العدد 768 صدر بتاريخ 16مايو2022
وفي لحظات التفاعل يقوم المقهور بالإقدام على مواجهة القمع؛ الذي يعاني منه من يعيشون تحت حكم الأنظمة الديكتاتورية.
عرفنا من المقالات السابقة أن العرض “التفاعلي” يضم ممثل يقوم بدور القاهر، وممثل يقوم بدور المقهور - وأثناء جزء التفاعل المسرحي يقوم (المشاهد \ الممثل) بأخذ دور المقهور لمواجهة القاهر- وجوكر، والجوكر هو مدير العرض المسرحي، والمتحكم فيه ولديه كافة الصلاحيات؛ حتى وان وصل الأمر لإيقاف العرض المسرحي؛ أو أن يطلب مثلا من الممثلين إعادة إحدى المشاهد المسرحية؛ كما حدث مع المخرج المسرحي عمر أبو سعده في إحدى المرات.
ومن خلال تجربتي المسرحية أكاد أجزم بان الجوكر لابد أن يكون شخص مسرحي؛ أي لديه خبرات تمثيلية وفنية؛ كي يتمكن من إدارة العرض المسرحي بكفاءة؛ إلا أن الفنانة الكبيرة نورا أمين أحد أهم المشتغلين بمسرح المقهورين؛ قامت بتدريب وإعداد الجوكر أحمد سالم، والذي ألتقيته منذ سنوات طويلة بجمعية الجزويت والفرير بالمنيا، وقتها أخبرني “سالم” أن قيامه بالتمثيل، ولعب دور الجوكر المسرحي هي أولى تجاربه المسرحية على الإطلاق؛ تناقشنا في تجربته طويلا وافترقنا؛ لألتقيه مرة أخرى بالإسكندرية؛ وقتها كنت احضر مهرجان المسرح العربي المستقل، والذي ينظمه د. محمود أبو دوما مؤسس تياترو إسكندرية، حكي لي “سالم” باستفاضة عن تجربته في مسرح المقهورين، وقتها أيقنت أن “أمين” كانت أنجحنا في تحقيق معادلة أوجست بوال بجعل مسرح المقهورين (للممثلين ولغير الممثلين)، ولكن هذا لا ينفي أن “جوكر” نورا أمين كانت لديه سمات خاصة؛ ربما كانت هذه السمات هي التي دفعتها لاختياره؛ فهو ممشوق القوام لديه حضور مسرحي وكاريزما خاصة في الكلام؛ بلغة الفن «كراكتر»؛ كما انه قريب من الوسط الثقافي، ولديه مهارات عقلية مكنته من لعب هذا الدور بسهولة شديدة؛ رغم انه لم يقم بالتمثيل من قبل، وهو ما لم أشاهده فيما بعد؛ فطوال تجربتي بمسرح المقهورين لم أقابل أي «جوكر” مسرحي إلا وسبق له التمثيل المسرحي قبل ذلك؛ أو على أقل تقدير كانت له علاقة وطيدة بالمسرح.
تبدأ مهمة الجوكر قبل أن يبدأ العرض المسرحي التفاعلي؛ فيقوم بالتواجد وسط الجمهور، ويقدم لعبة تنشيطية ليس فقط لكسر الحاجز؛ إنما كنوع من التأسيس لما سيحدث فيما بعد.
بعدها يقوم «الجوكر» بتعريف العرض للجمهور، وبتقديم الممثلين؛ يقوم أيضا بالتعليق على المشاهد وبربط الأحداث المسرحية، وبالتدخل لو حدثت مشكلة أثناء العرض؛ كأن يطلب من الممثلين إعادة المشهد لو لاحظ عدم فهم الجمهور، أو يعيد هو شرح المشهد؛ خاصة لو كان هذا المشهد هو المشهد الثالث أي مشهد النهاية؛ فهذا المشهد سيكون فيه اليوم الاستثنائي بين القاهر والمقهور، ولا بد أن ينتهي المشهد على خلفية ذروة صراع بشكل مفتوح يمكّن الجمهور من اقتراح حلول، وقتها أي بعد أن يصل العرض المسرحي إلى النهاية المفتوحة يظل الممثلين واقفين على المسرح، ويبدأ الجوكر في التحدث إلى الجمهور؛ ليقول مثلا: لو أنت مكانه\ها – يذكر اسم المقهور في العرض المسرحي- هتعمل إيه؟ أو يقول: حد عنده حل؟ أو يقول: فيه حد من اللي قاعدين اتعرض لمشكلة زي دي؟ ...إلخ.
وقتها سيبدأ الجمهور في التحدث والنقاش واقتراح الحلول، وفي هذه اللحظة يطلب “الجوكر” من المتحدث الصعود إلى خشبة المسرح ليأخذ دور المقهور ويواجه القاهر، وبهذا لا يصبح المسرح مجرد مكان للفرجة ومكان للعرض وغرض للفرجة، وهذا ما أكده الفنان الكبير أحمد مختار، والذي أضاف عنصر رابع وهو رؤية المخرج.
والمخرج هُنا والذي اعتبرته أنا في هذا النموذج المسرحي هو «الجوكر».
قال لي «مختار» أثناء حواري معه: دعنا نتفق أن المسرح بشكل عام أداة للتغيير، ولكني أرى هذا المسرح بشكل مختلف؛ أراه أسمى من مجرد دعوة للاحتجاج، ولكن الإشكالية الحقيقة تكمن فى أن الفن عمل خالد يعيش للأبد؛ فهو غير محدود بمكان وزمان، ومسرح المقهورين هو وسيلة جيدة للتفاعل مع الجمهور، ولكن أفضل الأعمال الفنية التى تبقى داخل الجمهور وتؤثر فيه وتغيره هي أعمال لا تحتاج للمباشرة، ومن هذا المنطلق نستطيع القول أن»اوجست بوال» رائد عظيم للعمل مع غير الممثلين وتحويلهم لعناصرفنية.
ما قاله «مختار» يتفق مع جوهر هذا اللون المسرحي ف «الجوكر» طبقا «لأوجست بوال» لا يفترض فيه توفر خبرة تمثيلية أو مسرحية؛ لان هذا المسرح (للممثلين وغير الممثلين)، ولكن هذه المعادلة لم تتحقق بشكل عام؛ بل أن قيام غير الممثلين بتحمل مسؤولية عرض مسرحي لم تحدث إلا في أضيق أضيق الحدود من خلال ورش مسرحية تلقاها متدربين ليسوا فنانين ولا مسرحيين على يد فنانين مسرحيين، وخرج وقتها أي أثناء الورشة العرض المسرحي ودمتم، وهو أمر متوقع لأننا في النهاية نتحدث عن فن؛ فكيف لغير مؤهلين فنيا؛ بل لغير فنانين من الأساس القيام بكتابة نص مسرحي وتمثيله على خشبة المسرح وعرضه للجمهور بل ومناقشة قضايا حساسة بدون أن تحدث مشكلة؟، وبذلك أرى أن «بوال» لم يُفهم جيدا في مصر، وتحديدا من قبل المشتغلين في التنمية؛ فعندما أطلق «بوال» جملته الشهيرة مسرح المقهورين (للممثلين وغير الممثلين)؛ كان في تقديري يقصد بغير الممثلين النظارة أو الجمهور في لحظة التفاعل فقط؛ أي يقصد أن الجمهور يتعلم التفاعل من خلال الفن بالتمثيل داخل العرض المسرحي في الجزء الخاص بالتفاعل، وبذلك يصبح المسرح للممثلين وغير الممثلين.
وذلك لأننا في الأول وفي الأخر نتحدث عن مسرح والعملية الفنية لا تنتقل بالعدوى ولا بالتنظير ولا بالنقاش ولا بالنوايا الحسنة ولا بالحسابات؛ هي عملية فنية لها أسس تبدأ من الفكرة ثم كتاباها ثم تجسيدها على الخشبة من خلال «جوكر» يُخرج العرض؛ فالفن بدايته موهبة، ولذلك لن تجد جوكر إلا وكانت لديه موهبة فطرية تمكّنه من الارتجال والتفاعل مع الجمهور، ومن ربط الأحداث، والتعليق عليها، ولكن بشكل محايد ف «الجوكر» المسرحي غير مسموح له عرض وجهات نظره الخاصة، ولا يُفضّل أن يقوم بالتمثيل، ولو حدث ومثل لا يأخذ دور المقهور؛ لان هذا الدور سيأخذه الجمهور، والذي سيشاهد نفسه وسيشاهد مشكلته؛ بل سيشاهد قاهره أمام عينيه.
أتذكر في إحدى العروض المسرحية بكت إحدى السيدات ونحن نعرض قضية «نور» تلك البطلة التي كانت تقع فريسة قهر زوجها؛ الذي يهينها باستمرار ويعنفها ويضربها؛ “نور” عرض مسرحي أخرجه مؤسس فرقة تياتور، والذي اصبح اسمها فيما بعد فرقة «الجوكر» المخرج بيشوي عادل مكرم، والذي له باع طويل جدا بالعمل بهذا اللون المسرحي.
قيام هذه السيدة بالبكاء قبل حتى أن يحدث التفاعل يؤكد ما كتبه «بوال”: (فهو مسرح بواسطة مقهورين من أجل مقهورين لذلك يناسب دول العالم الثالث).
وذلك لان دول العالم الثالث لديهم مشاكل مجتمعية، وُلدت من رحم قضايا جدلية جعلت من كثيرين منهم مقهورين أمام قاهر مستفيد من قهره، ومع الوقت تماهوا معه؛ فترسخ القهر واستقر وأصبح معتاد لدرجة انه أخذ شرعية وأصبح من العادات والتقاليد؛ كالختان مثلا تلك القضية الشائكة شديدة الحساسية أو كالميراث؛ ففي صعيد مصر الفتاة لا ترث في الأرض (الطين يعني) لكن تأخذ نصيبها نقود، وذلك لان زوجها ليس من صلب العائلة والعادات والتقاليد تمنع أي شخص غريب يرث في أصول وعقارات وأراضي العائلة؛ التي بهذا الشكل وبهذه الطريقة تقهر أبناءها؛ الذين يشاهدون أنفسهم على خشبة المسرح؛ فيتدربوا على مواجهة القاهر.
وبهذا يصبح هذا اللون المسرحي تحريضيا تعليميا تفاعليا.
ف الجمهور الحاضر للعرض التفاعلي يكون من مكان واحد يعاني نفس المشكلة؛ فهو مسرح موجه؛ ُتكتب نصوصه لمناقشة مشكلة محددة، وبذلك القضايا التي يطرحها هذا اللون المسرحي قضايا محلية شديدة الخصوصية تختلف من مكان لآخر ومن بيئة لأخرى؛ حتى معنى كلمة «جوكر» كانت محيرة للمخرج المسرحي البريطاني ادريان جاكسون، والذي شكا من معنى الكلمة؛ فهي لا ترتبط بثقافة محددة، وهي مشتقة من أصول لغوية تعني السخرية والتنكيت؛ لكن الترجمة العربية كانت أكثر رحابة؛ لان «الجوكر» في ثقافتنا المصرية مرتبطة بلعبة الورق؛ فهو أحد كروت «الكوتشينا»؛ وهو يحل محل أي ورقة؛ فعرفنا بطبيعة الحال أن كلمة «جوكر» تعني الأهم.
والأهم في هذا اللون المسرحي هو التغيير؛ الذي يتم من خلال تفاعل الجمهور، وطبقا لنظريات «فريري» في التربية، وممارسات «بوال» في المسرح؛ فان «القمع» سمة أساسية في علاقة القاهر والمقهور، وفي لحظات التفاعل يقوم المقهور بالإقدام على مواجهة القمع؛ الذي يعاني
منه من يعيشون تحت حكم الأنظمة الديكتاتورية.
فمشاكل المقهور تشكل له قلق حقيقي وخطر كبير يعاني منه؛ حتى وان اعتاد القهر وتماهى مع القاهر؛ لانه سيظل هناك يوم استثنائي سينفجر فيه المقهور ضد القاهر، وهو ما يجسده هذا اللون المسرحي من خلال نصوص تناقش قضايا حياتية آنية، وبالتالي فان هذا المسرح لا يقدم نصوص مسرحية هدفها المتعة؛ كما انه لا يقدم عروض مسرحية كونية، وهذا لا ينفي أهميته ولا يقلل من احتياجنا إليه، وهو ما أكده المخرج الراحل د.محمد عبد القادر: نحن في مرحلة حساسة من تاريخ مصر؛ فأرى أن هذا اللون المسرحي هو الأنسب؛ فنحن في مرحلة المتفرج الفاعل.
ما قاله «عبد القادر» وهو نفس ما أكده لي عمر أبو سعدة، والذي يرى أن مسرح المقهورين شكل من أشكال التفكير.
يرى «أبو سعدة» أن جزء التفاعل هو أهم اختلاف بين المسرح التقليدى ومسرح المقهورين. ربما هذه النقطة هي ما جعلت «عبد القادر» يؤكد أن مسرح المقهورين مسرحا فنيا وليس تنمويا. وبحسب «عبد القادر» فلهذا المسرح جمالياته المختلفة عن المسرح التقليدى.
ورغم كل ذلك يستمر السؤال هل مسرح المقهورين فن مسرحي قائم بذاته؟؛ أم هو أداة مسرحية تربوية تعليمية؟ أم هو فن تعليمي؟ وهل تخطى ذلك ليصبح أداة للعلاج النفسي؟
ونستمر في تفسير فلسفة «فريري» وعرض تجربة «بوال» وتطبيقاتها وممارساتها وطبيعة القضايا التي يناقشها وشكل التدريبات المسرحية التي يخرج من رحمها النص المسرحي علنا في نهاية الأمر نصل لإجابة واضحة.