باراباس يعيد طرح القضية من جديد.. في «يهودي مالطة»

باراباس يعيد طرح القضية من جديد.. في «يهودي مالطة»

العدد 834 صدر بتاريخ 21أغسطس2023

لا يغمض أحد عينيه، أو يشيح بوجهه، هذا العرض يخصكم، هذه القضية تعنينا جميعا، هذه قضية الأمس واليوم والغد؛ ذلك أن الصراع العربي الإسرائيلي كان ومازال يمثل أبرز الصراعات الإقليمية ذات الأبعاد الدولية في عالمنا... والحقيقة التي لا يمكن إغفالها أن هذا الصراع ذو أبعاد مركبة ومتشعبة، حيث تتداخل فيه الأسباب الدينية والرمزية والأسطورية مع الفجوات النفسية هذا من جانب، ومن جانب آخر هناك أبعاد عسكرية وتاريخية وحضارية، وثقافية.....وليس ثمة شك أن هذه الأبعاد جميعها، هي التي حكمت أطراف القضية، وأعطت لهذا الصراع خصوصية في تاريخ الصراعات عبر الأزمنة وعلى مختلف الأصعدة.
  والحرب التى شنها (باراباس) حرب بوجهيها الدموي والبارد، وجه بارد باستخدام الحيل والألاعيب الماكرة، ووضع نقاط السم الإرهابي، ووجه دموي في صور المعارك بين قطبي الشعب حتى يقضى كل منهما على الآخر، وينتهي درع الدولة الحامى المتمثل في جيشها، فهي ألوان من الحروب للوقيعة بين الدول وتحقيق الاستفادة القصوى من تصدُّع وتفكُك الشعوب....
     باراباس الثرى اليهودى الذي يعادى الجميع لأنه يملك المال، ويبحث عن جميع طرق» الربا» لكي يزيد هذا المال، حتي يتسنى له السيطرة على الجميع، ويفرض عن طريقه نفوذه وسيطرته، بكل الحيل والطرق حتي بلغ الأمر التخلص من ابنته (إيبيجيل) وقتلها بدس السم لها في الطعام هي وبقية الراهبات، ورجال الدين لم يفلتوا من فعلته فقام بقتلهم أيضا لكى لا تنكشف خطته التي شرع في تنفيذها، وتدبيره الشيطانى الذي لا يكف عن الاستمرار فيه، فلا يبالي لأى شئ .... ولا تسيطر عليه أية مشاعر حتي مشاعر الأبوة وهي أقدس وأطهر المشاعر لا يعطي لها بالاً.
واستخدامه لخادمه الساذج كأداة لتنفيذ جرائمه بعدما أوهمه، أنه بالتخلص من ابنته سيصبح هو وريثه الوحيد ويتخذه ابنا له ، كل هذه حيل وألاعيب جميعنا نعلمها وكم عانت الشعوب من مرارتها.

باراباس شبح يطارد الأحلام
   إن اختيار الفنان سامح بسيوني لأداء دور شخصية يهودي مالطة اختيار موفق جداً، حيث لعب البطولة مجسداً شخصية اليهودي كما يجب أن تكون، أو بالأصح كما هي كائنة مرسومة، منحوتة في ذاكرة الجميع،فوفق في أدائها من جميع النواحي حيث تعايش معها، ودرس أبعادها وظهر ذلك من خلال تعبيراته، فتارة يضحكنا بمكر معهود، وتارة أخرى يستعطف جميع من حوله ، حتى يظهر أنه حقًا مثيرًا للشفقة ويستحق العطف.
أعاد باراباس تسليط الضوء علي القضية من جديد ـ إن صح التعبيرـ يريد أن يذكرنا، أو يقول لنا لا تتناسوا أو تنشغلوا بوهم زائف، فأنا باراباس اليهودى شبح الأحلام ...نجده هذه المرة تعايش في دور الضحية فهو لا يكف عن التلفظ بكلمات الظلم الذي وقع عليه أمام الجميع، ويدندن دائما بنغمة سلب أمواله منه، ومن هنا أخذ يكيد المكائد، وينظم ويخطط حتي يحدث الفتنة بين الجميع ويوقع بهم في حرب دامية تذهب على أثرها أرواح لا ذنب لها حتي يسطع نفوذه الذي يرنو إليه ولا يبالى لنتائج ذلك على من حوله.
ولقد ظهر إبداعه من خلال إحساسه بالكلمات، والجمل الحوارية سواء في الديالوجات بينه وبين الشخصيات الأخرى أو في المنولوجات الغنائية التي منحته الفرصة لإبراز مواهبه ليس كمخرج معروف فقط، وإنما كممثل لديه موهبة قوية على خشبة المسرح.

سيمفونية الأداء التمثيلي والإخراج والدراماتورج
إن عنصر الأداء التمثيلي لسامح بسيوني، وبقية ممثلي العرض مع قوة الفكرة المسرحية، والقضية المعروضة، وكذلك لعبة الدراماتورج والموسيقي، من أهم العناصر التي نهضت بالعرض ككل، ليخرج للجمهور بهذه الصورة المشرفة، «ويهودي مالطة» عرض أراه يدخل بجرأة منطقة المسرح السياسي ويتربع فيها....
والحقيقة أنني حينما شاهدت الفنان سامح بسيوني على خشبة المسرح كأننى أشاهد عرضًا مميزًا لـ «شديد المسرح الحديث» المبدع الراحل الفنان «عبدالله غيث» في آدائه، وتعبيراته، وحركاته، وفخامة صوته، ونبراته المتغيرة التي يوظفها تبعا للموقف التمثيلي.... وإذا كان الفنان «عبدالله غيث» قد نال ـ سابقًا ـ هذا اللقب من قِبَل الفنان «محمود قابيل»، فيحق للمبدع سامح بسيوني بعد آدائه  شخصية «باراباس» في يهودي مالطة أن يكون شديد المسرح المعاصر.
وما يجب الإشادة به أيضا مجموعة ممثلي العرض، ذلك أنهم قدموا أدوارهم بوعي وإخلاص، ومنهم الفنان» مسعد سالم» الذي قام بدور العبد الخادم (إثامور) هذا الفنان لديه طاقة لم تُستَغَل بعد .
 حافظ المخرج محمد مرسي علي روح النص الأصلي وفكر المؤلف، ولقد أضاف «الدراماتورج» بُعدًا معاصرًا من خلال ظهور باراباس مرة أخرى في نهاية العرض وبعد إلقاء القبض عليه وحبسه داخل القضبان الحديدية والقضاء عليه، وكأنه يريد أن يقول لنا براباس لم يمت أبدا، ولا يمكن أن ينتهي فكل عصر يوجد به براباس، وبين كل منا ... بين البلد والآخر... بين البيت وما يجاوره...بين الشعوب وبين الحكام، كما أضاف بعدًا معاصرًا آخر من خلال تطرقه إلى منطقة المتاجرة بالدين ومتطرفي السلوك والفكر، والحقيقة أن هذا البعد قد تم مناقشته في النسيج الدرامي وفي الجمل الحوارية وأغنيات العرض دون تعسف أو إقحام .....
وما يجدر الإشارة إليه أيضا أن لعبة المخرج محمد مرسي على هذا المنهج الدرامي في الإعداد موظفًا الحوار الداخلي الذي كان يدور طوال الوقت في نفس باراباس ويهمس به، وكأنها مقتطفات «مونودرامية» بين باراباس وبين نفسه، كأنه يريد أن يقول للجمهور إن هذه القضية لم ولن تنتهي بعد...هي قضية كل يوم دامت باقية بدوام العدو الصهيوني والفكر الإرهابي المتطرف...

صراع قائم لا محالة
  تبين وبشكل ملحوظ خلال العرض جدية الصراع واحتدامه، واشتداد الأزمة، ففي الكثير من المشاهد يؤكد باراباس أحقيته بالمال والسلطة والأرض والحكم، فطوال العرض يريد أن يقول لنا : « إننا لكي نسود العالم يجب أن نحطمه أولا، وسنلجأ إلي كل أدوات التحطيم المادية والمعنوية، ووسيلتنا إلى تحقيق ذلك هو اتباع سياسة العنف، والإرهاب، والتخريب، والحرب، والرشوة، والوقيعة، وسياستنا أيضا الوقيعة بين المسلمين والمسيحيين، وبين الشعوب جميعها، ليقضي كل منهم على الآخر» ...وهذا ما فعله حينما جهز لوليمة عشاء ودعى الحاكم العثماني لتناول الطعام معه، وفي نفس الوقت وسوس لحاكم مالطة( الفرنسي المسيحي) بعدما حرره من قيوده أن يتخلص من الحاكم العثماني، فكان غرضه أن يقضي كل منهما علي الآخر ويسيطر هو في النهاية ويلوذ بكرسي الحكم، لكن أفعاله أوقعته في شر أعماله وكُشِفَت جميع حيله.

اللغة الفنية المستخدمة
  إن من أهم قنوات توصيل العمل الأدبي أو الفني بفكرته والقضية التي يناقشها إلي القارئ أو الجمهور المشاهد هى نوعية اللغة الحوارية المختَّارة والتي تنطق بها الشخصيات، فعلي الرغم من أن الفعل الدرامي يُعد جوهر وأساس الفن الدرامي، فإن التعبير اللفظي المُفَعَّم بالحيوية والإيحاء هو في حقيقة أمره فعل فكري، فوظيفة اللغة الحوارية هي فك عقد وطلاسم النص والذهاب به إلي آفاق جديدة معاصرة.
ومن الممتع في هذا العرض أننا استمعنا إلى سيمفونية حوارية فصيحة محكمة الضبط والبناء، منحت العرض أبعادا تعبيرية جديدة وكـأنها دروسا ملقاه، ومن بين هذه الجمل: « سأعلمك ما يجب عليك الالتزام به، انزع من قلبك العطف والحب والأمل الفارغ والخوف ولا تتأثر بأي شئ ولا تشفق على أحد، ولكن ابتسم لنفسك عندما يتألمون».
هكذا برزت غاية الصهيوني اليهودي من خلال حوار بسيط لخادمه، بين لنا عن طريقه الحقيقة اليهودية عبر التاريخ الطويل، والأزمنة المختلفة. 
  أما عن الديكور فلقد صمم بصورة تتماشى مع الأحداث الدالة، وروح العصر، والجو العام للحكاية، كما جاء عاكسا لطبيعة ووظيفة كل شخصية في العرض مما ساعد على إبراز جمال السينوغرافيا.
ولقد اعتمد المخرج على مسحةٍ تجريبية قائمة على فيزيائية الحركة والجسد، ربما يكون ذلك إيمانا منه بأن دلالات الجسد تستطيع أن تصور المشاعر الداخلية للشخصية، ووضح ذلك في استخدامه للحركات التعبيرية وخاصة فى رسم شخصية باراباس . ومن أبرز اللوحات التي قدمت في المسرحية، لوحة القبض على باراباس ووضعه في القفص الحديدى، حيث يواجه ذلك في بادئ الأمر بتحدٍ واضح، ولكنه يبدأ بالإنهيار؛ ويطلب الخروج متوسلًا لكن محاولته تفشل بسبب أعماله وألاعيبه الشيطانية.
والجدير بالذكر أن (مرسى) جسد تلك اللوحة كمعادل موضوعى لحكاية وشخصية يهودى مالطة وكنهاية طبيعية لمثل هذه المؤامرات الشيطانية والأعمال الإرهابية.
واستُخدمت مع  الحركات التعبيرية والتجريدية أصوات غنائية  وأشعار صوتية موحية ممزوجة بين ثنايا الحوار الأصلي للعرض، إضافة إلي الموسيقى والاستعراضات المتنوعة في تيماتها والتى رأيتها عاملا مساعدا، وعنصرا هاما من عناصر العرض ساعد على الوصول إلى مضمون الفكرة الرئيسية، وخاصة استعراض المبارزة بالسيوف وهي من أدوات الحرب المستخدمة قديما .
أما عن مفردة الإضاءة، فجاءت موحية بالحدث الرئيس في المسرحية والصراع القائم، وكذلك الجو النفسي للشخصيات وخاصة شخصية باراباس ففي بعض المشاهد نجد أن مصمم العرض قد وُفِقَ في التلاعب بين الأضواء والظلال وبين درجات الألوان التي ساعدت الجمهور على كشف حيل وتدابير اليهودي باراباس.
كما وفق مصمم الملابس في اختيار نوعية الملابس التي تتماشى وطبيعة كل شخصيات العرض ومنها شخصيات الحكام وخُدام الدير وراهباته وكذلك ملابس شخصية العبد، كما أن ارتداء بارباس للون الأسود طوال مشاهد العرض كان  عاملًا هامًا في انعكاس صورة الإرهاب الصهيوني الأسود الذي طالما حل بمكان يغيم غباره الأسود على كل أبيض ساطع.


داليا الدسوقي