المغامرة إبداع يليق بتاريخ الثقافة الجماهيرية

المغامرة إبداع يليق بتاريخ الثقافة الجماهيرية

العدد 852 صدر بتاريخ 25ديسمبر2023

في حضرة العبقري الثائر سعد الله ونوس، كانت مغامرة السلطة وكرسي العرش هي المسار إلى السقوط الدموي المخيف، القادم من قلب تاريخ الدولة العباسية، ليشتبك بحرارة مع لحظة فارقة وجودنا العربي الحالي، حيث تفاصيل الخيانة والدم والموت والغياب، التي تبعثها مسرحية “مغامرة رأس المملوك جابر”، والتي تناولها بالإعداد والإخراج النجم الفنان مراد منير، ليواجهنا بقطعة فنية تاريخية شعبية مدهشة، تمثل عملا إبداعيا شاهقا، البناء الدرامي شديد التماسك، الشخصيات مرسومة بدقة وحرارة عارمة، تمتلك وجودها وحضورها وأطرها التاريخية وأبعادها النفسية ومبررات سقوطها، التجربة تحمل ملامح حداثية، ترتكز على فكرة ذهبية مدهشة، تجمع بين التراجيديا والكوميديا والعبث، لتواجهنا بذلك العالم الصاخب المسكون بالتناقضات، التي فتحت آفاق الوعي والمعرفة، التقاطعات تمتد والمزج الناعم بين المنظور التاريخي للماضي ومؤشرات الحاضر المعاصر، تنطلق إلى ذروة الوهج السياسي الإنساني المثير للجدل والتساؤلات.
هذه التجربة تقدمها فرقة السامر المسرحية، التابعة للثقافة الجماهيرية، المخرج الكبير مراد منير صاحب الخبرة الفنية العريقة، يبعث تفاعلا عارما مع الظرف التاريخي الذي نعيشه الآن، المنظور الفني جاء حارا متوترا عنيدا شاعريا مدهشا واثقا، الاشتباكات الدالة مع وحشية ملامح الوجود الإنساني، تكشف مفاهيم القسوة الداعرة والشرور الآثمة والمواجهات الصادمة، تلامس خطايا الواقع ومجون الحقيقة وتتحول إلى عزف ناري على الأعصاب العارية.
تنتمي مسرحية المغامرة تاريخيا إلى زمن الدولة العباسية، عهد الخليفة المنتصر بالله، الذي بعث طوفانا من الظلم والقهر والاستبداد والعذاب، تخلى تماما عن شعبه، فاستلب الروح والوعي والأجساد والأحلام، غابت القدرة على المواجهة واستسلم الناس للفقر والجوع والجهل والغياب، المؤامرات تشتعل والخيانة تكشف عن حضورها الناري، الصراع بين الخليفة ووزيره «محمد العبدلي»، يرسم إيقاعات السقوط، الوزير يعيش شبق الوصول إلى كرسي العرش، والخيانة هي المسار إلى الأحلام الآثمة، وفي هذا السياق كان المملوك جابر يعيش شغفا مثيرا للصعود، اتجه إلى الوزير ودخل عالمه الآثم، باع نفسه لشياطين الخيانة، وظل ينسج أبعاد مغامرته السامة، عرف أن الوزير الخائن يريد إرسال خطاب للملك الأجنبي، لكنه يخشى القبضة الحديدية للخليفة، فالحراس على أبواب المدينة يفتشون كل من يخرج أو يدخل، لذلك اقترح أن يحلق شعر رأسه، ويكتب الوزير رسالته على الرأس الحليق، وسوف ينتظران حتى ينمو شعر المملوك من جديد، ثم يخرج دون أن يشك الحراس فيه، وهكذا نفذا خطتهما، وكتب الوزير رسالته التي لن يراها المملوك جابر أبدا، وفي هذا الإطار يمضي جابر ويصل إلى أخطر أعداء الدولة العباسية، الملك يقرأ الرسالة، وعلى الفور يأمر بقطع رأس المملوك، فقد أوصاه  الوزير بذلك خوفا من الفضيحة، وإذا كانت الدلالة الواضحة تؤكد أن الخيانة هي المسار إلى الموت، فإن الخيانة العظمى كانت في موت الانتماء وغياب المعنى وسقوط الوطن.
تتبلور المفارقات الدرامية الصادمة، رؤى سعد الله ونوس تعانق جماليات المخرج مراد منير، منظور الإخراج يمزج ببساطة مدهشة بين أحداث التاريخ وسقطاته، وبين مؤشرات وجودنا الآن، الدلالات الرمزية تبعث حضورا مبهرا على خشبة المسرح، لغة الكتابة والإخراج وخصوصية المفردات ورشاقة الإيقاعات، تدفع المتلقي إلى مسارات التفكير الواعي في مأساة وجود جروتسكي مخيف اختلط فيه الواقع بالخيال، والحقيقة بالوهم والماضي بالحاضر وملامح المستقبل، التفاصيل والأبعاد ترتبط بذلك الطرح الفلسفي للوجود والعدم والعبث والاغتراب، وعذابات التواصل بين البشر في عالم مسكون بمؤامرات الدم والخيانة والقتل، والتسلط والاستبداد وحتميات السقوط والرضوخ.  
يتضافر الضوء مع خطوط الحركة، الغناء يشاغب الاستعراضات والألوان الدافئة، والأداء يبعث تيارات الوهج واستعارات الجمال، التشكيل السينوغرافي يمنح الزمان والمكان دلالات غزيرة، واللحظات تمضي لتؤكد أن المخرج مراد منير هو طاقات من الإبداع والفن والرؤى الثائرة، الحالة المسرحية تتجه إلى مفاهيم بريخت الشاهقة، فيسقط الحائط الرابع ويصبح الجمهور جزءا أصيلا من العرض المسرحي، الأداء التمثيلي يأتي في أبهى حالاته، والنجم يوسف مراد منير يعيش لحظة فاصلة في تاريخه الفني، لعب دور المملوك جابر فجاء أداؤه سحرا ووعيا وجمالا بعد الجمال، وقد شاركه فريق عمل متميز فكانت الجميلة مصرية بكر مدهشة لافتة ومتميزة، والنجمة الصاعدة ليلى مراد تبعث وهجا وحضور رومانسيا دافئا، مع الفنان الكبير حامد سعيد، أشرف شكري، عبد الله مهنى، إيهاب عز العرب، لمياء العبد، فاطمة زكي، ومجموعة كبيرة من الفنانين المتميزين.
كان الديكور لإبراهيم المطيلي. والألحان لمحمد عزت، والاستعراضات لمحمد بيلا، وكانت الأشعار لأحمد الشريف.


وفاء كمالو