قصر السلطان مواويل غزلية تنم عن فرط هيامه بها. وكانت الأميرة شمس على جانب كبير من الجمال والاعتداد بحسبها ونسبها ولا يعكر مزاجها سوى «مراد أغا» باشي سنجق قصر السلطان وهو رجل قوى المراس وكل أمانيه الزواج يوماً ما بالأميرة شمس، وذلك طمعاً في مالها الموروث من الأمير سعود أبيها، ولكن الأميرة شمس كانت تكره مراد أغا. وأخيراً علمت أن مراد أغا حين رأى ألا فائدة من زواجه بها استأجر عصابة من الأشرار لخطفها، لذلك هرعت إلى القهوة تستنجد ببندق أبو غزالة الذي أقسم أنه لا يتوانى عن التضحية من أجلها مهما قاده ذلك إلى الهلاك. وسنحت الفرصة عندما جاء مراد أغا مصطحباً، الأشرار إلى القهوة حيث التقى ببندق غزالة وجها لوجه وشرع هذا يفتك به وكادت تشتد الموقعة لولا تداخل السلطان الذي كشف عن نفسه وأمر أن ينتقل بندق إلى القصر وأن يصبح نائباً للسلطان وأن يصبح اسمه «قره زاده أردنلي أوغلي»، وظل بندق يتولى الحكم مدة أسبوع كامل وقال السلطان له بعد ذلك إنه سيحكم عليه بالإعدام جزاء تهكمه على حكمه في القهوة، وعقاباً له على محاولته الاعتداء على مراد أغا إلا إذا تمكن بندق أن يكسب قلب الحسناء «شمس»، وأن يجعلها ترضى بالزواج منه. وكان السلطان يعتقد أن هذا الطلب بعيد المنال، وظل بندق يجاهد في سبيل الفوز بالأميرة  إلى أن رضيت به زوجاً لها.
ويستمر ناقد الجريدة في حديثه، فيقول: هذا ملخص رواية «حكم قره قوش» وهي رواية قوية وإن كان يدخلها حشو كثير لا غنى عنه في روايات نجيب. وقد ظهر التباين بقوة بين الفصول! فالفصل الثاني لا يتناسب في قوته مع الفصل الأول، وقد ظهر فيه الافتعال واضحاً، وذلك راجع لاضطراب الإدارة وتخبطها في إخراج الرواية بعد الكسل الطويل. وقد احتفظ نجيب كعادته بالدور الأول وهو دور «بندق أبو غزالة» ويلاحظ أن أدوار جميع الممثلين كانت ثانوية بجانبه، ولم يستطع استغلال مواهب الآنستين أمينة شكيب – وهي الفنانة ميمي شكيب - التي مثلت دور شمس، و زوزو شكيب. وقد كان الجمهور يرجو أن تظهرا في الروايتين مقدرة توازي ما ظهر منهما في جمعية أنصار التمثيل والسينما وعلى مسرح الأوبرا الملكية، ولكن الذنب في كل هذا يعود إلى واضعي الرواية ومع ذلك فقد أجادت كل منهما الدور البسيط الذي عهد به إليها، واستحقتا التصفيق والإعجاب وكذلك الممثلة «فتحية شريف» رغم أن دورها ثانوي كذلك. والممثل الوحيد في هذه الرواية بعد نجيب والذي يجب ذكره في هذا المقال هو الأستاذ «عبد اللطيف جمجوم» الذى مثل دور «قره قوش» حيث كان أبرز شخصية في الرواية. وقد أجاد كل من «محمد كمال المصري والفريد حداد وعبد اللطيف المصري» في التمثيل.
أما المندوب الفني لجريدة «كوكب الشرق» فكتب مقالة نقدية كبيرة عن العرض، تحت عنوان «حكم قراقوش .. فرقة الأستاذ الريحاني على مسرح رمسيس»، ولكننا للأسف اكتشفنا أن المقالة بأكملها عن الفرقة وممثليها، دون التطرق إلى العرض المسرحي!! وبدأها بمقدمة قال فيها: كان من حسن حظ الجمهور المصري أن الاتفاق لم يتم بين الفرقة الحكومية وبين الأستاذ نجيب الريحاني. وليست الفرقة الحكومية بقيودها وشروطها ولا ببرنامجها الذي أعدته لعملها، هي المجال الذي يستطيع نجيب أن يبرز فيه كفاءته ومقدرته، والأولى أن تقول تفانينه ومبتكراته التي عُرف بها وعُرفت به، خلال عشرين سنة استطاع نجيب بها أن يكون أبرز شخصية على المسرح المصري، وأن تكون فرقته هي الفرقة البارزة بين عشرات الفرق التي تتألف و تنتقص وتتجمع وتتفرق والريحاني هو هو، وفرقته هي هي ثابتة، تسير من فوز  إلى فوز، وتتقدم من نجاح  إلى نجاح، رغم قلة ما يلقاه نجيب من مساعدة حكومية، ونجيب لم يكن في وقت من الأوقات بحاجة إلى هذه الجنيهات القليلة، ولولا أنه يعتمد على فنه وعلى مكانته عند الجمهور لما استطاع أن يثبت على قدميه طوال هذه السنوات.
ثم بدأ الناقد حديثه حول مدح نص «حكم قراقوش» وبراعة بديع خيري في تأليفه، قائلاً: بدأ الأستاذ الريحاني موسمه الحالي منذ أيام على مسرح رمسيس المعروف برواية جديدة سماها «حكم قراقوش» من تأليفه وتأليف الأستاذ بديع خيري الكاتب المعروف والزجال البارع والأديب الذي يغني اسمه عن كل تعريف، أخصائي، أو اختصاصي إذا شئت في هذا النوع من الروايات، وقد كتب اليوم ما قد يزيد من مائة قصة، ولعل رواياته الأخيرة تفوق رواياته الأولى، والتجربة والمران ومداومة العمل وطول الممارسة، كل هذه عوامل لها أثرها ولا شك في صقل الجوهر وفي إعطائه جدة ولمعة على مر الأيام. فلست في حاجة إلى الحديث عن بديع، وهذه آثاره تدل عليه. والرواية الجديدة «حكم قراقوش» هي من أحسن ما وضع الأستاذ بديع خيري الذي يعد بحق المؤلف المصري الذي له وحده الحق كل الحق، في حمل هذا اللقب! وبعد، فهل أنا في حاجة إلى الحديث عن الرواية التي نحن بصددها؟! يكفي أن نقول إنها من قلم بديع وليعرف القارئ لأول وهلة أي قطعة من الفكاهة الخالصة هي، وأي براعة تتجلى خلال فصولها ومشاهدها، وأي ليلة يقضيها المرء في مشاهدتها لا يكاد يمسك نفسه لحظة واحدة عن الضحك والسرور والقهقهة العالية، مما يرى من المواقف الكوميدية البارعة وعما يسمع من النكت والمداعبات الطريفة، إلى آخر هذا السيل الجارف الذي لا يكاد ينتهي من المواقف البديعة التي أجيد حبكها وعرضها.
ثم انتقل الناقد في حديثه إلى الريحاني، قائلاً: هو كش كش بك إذا كنت لا تعرفه!! هو بطل القصة وهو مركز الدائرة فيها في دور بندق أبو غزالة. ونجيب ممثل بالفطرة، لا يكاد يتكلف مواقفه المسرحية، وتحس وأنت تشاهده على المسرح أنه ليس ممثلاً يمثل، وليس هو نجيب الريحاني في دوره «بندق»، أو في أي دور آخر من الأدوار التي مثلها، بل تكاد توقن أنه «بندق» نفسه أو فلان أو علان من عشرات الشخصيات التي مثلها نجيب وبرع فيها. أريد أن أقول إن نجيب على المسرح ليس ممثلاً يمثل، بل أنه يندمج في الشخصية التي يخرجها حتى يتلاشى من أمامك نجيب ولا يبقى إلا هذا الشخص الذي تراه يذهب ويجيء ويعرض عليك من ألوان الحياة، الصور الفاتنة كل الفتنة، البارعة كل البراعة، الصادقة كل الصدق. نجيب ممثل بالفطرة يمتاز بأنك تحس في تمثيله الصدق، وتسمع في نبرته الصدق، وترى في شخصيته الصدق، ولا تشعر حياله بزيف الفن وكذب المسرح وتمويه الخدع، ولا يستطيع هذا إلا فنان، وفنان قادر فاجر، ونجيب فنان وفنان قادر وفاجر وأنه ينتزع إعجابك انتزاعاً، ويرغمك على التصفيق له إرغاماً، ويجبرك على حبه وتقديره إجباراً! والملاحظ أنه انتقل من نوعه القديم الذي مارسه على مسرح الإجيبسيانة أيام «ولو، وقولو له» ... إلخ، إلى نوع جديد خلع فيه شخصية كش كش بك ودخل في شخصيات أخرى، وترك «الريفيو القديم» إلى هذا النوع الجديد، وكانت خطوة إلى الأمام نجح فيها نجاحاً لا بأس به. ثم بدأ عهداً ثالثاً بروايته «الجنيه المصري» التي أخرجها على مسرح الكورسال منذ قريب، ونجح نجيب في دور المدرس نجاحاً لعله أكبر نجاح فني لقيه في حياته كلها، ونجحت الرواية كقطعة فنية نجاحاً رائعاً، ولكنها كانت خطوة واسعة سبق بها نجيب جمهوره وتقدمه إلى الأمام، فلم يستطع جمهوره أن يلحق به! ولو أن نجيب في هذه الخطوة الفنية الواسعة التي خطاها بكل شجاعة وثبات .. لو أنه لقى مساعدة كبيرة من الحكومة لا تقل عن ألف أو ألفين من الجنيهات، لاستطاع أن يمضي إلى غايته، وإلى أن يرفع مستوى ما يفرضه عليه من الروايات، ولكسب المسرح الكوميدي في مصر كسباً هائلاً. وها هو نجيب اليوم، في روايته الجديدة «حكم قراقوش» يقدم لنا شيئاً جديداً، ومع ذلك فهو قريب إلى أذهان الشعب! ولعل الأستاذ نجيب الريحاني لم يتقدم إلى الجمهور في يوم من الأيام بفرقة قوية كهذه الفرقة التي تقدم بها اليوم، ولعله يتحدى بذلك الفرقة الحكومية! ففرقة نجيب تضم أولاً الأستاذ نجيب الريحاني، وهذا وحده فرقة كاملة!! ثم عبد الطيف جمجوم وله أدواره المعروفة وكفاءته التي يقدرها الجميع. ومحمد كمال المصري شاويش القرن العشرين! والفريد حداد الذي عُرف بشخصياته الأجنبية التي يبرع في تمثيلها كل البراعة، ويقلد تقليداً يكاد يكون معجزة. وعبد اللطيف المصري «زعرب» رفيق كشكش بك وتابعه الأمين؟ والقلعاوي الذي يعد من أكفأ ممثلي فرقة الريحاني، وله في رواياتها أدوار مشهورة أثبت فيها مقدرة وكفاءة جديرتين بالتنويه والإعجاب، ومحمد مصطفى «فالنتينو الصغير» كما اصطلح بعض الزملاء على تسميته. ثم «سيد سليمان»، المنولوجست الأسود خفيف الروح، حلو الفكاهة، والمحبوب من الجمهور. ومن المثلات أذكر الآنسة «فتحيه شريف» أظرف وأخف ممثلة ظهرت، ولا تتكلف في مواقفها المسرحية، بل تندمج فيها بسهولة وإعجاب، والجمهور كفيل بالباقي.  ومن مميزات فتحية أيضاً أن لها هذه الموهبة الطبيعية التي تقرب الممثل من قلب الجمهور وتدفع المشاهد إلى التصفيق والهتاف للممثل رغم أنفه، ولا تكاد فتحية تقول كلمة أو تأتى بإشارة حتى ترى علامات الرضى والسرور على الوجوه وعلى الشفاه دليل الإعجاب والتقدير. والواقع أن الآنسة فتحية استطاعت برشاقتها وخفة دمها أن تحتل المنزلة الأولى في قلوب المتفرجين والمشاهدين. وعندنا بعد ذلك الشقيقتان أمينة وزينب شكيب، وهما عنصران طيبان.


سيد علي إسماعيل