نحو أنطولوجيا لدراما الإمكانيات(2)

نحو أنطولوجيا   لدراما الإمكانيات(2)

العدد 828 صدر بتاريخ 10يوليو2023

حالة المسرح بعد الدرامي : 
يتحدى المسرح بعد الدرامي أنطولوجيا الدراما الكلاسيكية. ومسرحيات سارة كين وكاريل تشرشل ومارتن كريمب، مثلا، ليست مختلفة في الشكل بل يبدو أنها تعتمد علي أنطولوجيا من نوع مختلف. ففي إطار الشكل، فان المسرح بعد الدرامي لا أرسطي بشكل عميق. فهو مسرح يعتمد علي حدث واحد فضلا عن اعتماده علي الحبكة. ولا يتبع الآليات الفكرية، والحوار ليس موجودا بالضرورة. والتفاعل علي خشبة المسرح والشخصيات وتقدم الزمن هي عناصر اختيارية. ومع ذلك، بعيدا عن هذه الخصائص الشكلية، يجب علينا أن نضيف فرقا في أنطولوجيا أنواع المسرح الكلاسيكي والمسرح بعد الدرامي. 
 وكما أجادل في هذه المقالة، تعتمد نظرية الدراما الكلاسيكية علي الانقلاب من الإمكانية إلى الفعلية، والذي تصبح الإمكانية من خلاله مستنفدة بالكامل في الفعلي. وعلي العكس، فان الأشكال التي سماها ليمان أشكالا ما بعد درامية نادرا ما تصبح الإمكانية فعلية كلية. إذ يقال، بالأحرى، أن المسرحيات بعد الدرامية تتعلق بنوع الدراما التي تشارك في مراوغة الإمكانية والفعلية. وهذا يمكن أن يحدث في نموذجين : في توثيق تفاعل الإمكانية والفعلية نفسيهما، وفي توضيح أن الحركة من الإمكانية إلى الفعلية قابلة للانقلاب. 
 تقدم لنا مسرحية كاريل تشرشل “الطيور اللذيذة Mouthful Birds“ (1986) مثالا لما سبق. فرقصة ديونيسيوس التي يتم أداؤها في مشهد المسرحية الافتتاحي وفي الختام، تنبئ بأطر سلسلة التحولات الجاد الجادة لكي نتبعها. فالرقصة تنشط مختلف الطرق التي تستجيب من خلالها شخصيات المسرحية الثمانية التسمم الديونيسي، وتنفتح وتصبح حساسة لأشواقهم الداخلية. وبقدر ما تكون القصص متوقعة، فإنهم مرسومين بنفس الطريقة. ونبدأ بشخصية تؤدي مهام مهاما تافهة في المحيط الدنيوي، ثم هناك التمزق المثير للنشوة كرد فعل لرقصة ديونيسيوس، وأخيرا تظهر لنا الآثار الباقية علي الشخصية بمجرد أن يهدأ التسمم. وبالتالي تدعم تشرشل صياغة ساخرة لحبكة أرسطية ذات بداية ووسط ونهاية. ولكن كل شيء مرتب حول لحظة الإدراك (الاكتشاف) (في صيغة تشرشل للإدراك عند أرسطو) ؛ أي لحظة تحفيز الشوق العميق والاستجابة له. وهكذا تتزامن لحظات الاكتشاف الساخرة مع لحظات إدراك الشخصيات لذواتهم. وغالبا ما يتم نقلها عن طريق التحول الذي تمر به الشخصية. 
 بدلا من تزويدنا بنسخة كاملة من بسيناريو فكري، تركز تشرشل علي حدث فردي – جزء من حدث التحول – وتوجه المسرحية ككل حوله. ولذلك، فان لحظة التحول هذه هي المحرك المنظم للوحات المسرحية الثمانية المنفصلة. إذ تلتقط لحظة صيرورة حيوية حيث تتضافر الإمكانية والفعلية وتنتقل إلى كل منهما الأخرى. ويظهر مس إحدى الشخصيات، وهي لينا، بروح قديمة بالطريقة التالية: 
 انه ضفدع. تقترب بشكل مهدد كالأفعى. يمسك ذراعها ويصبح عشيقا. تستجيب ولكن عندما يعانقها يهاجم مؤخرة رقبتها. تجعله يزحف ويصبح قطارا. يصرخ تحت الطاولة، تسد النفق بكرسي، ويتدحرج كطائر مهدد.تصبح فرخ طائر يطلب الطعام.
 وبينمـا يذهـب للحصول علي المزيد من الطعام تصبح نمرا، تطرحه أرضا وتبدأ في افتراسه. بعد لحظة يقفز واقفا بزئير شرس. تدخل في المشهد التالي. 
بتوظيف أمثلة التمثيل التحولي، توضح مسرحية تشرشل كيف أن الحركة لا تكمن في استنفاد الإمكانية ولكن في انتشار لا نهائي للاحتمالات حيث تبرز كل إيماءة شكلا جديدا في كشف لا نهائي لشكل منفصل سابق. فالاحتمالية الإمكانية لا يعيشان في علاقة السبب والنتيجة، بل يشملا كل من الحركة نحو الفعلية والقدرة اللانهائية للشكل علي إعادة التكوين في خطوة ثانية وتضعف في الاحتمالية. 
 نواجه تدرجات مختلفة للفعلية أو التفرد التي بمجرد تحققها، يُرجح أن تتراجع إلى إمكانية مرة أخرى. وهنا يكون تصدير إمكانيات فعلية قابلة للانعكاس ويمكن دائما إعادة تكوينها في خطوة ثانية لكي تزودنا بشكل مختلف. وبدلا من استنفاد الإمكانية في الفعلي بالكامل، لدينا اندماج في الإمكانيات. إذ لم نعد نتعامل مع البعد الفكري للحبكة ولكن نغير تركيزنا في اتجاه تفاعل الإمكانية والفعلية في اتجه الحركة بما هي كذلك. وهذا يعني، أن الحركة والفكر يصبحا أساسيين. 
 ومسرحية تشرشل «الغلاية الزرقاء Blue Kettle» (1997)، توضح لنا جانب الحركة غير الهادف والمدمر. فالمسرحية تقدم لنا رجل في الخامسة والأربعين يتظاهر بأنه ابن تائه لعدة نساء، وقد تم التخلي عنه منذ عدة عقود. فالمسرحية كلها مرتبة حول هذا الجزء من التحديات العاطفية ؛ إذ يمكننا أن نتصور المسرحية ككائن حي منفرد يهاجمها وجود مفترس يؤدي إلى تفككها. وبينما تتطور المسرحية، تؤثر عبارة طفيلية علي لغتها. وهنا يتم استبدال الكلمات بشكل عشوائي بكلمة «أزرق» أو «غلاية» –في البداية تظل تسمح لنا أن نتوقع معنى الجملة وتبدأ تدريجيا في إحباط الجهود المنطقية – حتى تنهار المسرحية تحت استحالة البقاء على اتصال. وفضلا عن التحرك في اتجاه غاية فكرية تبدأ المسرحية في تأكيد الإمكانية – مجال القوى والعلاقات المثمرة التي تؤسس المعطى. ففي الكفاح من أجل تحييد المفترس والتعامل مع المشاعر التي لا يمكن التعبير عنها، تعيدنا مسرحية «الغلاية الزرقاء» إلى فوضى القدرة التأسيسية قبل الشخصية وقبل اللغوية. إذ تُختزل لغة المسرحية إلى مقاطع وحروف منفصلة، وشخصياتها – غير الراغبين في مواجهة الواقع – يفقدون طبيعتهم كذوات قادرين علي الفعل ويعون قدرة الفعل علي تحمل العواقب. 
 وبينما يجدد المسرح بعد الدرامي صورته الأنطولوجية، لا تستطيع المحاكاة بعد الآن أن تظل وحدها حقيقة مميزة بمفهوم الفعل عند أرسطو ووسيلة رفع النهاية. فالتمثيل في المسرح بعد الدرامي، بالأحرى، هو مجموعة من الممثلين المبتدئين وذو صفة توليدية. ولا يعالج بالضرورة سيناريوهات ذات أفعال متأصلة في الذات الإنسانية ولكنها أيضا تبحث الفائض الذي لا يمكن استنفاده من عمل العقل وليس له بالضرورة أساس منطقي. إذ يُستبدل المنطق القوي للحبكة الأرسطية بالتفاعل بين أقوى، والعلاقة بين غير المنطقي أو المضاد للمنطق. وفي الجزء التالي سوف اشرح كيف يمكن إعادة صياغة هذا التفاعل في إطار مفاهيم ديليوز للافتراضي والفعلي. 

الفعلي والافتراضي : 
 لكي نفسر هذا التوجه الجديد في أنطولوجيا الدراما، سوف أنتقل الآن إلى فلسفة جيل ديليوز وفيليكس جواتاري. إذ يصور المفكران فلسفة تقوم علي لعب التمايز الابداعي. التمايز الابداعي قادر تشكيل الظروف لظهور التجديد. وهنا فلسفة الافتراضي هي استفسار لدينامية الإبداع نفسه. فالافتراضي يتعلق بمنطقة التأسيس الأنطولوجي التوليدي في طابعه. وبعكس الإمكانية الأرسطية التي يتم تعريفها غالبا في إطار غير المتحقق وغير الواقعي، فان الافتراضي عند ديليوز هي مجرد منطقة كيانات كاملة التكوين. فمن خلال منطقة الحقيقي، يملك الافتراضي مكانة واقعية مساوية للكيانات المتحققة ويتم تعريفها في إطار قدرتها على الإبداع المستمر. 
 ففي النسق الأرسطي، نملك حركة فكرية في اتجاه غاية وانتقالا من الإمكانية إلى الحد الأقصى من الفعلية. وتماشيا مع وجهة نظر أرسطو في كتابه «الفيزياء»، فان الخلق ليس بلا حدود والحركة ليست قابلة للانقلاب: «فالفن، وفقا لأرسطو، لا يتطور بلا حدود لأن الطبيعة لا تتطور. ففكرة الحركة تستتبع فكرة التطور والتغير، ولكن الحركات محدودة». 
 ولا يمكن أن يتكون الفن من إبداع جديد بشكل أبدي. ورغم ذلك، يقع التأكيد، بالنسبة لديليوز وجوتاري على الإبداع الافتراضي ولا يقع علي الإبداع الفعلي. إذ يستمر الفعلي والافتراضي في علاقة تجعلهما وحدتين لا تنفصمان ويحددا بعضهما البعض في نفس الوقت. فالافتراضي لا يستنفد في الفعلي، ولا يتحرر الفعلي تماما من جاذبية الافتراضي. إذ يشكل الفعلي والافتراضي الاستمرارية التي وفقا لها تعود الكيانات الفعلية بحرية إلى مجال القوى والعلاقات التأسيسية التي تعجل ظهورها. وفي نفس الوقت، لا ينفصل كل كيان متحقق عن منطقة الافتراضي ويظل مصبوغا به. 
 وفي مقال «الفعلي والافتراضي» يقول ديليوز «ينتمي التحقق إلى الافتراضي. فتحقيق الافتراضي هو التفرد، بينما الفعلي نفسه هو تشكل الفردية. فضمن عملية تميز الكينونة، يلتقط مصطلح التفرد الحركة في اتجاه تحقيق وتزامن درجات مختلفة من الفعلي والافتراضي داخل الكينونة. ويتعلق الفعلي نفسه، من الناحية الأخرى، بالفردي المكون فعلا والذي يظل مفتوحا مع ذلك علي الافتراضي: «الفعلي هو تكملة أو نتاج، موضوع التحقق والذي لا يملك سوى الافتراضي كموضوع له». فالتحقق ينتمي إلى الافتراضي، لأنه يعتمد كلية علي تفاعل القوى التأسيسية التي تكمن وراء المعطى. فالافتراضي هو المكون للفعلي. وفي نفس الوقت، كما وضحنا في أمثلة من مسرحيات تشرشل، يمكن أن يشير الفعلي إلى منطقة الافتراضي في أي وقت. 
 وفي كتاب «ما هي الفلسفة» يتضح أن هذا التوجه نحو الافتراضي له علاقة خاصة بالفوضى. فعلي حد تعبير ديليوز وجواتاري «تتميز الفوضى بغيات التحديدات بدرجة أقل من السرعة اللانهائية التي تتشكل بها وتتلاشى. وهذا ليس حركة من تحديد إلى آخر، يل على العكس، استحالة الاتصال... تعطل الفوضى كل استمرارية في اللانهائي. الإبداع إذن مسألة ابتكار لأشكال الاستمرارية التي يمكن أن تخدم كنظائر للفوضى. وطبقا لديليوز وجواتاري، يصبح العلم والفن والفلسفة ثلاث متغيرات للفكر القادر علي هذا الإبداع : «يتم إنتاج الحقائق علي المستويات التي تخترق الفوضى بطرق مختلفة». والفروق بين العلم والفن والفلسفة ليست فروقا في الطبيعة بل فروقا في التوجه بالنسبة للافتراضي والفعلي. فالعلم يشير إلى توجه نحو الفعلي، ذلك الكائن فعلا. والفن مهتم أيضا بالفعلي، ويلتفت أيضا إلى مناطق الافتراضي التأسيسية ويفتح الفعلي في اتجاه الافتراضي. وعندئذ تتوجه الفلسفة نحو الافتراضي وتكون لها أوثق علاقة بالفوضى. 
 يصف ديليوز الاهتمام بالعلم في مجال الفعلي بأن الشيء «الذي يمر من افتراضية فوضوية إلى حالة راهنة وأجسام تحققه». ويمكن القول أن العلم يتناول الحقيقة الميتافيزيقية للافتراضي ويحولها إلى حقيقة معرفية متاحة للإدراك. وبعيدا عن تعددية فوضاها اللانهائية، فإنها تستخرج الكيانات التي يمكن منحها لطاقاتنا الإدراكية. وبهذه الطريقة، يتخلى العلم عن اللانهائي لكي يكتسب مرجعية قادرة علي تحقيق الافتراضي. والعلم، كوسيط موجه نحو الفعلي، يشير إلى استنزاف الافتراضي وانشغال بالفعلي. ويمكننا أن نقول أن آلية الحبكة الفكرية عند أرسطو تحمل شيئا من هذا التناول العلمي للعالم – إنها تقدم نظرية موجهة بشكل أكبر نحو القيمة الإدراكية أو الاستفسارات المعرفية المرتبطة بحالة معينة. وبرغم من توجهها إلى الفعلي، وفقا لديليوز وجواتاري، فان العلم يظل بالتالي شكلا من الفكر وشكلا من الإبداع. ولاسيما العلم الذي يظهر أن الحالة لا يمكن فصلها عن الإمكانية التي تأخذ تأثيرها منها. 
 وبعيدا عن هذه الحركة من الافتراضي إلى الفعلي، ففي هذه المقاطع تعرفنا علي «التأثير المضاد» ووضحنا ضغط الافتراضي علي حالة الفعلي. وتعد منطقة هذه الكيانات المضادة أو منطقة التحقق المضاد هي مكان الفن بالفعل. وإذا كان توجه العلم من الافتراضي إلى الفعلي، يشير الفن بإيماءة من الفعلي رجوعا إلى الافتراضي. فالمنطق بالضبط هي منطقة البين بين حيث يمكن أن نتحرك بحرية بين الافتراضية والفعلية، والمرور من خلال النهائي لإعادة اكتشاف وتوليد اللانهائي، مع أنه دائما لانهائي في داخل النهائي. والفن يجسد الحدث بدلا من تحقيقه، انه يمنحه جسما وحياة وعالما. ويحمل المسرح بعد الدرامى شيئا من هذا التوجيه نحو الافتراضي الذي ينسبه ديليوز إلى الفن. وبدلا من أن يشغل نفسه بالحالات وبمهمة محاكاة الحقيقة الأدبية التي تقوم علي الفعل، والسببية، أو درجات الاحتمال والضرورة، فإنها تلتفت نحو «ضغط الافتراضي «. وهذا فائض انطولوجي حيوي في الشخصية. إذ تصبح الإمكانية التصنيف المرشد، ويصبح تفاعل الإمكانية والفعلية قيمة استرشادية أساسية. ومثال ذلك مسرحية سارة كين «حنين Crave» (1998) التي توضح كيف يتلاعب ضغط الافتراضي هذا بنفسه.
 في هذه المسرحية المكتوبة لأربعة أصوات غير مجسدين، يتم تعليق إعداد الشخصيات، ويتم تقليل الحوار، والوجود المستقر الوحيد يظل غيابا – وهو المحبوب. ما يدفع الحوار وينشر المسرحية لا يُذكر مباشرة. يتخلل نسيج المسرحية الغياب الذي لا يمكن تسميته مع أنه يستعصي علي كل تعبير. لذلك فان مسرحية «حنين» تتألم من أجل تحقيق الوهم، لكي تستدعي شكل المحبوب. وما يجب تحويله إلى شيء يمكن فهمه لم يتشكل بعد ويظل في طور التكوين. يغيب الوهم، وهو موروث افتراضي، ولكنه يظل مكونا للمعطى. تتأرجح المسرحية بين الواقعي والافتراضي، وبالتالي تكون استحضارا مفصلا للنصي المتغيب. وفي داخل هذا السيناريو، يبدو أن مسرحية «حنين» تلتقط اللحظة الدقيقة للإشارة إلى منطقة الافتراضي التأسيسية. إذ أرى المسرحية كحركة أسيرة بين الفعلية الجزئية والافتراضية التأسيسية التي لا تنفصم عن منطقة الفعلية. 
 وإذا كان العلم مهتم بفعلية الحدث، والفن مهتم بتجسيده وعلاقته بالافتراضي، فان الفلسفة إذن مهتمة بتجريد الحدث. فالفلسفة تريد أن تحمي اللانهائي بمنحه استمرارية، وفقا لديليوز وجواتاري. والملحوظ هنا هو ابتكار مفاهيم في الفلسفة, تكون فيها مهمة الفلسفة استخلاص الحدث من الأشياء والكينونات، لأن الفلسفة دائما تستخلص الحدث الدائم من الحالات. والفلسفة كمجال أقرب إلى الافتراضي، فإنها أيضا المجال الأقرب إلى الفوضى. والمفاهيم الفلسفية هي حالات فوضوية، تلتقط الفوضى التي أصبحت متسقة. فالفوضى تخلق تنويعات لا نهائية. ويمكن القول أن أحد أفكار الحدث التجريدية هذه مازال قائما في المسرح بعد الدرامي. فمن خارج الحركة التي تتكون بالكامل من وسط بدون بداية أو نهاية، تنقي المسرحية بعد الدرامية مناطق التوافق بينما تظل على شفا الفوضى. إذ تعجل جاذبية عملية التوازن بين حالة الاختلاف اللانهائي وحالة التحديد الجزئي. 
 وتوضح لنا مسرحية سارة كين “4:48 اضطراب عقلي 4:48 Psychosis” (عام 2000)كيف تأخذ جزر التوافق الصغيرة شكل الحالة الفوضوية للتنوع اللانهائي. وأنها لا تعمل وفقا لقوانين الأنطولوجيا الدرامية الكلاسيكية بل توضح لنا الحماس المثمر للامكانية. وهنا يواجهنا الوعي الموحد بشظاياه الحائرة : تحدد مسرحية «4:48 اضطراب عقلي» وصف مريضة عقلية بعينها – علي الرغم من أن النص الأصلي يقترح فريقا ثلاثة مرضى وقد أختلف العدد في العروض المتتابعة إذ تراوح بين ممثل واحد إلى أصوات متعددة. ومثل مسرحية «حنين» من عدة وجوه، بل تنحرف المسرحية بشكل جذري عن مفهوم الذوات البشرية المنفصلة، وتسمح للأصوات أداء أي سطر في المسرحية. ويتم تعليق الزمن والمكان. وتظل إرشادات خشبة المسرح غير موجودة عمليا. باستثناء ملحوظة “تنظر” التي تشير إلى الوجود المادي للمتكلم. ويتملص النص من نماذج السرد المترابط، والتطور من خلال تبادل الحوار الذي تتخلله أجزاء أطول من المونولوج. فمسرحية 4:48 اضطراب عقلي» تمزج ثروة من التجربة التي تظل مع ذلك غير حاسمة وواضحة جزئيا فقط. 
 وهنا يتم التعامل مع الطبيعة العرضية للذات بجانب الاختزال التدريجي وخاصية الفردية. ففي حين أن النطق في المسرحية نطق حواري، فمن غير الواضح ما إذا كانت هذه الأجزاء تعالج ذاتية غير ذاتية المتحدث. فكل نطق يفتح مجموعة متنوعة من السيناريوهات التي تظل رغم ذلك كامنة فقط. كما أن الإشارات إلى عالم خارجي معلق جزئيا – كما في الأجزاء الحوارية التي تشكل وصفا متنافرا للتبادل الحواري بين مريض ومعالج – أو غائب، كما في مقاطع الانهيار في صمت أو التألق في إيماءات الاختفاء (مثل: «شاهدني وأنا أتلاشى»). والفراغات في شكل «صمت» في حوار غير اتصالي وغير مشارك، أو إشارات إلى التحلل الذاتي – يقتحم باستمرار أجزاء السرد المنفصلة. توثق المسرحية بشكل ما الحذف المطرد للذات التي تنظم اختفائها. وهنا يولد الانتقال إلى الافتراضية النهائية لغة قليلة ذات كثافة ومستوى من التقلص يقترب من الشعر، والصفحة الفارغة. 
 هذا أيضا هو مكان دراما الامكانيات. وهنا، يشارك، العلم بانتمائه إلى المرجع، والفن، بتعاقد اللامتناهي مع المتناهي، والفلسفة، بتوجهها نحو الافتراضي، في ظهور الجديد بشكل متساو. فالتجديد، أو إعادة التشكيل الابداعي لحالة معينة، أمر ممكن بسبب احتمالية قابلية الواقع للاختراق والانفتاح على الافتراضي. وتلعب دراما الامكانيات هنا بنفسها علي السطح المشترك بين الافتراضي والفعلي. إنها في نفس الوقت تجريد الحدث وانفتاح تجاه جانبه الافتراضي، بينما تظل مرتبطة بمنطقة الفعلية. فدراما الامكانيات ليست دمج الفن وفلسفة الإبداع فقط، بل أيضا دمج العلم في إعادة توجهه الابداعي من الفعلي. 
.....................................................................................
• نشرت هذه المقالة في Journal of Dramatic theory and criticism, fall 2016
 • زورنيتسا ديمتروفا تعمل أستاذا للأدب الانجليزي والفلسفة في جامعتي صوفيا وفرايبورج.


ترجمة أحمد عبد الفتاح