العدد 789 صدر بتاريخ 10أكتوبر2022
نجاح فرقة الجزايرلي في طنطا جعل الكتابات الصحافية تهتم بنشاطها المسرحي، وقد قرأنا ذلك في المقالة السابقة فيما كتبه الناقد «عبد اللطيف خليل» في جريدة «المدفع». وهناك مقالة أخرى له لم ننجح في الحصول عليها، ولكننا نجحنا في الحصول على مقالة الرد عليها، منشورة في جريدة «سفينة الأخبار» في أواخر أكتوبر 1927، جاء فيها الآتي:
عزيزي المحترم عبد اللطيف أفندي خليل المحرر بجريدة الحضارة المصرية، بعد التحية. اطلعت بالعدد الأخير على كلمة كتبتموها حول الأستاذ الجزايرلي أفندي الممثل المعروف في طنطا، لمناسبة إبلائه من مرضه وعودته للوقوف على خشبة المسرح. فذكرتم في معرض الأخبار «أن الشاب فؤاد الجزايرلي كان يقوم أثناء مرض والده بالأدوار الرئيسية، وإن كان يعمل بجد ونشاط على إعلاء فن التمثيل، وأنه وإن لم يملأ مركز أستاذه ووالده إلا أنه سد نقصاً هائلاً حتى أكتسب ثناء الجمهور وإعجابهم». ولا أنكر دقة موقفك عندما أردت أن تكتب هذه الكلمة، لكي تصوغها في عبارة رقيقة لا تجرح الإحساس ولا تمس الكرامة! ولكن أرجو أن تسمح لي بأن أعتب عليك. فقد كنا نود أن يكون لديك قليل من الشجاعة الأدبية، فتفرق بين احترام الأشخاص، وتقرير الحقائق بدون اكتراث ولا مبالاة. إننا نقدر بإعجاب تلك المقدرة الفنية والكفاءة العلمية التي تتجلى في كثير من مواقف الأستاذ الممثل الخفيف الروح فؤاد أفندي الجزايرلي مدير المسرح، بالإضافة إلى نشاطه ومقدرته، فهو القوة العاملة، والرأس المفكرة في مسرح الجزايرلي، وهو الذي أظهر لنا براعة النبوغ الفني وعظمة التمثيل. تلك حقيقة يجب أن نسجلها بحرية وصراحة مع احترامنا لوالده، وإعجابنا بنزاهتك والسلام!! [توقيع] لمخلص «محمد فتحي»!
علق الناقد على هذه الكلمة، قائلاً: إنني أتقبل في كثير من الاحترام والتواضع عنايتك أيها الفاضل، ولا شك أنك تجد ظروفاً مختلفة لزلة قدمي! وما كنت أريد الغض من قيمة فؤاد أفندي والإقلال من احترامه والإعجاب به. فإني أول من يقدر كفاءته ويحترم نبوغه ويعده ممثلاً بارعاً جديراً بالتقريظ والإطراء. ولا أذيع سراً ولا أفشي خبراً إذ قلت إن مسرح الجزايرلي مدين بشهرته وعظمته إلى الممثل البارع فؤاد أفندي، فهو العرق النابض واليد العاملة. وإليه يرجع الفضل في حسن إدارته، وكمال نظامه فقد برهن على إدارة حازمة، ودل على نضوج الفكر وسلامة الذوق، حتى استحق إعجاب الشعب الطنطاوي، ونال تقديره واحترامه. أطمئن فإني أشاطرك أيها الفاضل شعورك وإعجابك، وأرجو ألا يسلبني فؤاد أفندي حسن النية، فهو أول ما أحرص عليه. وأنني أتمنى له من أعماق قلبي ما هو جدير به من الرفعة والنجاح. [توقيع] «عبد اللطيف خليل».
تناقض الناقد!!
وفي فبراير 1928 أخبرتنا الصحف أن الفرقة مثلت بالفعل على مسرح سفنكس مسرحيتين هما: «إسكولا دلامور» و«ده شرفي» بطولة جميلة وإحسان الجزايرلي وعبده حجازي مُقلد المرأة. ومع نجاح الفرقة، زادت الكتابات الصحافية، حيث كتب «صلاح» كلمة في جريدة «الممتاز» يونية 1928، قال فيها تحت عنوان «فرقة الجزايرلي بطنطا»: هبطت المدينة هذه الفرقة منذ أيام فقضت على الفوضى والتهريج الذي كان يقم به بعض أفراد يحملون اسم الأوبريت! وفوزي الجزائرلي هو مديرها وعمادها، وهو يمثل الآن في كازينو «النزهة». وفي الحقيقة أنه أول من ضحى في سبيل الفن حياة غالية وأرباحاً طائلة. واستمر في تضحياته عشرات السنين. حتى إلى اليوم ما زال يضحي. وهو الشخص الذي يجيد تمثيل الشخصيات الوطنية البحتة، إلى درجة لم يسبقه إليها سابق. إذ إنه أول من بذل المجهود، وأول من يعتلي خشبة المسرح ليؤدي واجبه بأمانة! لا يهزل فيه، ولا يتهاون. ويكفيه فخراً أنه ترأس في يوم من سني حياته بعض أفراد ممن تعتمد عليهم الفرق الراقية في البلد. وهو الذي أنتج من لدنه نتاجاً طيباً. يسجل له أحسن الأدلة في الإخلاص في فنه والتفاني في عمله. ولعلك حينما تشاهد تمثيل أبنائه: فؤاد، وجميلة، وإحسان .. تعرف أن للرجل يداً قوية تعمل بهمة، جدير بالتشجيع والإعجاب رغم صغر ما يناله المسكين من ربح ضئيل من الروايات من نوع «الكوميدي» و«الريفيو». فإذا أنت مثلاً شاهدت شخصية فوزي في إحدى الروايات، فثق أن «فوزي» هو الرواية. وكم يحلو لك أن تراه يمثل شخصية فلاح لا يحب إلا حمل «الزكايب»، وإتيان كل شاذ من مستنكرات العصر الحالي! فهو ينام بكسوته على الأرض في سذاجة الريفي، ويضحك معه. ولا يمكنك في الوقت نفسه أن تنسى أو تتناسى أنه عندما يبكي سيبكيك معه لولا أن لديك فكرة عنه. أنه ممثل الضحك فانتقاله بك من الضحك إلى البكاء صدمة عاطفية عسيرة. والأفراد التي تعتمد عليهم الفرقة أقوى مجموعة ضمهم الجزائرلي للآن ومنهم: فؤاد ورياض، وسعاد حمدي، ثم جميلة، وإحسان. وللأولى صوت ظهر عن جوهر خافت فيه الرنة وفيه العذوبة وفيه المرونة وفيه الأنوثة! وهو يتحرك بأوتار كالقيثارة تهز أوتار القلب رغم صغره، الذي يعاكسها بعض الأوقات. وقلما تعدو الصعود به كثيراً عندما يكون خافتاً. والصغرى صوتها أصغر من أختها حتى يكاد يموت بجانبه، رغم أن له ميزة وهو «النبرة» وقد أصبحت أقدامهما ثابتة على الخشبة كأقدم ممثلتين. [توقيع] «صلاح».
بعد أسبوع واحد، وفي المقالة التالية للناقد «صلاح»، وجدناه ينقلب على الفرقة من النقيض إلى النقيض!! فبعد المدح الكبير في كلمته السابقة، وجدناه يذمها ذماً شديداً تحت عنوان «فرقة الجزايرلي»، قال فيها: من اطلع على كلمتنا السابقة، في الأسبوع المنصرم، علم منها اهتمامنا بأمر هذه الفرقة! ولكننا نستطيع الجزم والتصريح هنا في هذا المقال أنها لا تستحق منا هذه العناية. ولقد تغافلنا في الأسبوع المنصرم عن بعض أمور لاحظناها نحن! ومع إننا مازلنا نغض الطرف عن أمور أخرى، إلا أننا نحب أن نذكر بعض مناحي يجدر بالجزائرلي الاهتمام بها، والاعتناء بالقيام بأمورها، وإلا عددناه مهرجاً! بديهي أن كل ما تمثله الفرقة من الروايات، لا تستحق الذكر، إذ هم يمزجونها بمواقف أخرى من روايات مختلفة، حتى لقد يصعب على النظارة، وقد أعلنوا عن اسم الرواية، أن يعرفوا أهم يمثلونها هي بالعين، أم يمثلون «سكالانس» من الروايات!! ولكن يجدر بي أن أقول (أهي على قدهم)!! وبالنسبة لأعضاء الفرق: «فوزي» هو مدير الفرقة وممثلها الأول وهو يجيد تمثيل الأدوار الوطنية وله فيها قدم راسخ، فكم يستحب إليك وأنت تشاهده، لولا بعض شخصيات لا يستغنى عنها، اختص «فؤاد» بتمثيل أدوار «الشوام». ولكننا مع اعترافنا بإجادته، نأخذ عليه كثيراً تقليده «جمجوم» [أي الممثل عبد اللطيف جمجوم]. وهذا مما «يبرد» بعض أدواره. أما «رياض القصبجي» وهذا الرجل قديم العهد بخشبة المسرح، وهو أكثرهم إجادة في الحقيقة. ونستطيع أن نضعه في صف فوزي سواء. و«سعاد» إذا وقفت أمامك تمثل لا تدري، أهي «مستعجلة» على «الوابور ليفوتها» [أي القطار] أم ماذا؟! فهي تارة تصرخ بصوت عال وتسرع إلى درجة لا تطيق سماعها، وتارة أخرى لا أدري بماذا أعبر لك! يا سيدتي مهلاً فليس التمثيل «جنازة» والأجدر بك ألا تأخذي على الناس معايبهم! فطوبى لمن أعمته نقائصه عن غيره! و«جميلة وإحسان» هاتان الفتاتان مجيدتان، ولهما بعض منلوجات تقومان بإلقائهما على الجمهور، ودائماً تنالا الاستحسان التام. [توقيع] «صلاح».
في العام التالي
في مارس 1929 حضرت فرقة الجزايرلي إلى طنطا مرة أخرى، فنشرت جريدة «طنطا» الخير قائلة تحت عنوان «فرقة الجزايرلي»: اتفق «عذرا ديشي» مع فرقة فوزي الجزايرلي على إحياء بعض الحفلات يفتتح بها مرسحه الجديد، فلم ترقنا هذه الفكرة، لأن الجزايرلي قد سقط في طنطا من قديم، وطال العهد على سقوطه لخلو فرقته من الممثلين والممثلات واكتفائه «بالفاميليا»، واقتصاره على الروايات القديمة المبتذلة، وقد ملّها غواتها لتكرارها عدة سنوات. وكان الجدير بعذرا أن يفتتح هذا المرسح الفخم بفرقة راقية محترمة تجلب إليه الطبقات الراقية، وفي الوقت متسع للتعديل!
وفي اليوم التالي نشر «محمد كامل» مدير الفرقة كلمة في جريدة «الكمال»، قال فيها: نشرت إحدى الصحف الأسبوعية بعددها الصادر اليوم كلمة عن المسارح التمثيلية، وما يجب على بلدية طنطا عمله نحو التمثيل عامة والمغنين والمغنيات. ولقد كان يسرنا كثيراً أن تكون هذه الكلمة بريئة من كل شيء موجهة لمناصرة ذلك الفن الجميل الذي ابتدأت أمتنا المصرية تقدر رجاله حق التقدير وتعمل على مناصرة أفراده. إلا أنه جاء بعد ذلك وتحت عنوان ضخم كلمة عن فرقة الأستاذ فوزي الجزايرلي وضع فيها من خياله الذي أوحى إليه وصف الحفلات التي اُقيمت في طنطا قبل أن تعمل، وقبل أن يشنف أسماعه بنغمات الآنسة أم كلثوم. والحق يقال إنه تسرع غير محمود لأنني وأنا فرد من الناس وصل إلى العدد، والنهار لم تقف شمسه بعد، والجريدة تصف حفلات الليل وما فيها من أنس وطرب، مما يجعل عند كل من يطالعها الشك في كذب الروايات والمواضيع التي تكتبها هذه الجريدة، إلا أننا نسامحهم في هذه الغلطات، ونلفت نظر حضراتهم إلى الحقيقة الواقعة التي لا يمكن ولن يمكن أن يكابر هو فيها ولا غيره، إن كان من الذين يهمهم حقيقة رقي المسرح المصري على إطلاقه .. «فرقة الجزايرلي» هي أقدم الفرق التمثيلية عهداً وأعظمها شأناً في كل الأدوار التي مرت! ورئيسها الأستاذ فوزي الجزايرلي من الأساتذة المعدودين على الأصابع الذين يفخرون بفضلهم، ويعملون بكل جد واجتهاد في ترقيته وإيصاله إلى الحد اللائق به، رغماً من معاكسة الظروف والأقدار له. وقد وهبه الله أولاداً نجباء تربوا فوق خشبة المسرح من صغر سنهم، فتدربوا كل التدريب عليه حتى غدوا يضارعون بأنفسهم أكبر الممثلين والممثلات رسوخاً في الفن. ولا نظن أن في ذلك شكاً، فالكل يعجب بهذا النبوغ وتلك العبقرية الموروثة في نفوس هؤلاء الصغار. والفرقة تأسف جل الأسف أن يقوم من بين الأدباء من يعمل بالتبرأ من عملها ومن أفرادها مع أنه لم ير ولم يسمع شيئاً إلى الآن عن عملها الجديد. ويكفي أن نلفت نظره أن الفرقة الآن مكونة من أفراد معدودين لهم في المسرح القدم المعلى منهم الأساتذة: عبد اللطيف أفندي جمجوم الممثل الكوميدي المعروف، وعبد الحليم أفندي القلعاوي، وعلي أفندي كامل، وحسن أفندي لطفي، وعبد العظيم أفندي سيد أحمد، علاوة على غيرهم من الممثلين الكبار. أما عن ممثلات الفرقة فمن بينهم كوكب المسارح التمثيلية الآنسة دولت انطوان ربة الكوميدي في المسارح المصرية، والسيدة عزيزة بدر الممثلة المصرية المعروفة وغيرهن كثيرات. فضلاً عن الفنانتين النابغتين جميلة وإحسان. أما عن الروايات فستقدم الفرقة في «كازينو البلفي» أربع روايات جديدة لم يسبق تمثيلها ببندر طنطا، وهي: «الثلاث ورقات، وقمر الزمان، وسلفني مراتك، والهوسة». وعلى كل حال سامح الله هذه الجريدة! [توقيع] «محمد كامل» مدير إدارة فرقة الجزايرلي.
علقت جريدة «الكمال» على هذه الكلمة، قائلة: نشرنا هذه الرسالة كما وردت إلينا من حضرة الأديب مدير إدارة فرقة الأستاذ فوزي أفندي الجزايرلي، ونحن واثقون تمام الوثوق أن مدينة طنطا في حاجة كبرى إلى مثل هذه الفرقة الراقية، التي جمعت أحسن مجموعة من خيرة الممثلين الفنانين والممثلات المهذبات. فحبذا لو لاقت التشجيع المنتظر من الأهالي وعضدتها البلدية لنجد في عاصمة الغربية فرقة تمثيلية دائمية كما في القاهرة والإسكندرية. على أن سعادة الأستاذ مدير الغربية الذي اهتم بالألعاب الرياضية فأسس لها نادياً مختلطاً فخماً في هذه المدينة لا يفوته – وهو أكبر مشجع للفنون الجميلة - أن يعنى عناية خاصة بالتمثيل كفن من الفنون التي يستلزمها الرقي الذي ينشده لهذا الإقليم خصوصاً وأن الجمهور يشعر بأنه محروم من كل أنواع التسلية الأدبية في «طنطا» الغنية بأعيانها، ووجوهها وتجارها. كما أن وجود هذه الفرقة الراقية وعلى رأسها الأستاذ الفنان «فوزي أفندي الجزايرلي» الذي أبلى في التمثيل البلاء الحسن، وكان يحق من قادة النهضة التمثيلية في البلاد من أول نشأتها إلى الآن، يُعد فرصة مناسبة يجب أن تغتنمها البلدية لسد النقص الفني في هذه المدينة. ونحن الصحفيون – والتمثيل عضو فرعي من مهنتنا - يجب أن ندعو إلى تشجيعه وإلى تشجيع القائمين به. فإن هذا التشجيع بلا نزاع من أكبر العوامل التي تساعد على إصلاح عيوبه وتحسينه وترقيته في الحاضر والمستقبل على أنه من المحزن جداً أن يحترق الممثل أو الممثلة في وسط الجمهور، الذي يتسلى بهذا الاحتراق المؤلم دون أن يتقدم واحد من أفراده بعطف أو مواساة لهذه الطائفة المظلومة حتى صح فيهم المثل المشهود «يأكلونهم لحماً ويرمونهم عظماً». ولقد يخطئ من يظن أن حياة الممثلين في هذه البلاد سهلة بل هي شاقة متعبة كحياة كل من يعيشون في عالم الأدب وكذلك كان من الواجب أن لا ندعهم في كل الظروف «ضحايا» بل يجب أن نعوض عليهم شيئاً من هذه التضحية الفنية على الأقل. وذلك بأن نسهل عليهم عملهم الشاق المتعب ونأخذ بناصرهم ونعضدهم بقدر المستطاع.