زكي طليمات وبصماته الأخيرة في تونس

زكي طليمات وبصماته الأخيرة في تونس

العدد 756 صدر بتاريخ 21فبراير2022

عادت «فرقة النيل الاستعراضية» إلى مصر، وبدأ طليمات موسم تمثيله مع «الفرقة القومية التونسية» في ديسمبر 1955 بعرض مسرحية «صقر قريش»، فكتب طليمات رسالة بخصوص عرضها، نشرتها جريدة «القاهرة» تحت عنوان «سفيرنا الفني في تونس»، قال فيها: بدأت «الفرقة القومية التونسية» موسمها في ديسمبر الماضي بمسرحية «صقر قريش» التي كتبها سيد كتاب المسرحية التاريخية العربية «محمود تيمور» كتبها تحية لتونس في عهدها الجديد وهدية خالصة للفرقة التونسية. وأقبل الجمهور التونسي على حفلاتها إقبالاً منقطع النظير، ومرجع هذا أن المسرحية خاطبت الجمهور فيما يشغله في هذه الآونة، التي تكابد فيها تونس نضالاً سياسياً بين الأحزاب، وتفتقر إلى توحيد الصفوف وجمع الكلمة بعد أن انشق الزعيم «صالح بن يوسف» على الحزب الحر الدستوري وعلى رأسه الزعيم «الحبيب بورقيبة». وهذه مرحلة لا بد من اجتيازها ولها ما وراءها. ومسرحية «صقر قريش» تقدم «عبد الرحمن الداخل» وهو يناضل في الأندلس لتوحيد الكلمة بين أمرائها الإقطاعيين وإعلاء حق البلاد على المصالح الشخصية. ومن هنا قامت المماثلة بين الماضي وبين الحاضر وأكثر ما يعيد الماضي نفسه! ونجاح الفرقة التونسية في هذه المسرحية، اعتبرته الصحف فتحاً جديداً للمسرح العربي في تونس، هذا النجاح العظيم يتضاءل إلى جانبه نجاحي الشخصي كمخرج للرواية وكممثل لدور عبد الرحمن. إنني ما جئت تونس من أجل أكاليل غار أتوج بها رأسي مخرجاً وممثلاً، وإنما جئت من أجل أن أشق بمسرحه العربي الناشئ أفقاً جديداً نحو الفن السليم الراقي، الذي يرتكز على العلم والموهبة، وليس على الموهبة فحسب، جئت من أجل أن أضع حداً بين الارتجال والتنظيم، جئت سعياً وراء إرساء الأساس السليم لفن مسرحي سليم يتعالى عن التهريج والشعوذة.

المقارنة الفنية
في مارس 1956 نشرت مجلة «الفن» موضوعاً عنوانه «الممثل التونسي والممثل المصري في الميزان للفنان الكبير زكي طليمات»!! والمقالة كبيرة جداً وبها تفصيلات كثيرة، لذلك سأجتزئ منها ما يتعلق بعنوانها وهو المقارنة! يقول طليمات:
الممثل التونسي أكثر حرصاً من زميله المصري، على مراعاة قواعد اللغة العربية في النطق، فليس معنى هذا أن الممثل التونسي، أكثر علماً باللغة العربية وأوسع ثقافة من الممثل المصري، إنما أقصد أن الممثل التونسي في حرصه هذا، إنما يخضع للتيار الاجتماعي القائم في تونس اليوم، وهو تيار يهدف إلى إحياء العربية الفصحى، ونشرها بين الطبقات. والممثل التونسي أكثر استجابة إلى نصائح مخرج المسرحية، وأوضح طاعة في تنفيذها بعد اقتناعه بسلامتها، فمرجع هذا يعود إلى هذه الموجة الكبيرة من الحماسة القومية التي تشمل جميع طبقات الشعب التونسي وهو يعمل على انتزاع استقلاله التام، بتوجيه زعمائه الوطنيين وإرشاداتهم. ومن المعلوم أن مخرج المسرحية هو «الزعيم والقائد الأول» في ميدان المسرح. ومن ناحية أخرى، فإن الممثل التونسي أصبح يؤمن بأن فن الإخراج الدقيق القائم على العلم والتثبيت والمراجعة هو الوسيلة إلى نجاح المسرحية وإلى أن يجيد الممثل دوره أحسن إجادة. إن الممثل التونسي اليوم أصبح لا يؤمن بفن الإخراج القائم على الارتجال وإرشادات. وإذا قلت إن الممثل التونسي يعمل بإخلاص على اتقان عمله، فلأن هذا إنما هو من أصداء ما يشمل البلاد التونسية اليوم من نزعة قوية إلى إثبات كفايتها في تصريف شئونها الداخلية، وإثبات الكفاية لا يتأتى إلا عن طريق الاتقان والإخلاص في العمل. وهناك سبب إضافي، وهو أن ممثلي الفرقة البلدية خاصة، يريدون أن يثبتوا كفاياتهم الفنية، وأنهم جديرون بأن تكون لهم فرقة حكومية أو شبه حكومية تتعهدها الدولة بالإعانة الكبيرة والرعاية. والممثل التونسي في الفرقة البلدية أقلّ نزعة إلى «الفردية» من زميله المصري، وأكثر «اندماجاً» في المجموعة. فهو فوق المسرح يخضع للإيقاع والأسلوب اللذين يرسمهما المخرج لسير المسرحية، وقلما «ينشز» أو يخرج عن هذا الإيقاع من أجل أن ينتزع انتباه الجمهور وتصفيقه على حساب زملائه. وإذا انتقلنا إلى الممثل المصري، طالعتنا صفات أخرى يختص بها، أو هي تتجلى فيه أكثر مما تتجلى في الممثل التونسي. فالممثل المصري أثبت قدماً على المسرح، وأوضح صناعة في فن الممثل، كما أن وثباته «أحياناً» نحو الإجادة واسعة المدى بالغة الأثر. وأسباب هذا معلومة على ما أظن فالمسرح المصري قد تكامل كيانه قبل المسرح التونسي، لا من ناحية احتراف التمثيل والتخصص فيه فحسب، ولكن أيضاً من ناحية قيام ثقافة تمثيلية واسعة فيه، وذلك بتأثير إنشاء دراسات واسعة. فقد تطور فن الممثل وفن إخراج المسرحية على أيدي نفر درسوا فنون التمثيل وتمرسوا فيها في معاهد أوروبا، سواء ممن سافروا إلى هناك على حسابهم الخاص، أو ممن أوفدتهم الحكومة المصرية في بعثات رسمية على حسابها، هذه الموجات المتتابعة التي جاءت على أيدي هؤلاء الأشخاص دعمت للمسرح المصري تقاليده وتعاليمه. وهذا بخلاف ما هو قائم في تونس، فإن الأمر في هذا يقتصر على شخص واحد هو الأستاذ محمد العقربي الذي درس فن التمثيل في فرنسا، وعمل بإذاعة باريس، ويشغل الآن وظيفة المدير الفني للفرقة البلدية. وإذا قلت إن الممثل المصري، يكون أحياناً، أوسع مدى من الممثل التونسي في الإجادة البالغة فمرجع هذا أن الممثل المصري المجيد، لا يعمل بمواهبه النظرية فحسب، بل هو يعمل أيضاً بما تعلمه من أصول وقواعد «فن الإلقاء» أولاً، ثم في «فن الممثل». والممثل التونسي خصب المواهب، ولكن يعوزه التعلم واستبطان صناعة فني الإلقاء والتمثيل، وأعتقد أن هذا سيتيسر على أحسن وجه، إذا قامت بتونس دراسات واسعة في فنون التمثيل، يتولاها أخصائيون عركوا حياة المسرح عملياً بعد أن تعمقوا ثقافة، ثم أقاموا البرهان على هذا، عملياً وليس كلاماً ومناقشة بيزنطية!! والعنصر النسائي هو موضع الضعف في المسرح التونسي، بخلاف الحال في المسرح المصري، والسبب في هذا أن التقاليد في تونس، مازالت تضع الموانع والحواجز في وجه المرأة المتعلمة تعليماً واسعاً، أو المثقفة تثقيفاً متوسطاً. والممثلات العاملات في تونس عددهن قليل إذا قيس بعدد الممثلين، وبعضهن على استعداد خصب، ولا شك في أن المسرح التونسي يترقب بفارغ الصبر الشابات الجريئات اللاتي يتخطين هذه الموانع، ويقذفن بالحجارة وجوه الرجعيين.

العودة من تونس
بهذه المقارنة - التي تُعدّ الدرس الأخير – ترك زكي طليمات تونس وعاد إلى مصر نهائياً، وكتب رسالة لمن استقبلوه بالتقريع واللوم، نشرتها جريدة «القاهرة» في مارس 1956 تحت عنوان «أنا عائد من تونس»، قال فيها: لمن تفضلوا بتهنئتي بسلامة العودة شكر العاجز. ولمن استقبلوني باللوم والتقريع قول آخر! لقد اتهموني في وطنيتي بدعوى أنني تركت المسرح المصري بما أنشأته فيه، وهربت إلى تونس، لتأسيس مسرحها العربي الناشئ وأدعمه! ومصر هي الأم، وتونس هي الشقيقة، وفي مصر أزمة تطحن المسرح طحناً شديداً، وخدمة الأم تأتي في المقام الأول!! وفي الحق، لا أملك لدفع هذا الاتهام، إلا أن أقذف بما تفور به نفسي وتغلي، وهو شديد وخطر مثل المفرقعات. وأعتقد أن الزمن لم يأذن بعد بإطلاق المفرقعات، ولهذا أكتفي بالهمس الرقيق وبالقول اللين. هل أقول إنني ما تركت مصر ومسرحها إلا اضطراراً وبعد أن أشفقت على نفسي من أن أزحف على بطني ملصقاً كرامة الفنان وكبرياءه بالتراب؟ هل أضرب على صدري وأشكو الزمن بأنني لقيت من العقوق ألواناً، ومن نكران الجميل شكولاً. وإنني شويت على النار بأيدي من أهديتهم النور!! أأرفع الصوت عالياً بأنني إذا لم أعمل لكسب عيشي، فليس أمامي إلا الجوع، لأنني لم أدخر مالاً ولم أرث عن أبي غير غريزة النضال والجهاد؟ أأجاهر، وأمري إلى الله بأنني لم أتعلم بعد الحرص الذي يذل أعناق الرجال ويسلم أقفيتهم إلى الصفع في سبيل الاحتفاظ بمنصب كبير، ومن أجل تكديس المال؟! أقول هذا كله والحياء يسلم وجهي إلى حمرة الخجل، وإن كان ليس هناك حياء ولا خجل، والفقر سيد الأخلاق إذا لم يصل إلى النفس. ثم أقول بعد هذا، وأقوله معتزاً وراضياً، أقول إنني لم أعق مصر أمي، ولم أتنكر لمسرحها، لأنني في تونس رفعت اسماً لمصر. وفي تونس أعليت راية للمسرح المصري. إن الفن المصري في إخراج المسرحية وفي أداء الممثلين، يدفع الآن المسرح التونسي الجديد. والفن المصري في كتابة المسرحية وفي اقتباسها وفي ترجمتها يغزو الفن التونسي ويفرض طابعه. بل لعلي أخطأت في التعبير من غير وعي بدافع من الروح الحاد الذي يسودنا اليوم ويزيد في كياننا صلابة ورجولة. أجل لقد أخطأت التعبير، فليس هناك غزو ولا فرض ولا دفع، وإنما هو سفارة روحية، ونقل، وتبيين، لأن تونس من مصر، ومصر من تونس، لأن الأم التي تجمعنا واحدة، هي العروبة الماجدة، ثم هي الفكرة العاملة التي تسوق جميع شعوب أقطار الشرق العربي نحو تحقيق غرض واحد، أمره معلوم. وتونس اليوم حركة وعمل. إنها تحس وجودها وتعمل على تدارك ما فاتها، وهي تسير قدما ًفي جميع نواحي حياتها الاجتماعية نحو مرحلة جديدة. والمسرح ركن من أركان الحياة الاجتماعية في كل شعب، ويشرفني كعربي وكمصري أن أسهم في تدعيم هذا الركن، بعد أن أعليت له بناء في مصر، إذن فلا لوم ولا تقريع!!».

المشروع الأخير
ترك زكي طليمات تونس، ولكنه لم يقطع علاقته بها! فقد اتفق مع المسئولين في تونس أن يستقدم الفرقة التونسية التي كونها ودرّبها لتعرض مجموعة من المسرحيات على دار الأوبرا المصرية، على أن تبدأ عروضها بمسرحية «صقر قريش»، ثم مسرحية أخرى يكتبها أديب تونسي. ونشرت جريدة «القاهرة» في مايو 1956 خبراً، قالت فيه: «استقبل صباح اليوم الأستاذ عبد الرحمن صدقي مدير الأوبرا في مكتبه الأستاذ زكي طليمات ودار الحديث بينهما حول تخصيص أربعة أسابيع للفرقة القومية التونسية على مسرح الأوبرا في مستهل الموسم المقبل، وسيرفع الأستاذ صدقي تقريراً عن هذه المقابلة إلى السيد وزير الإرشاد القومي». وبعد شهرين نشرت الجريدة خبراً آخر، قالت فيه: «تقدم اليوم الأستاذ زكي طليمات، مدير الفرق القومية التونسية، إلى السيد وزير الإرشاد القومي يطلب التصريح للفرقة القومية بالعمل على مسرح الأوبرا أسبوعين خلال شهر ديسمبر».
ظن طليمات أن الأمور على ما يرام في تونس وأن الفرقة التي أنشأها ودرّبها تسير في خطوات منتظمة وفقاً لتوقعاته، بحيث إنها الآن على استعداد للقدوم إلى مصر وعرض أعمالها في الأوبرا المصرية! وللأسف لم يحدث شيء من هذا ولم تأت الفرقة التونسية إلى مصر، ومرّ أكثر من عام ونصف العام منذ أن ترك طليمات تونس، ولا نعرف شيئاً عن الفرقة التونسية! وفي يوليو 1957 نشرت جريدة «القاهرة» خبراً حزيناً، قالت فيه: «منذ أن ترك الأستاذ زكي طليمات الفرقة القومية بتونس لم يصبها التطور بل أن إيراداتها انخفضت حتى فكرت بلدية تونس في إلغائها»!

الزيارة الأخيرة
لم يتحمل زكي طليمات هذا الخبر فأعلن استعداده للسفر إلى تونس على نفقته الخاصة لإنقاذ الفرقة، ونشرت هذا جريدة «القاهرة»، التي نشرت أيضاً خبراً، قالت فيه: «عهدت الحكومة التونسية إلى الأستاذ زكي طليمات بإنشاء معهد لفن التمثيل بتونس على غرار معهد التمثيل المصري». وبناء على ذلك سافر طليمات ومكث عدة شهور، وكتب من تونس رسالته الأخيرة، ونشرتها له جريدة «القاهرة» في نوفمبر 1957 تحت عنوان «زكي طليمات يكتب للقاهرة من تونس»، قال فيها: 
تونس الآن تغير من ملامحها في عهد التحرير، فكل شيء هنا يجري ويركض لتدارك إصلاح ما فات، والهمة مبذولة في كل ناحية لتثبت تونس جدارتها باستقلالها وبنظامها الجمهوري الجديد. وجرت مباحث فنية بيني وبين السيد «الشابي» وزير المعارف، وهو شقيق الشاعر التونسي الثائر «أبو القاسم الشابي». ومن هذه المباحثات اتضح لي مبلغ حرص الوزير الشاب على إرساء بناء متين لنهضة مسرحية تبعاً لخطة مدروسة ليس للارتجال يد تمتد إليها. فهو يريد إصلاح «معهد التمثيل التونسي» بحيث يصبح معهداً عالياً على غرار أرقى المعاهد الفنية. وهو مستعد لاستقدام الإخصائيين من خارج تونس إذا لزم الأمر. وهو يريد إنشاء «مسرح شعبي» لأنه يرى أن إنشاء هذا المسرح، إنما هو اعتراف من جانب الحكومة بحقوق الطبقات الكادحة والرقيقة الحال في التثقيف والترفيه النافع على اعتبار أنهم مواطنون يؤدون واجبهم في دفع الضرائب وفي النهوض بجميع الالتزامات المفروضة على جميع أبناء الوطن الواحد. وهو يريد بعثاً للفنون الفولكلورية التونسية، ثم تهذيبها وتطويعها للقيم الفنية لتعرض في دور التمثيل، كما تجري في الموالد وفي جلسات السمر. وقد كلفني الوزير الشاب بكتابة مذكرات مفصلة في هذه المواضيع، ولي أربعة أيام أعمل بلا انقطاع لإنجازها، وستناقش أمام لجنة برئاسته بعد يومين. وإقامتي بتونس تنتهي بانتهاء مشاوراتي الفنية، وفي ظني سأكون بالقاهرة في أوائل الشهر القادم لأسافر بعد ذلك إلى الكويت بناء على دعوة حكومتها.
وإلى هنا تنتهي مهمة زكي طليمات في تونس التي استمرت ثماني سنوات – على فترات متقطعة – ليبدأ تكرار التجربة مرة أخرى ولكن في الكويت!! أما تونس فقد بدأت تبحث عن بديل لزكي طليمات، وهو البديل الذي سنتحدث عنه الأسبوع القادم!


سيد علي إسماعيل