مسرح مولير وتصوير النماذج الإنسانية

مسرح مولير  وتصوير النماذج الإنسانية

العدد 798 صدر بتاريخ 12ديسمبر2022

تمهيد
سنحاول أن نلقي الضوء على جوانب من مسرج موليير، ونتحدث عن مسرحه، على اعتباره كان ممثلا وكاتب نصوص كوميدية ومدير فرقة مسرحية ومنسق ميزانسين عروضه. سنتوقف قليلا عند إشكاليات نص ترتوف  كنموذج من أعماله الابداعية، التي خضعت للكثير من التحليلات والنقد في فرنسا و أوربا لأربعة قرون مضت، وذاع سيطه وانتشر في العالم.
نبدأ بسؤال جوهري: ما هي الخلفية التربوية الثقافية والاجتماعية والفنية التي تغذى منها موليير وجعلته أن يكون مسرحيا مبدعا  معروفا في تاريخ المسرح الأوربي، كما عُرف وكما نعرفه نحن؟
نجد، من وجهة نظرنا هناك ثلاث مرجعيات أثرت على تكوينه وإعداده الانساني والفني: انتمائه لعائلة برجوازية صغيرة، حيث ولد فيها من أب كان يعمل نجّادا لفراش الأثاث المنزلية في القصر الملكي. وعمل موليير في دكان  أبيه في باريس منذ صغره حتى  14 سنة من عمره.
 والمرجعية الثانية هي التعاليم اليسوعية التي حصل عليها في كولج يسوعي وبقي فيه لحد أن أكمل 19 سنة من   عمره. ومن المحتمل أنه اهتم بالمسرح أثناء دراسة فيه. من المعروف كان هناك منذ القرن السادس عشر تمارين ضمن منهاج المدرسة اليسوعية خاصة لتعليم  المريد، وضعها مؤسس الطريقة القس انياتسيو دي ليولا، لتربية وتوجيه المريد، ونجد فيها تمرين خاص للتأمل حول نماذج بشرية ثلاثة: الغني الذي يكدّس المال، والغني الذي يريد أن يتمتع بماله والغني الذي يتزهد وينفك عن الطمع بالمال من أجل حب وطاعة وتواضع المسيح. وكان يتم في الكوليج، أيضا، دراسة الللاهوت والفلسفة والمسرح والقانون (والفقه الديني).
أما المرجع الثالث، والمهم، هو انتمائه لفرقة من مسرح كوميديا ديللارته تسمى جيولوزي (الغيارا)، التي كانت تقدم عروضها في مسرح هوتيل بورغون (أول قاعة مسرح مغلق تم تجهيزها في باريس) وتعلم منها البانتومايم وفن التمثيل، على يد ممثل نابوليتاني كان يعمل في الفرقة  يدعى تبيريو فيوريللي (الملقب سكارا موجو).
مسرح المسرحي موليير
من المحتمل أن ميل موليير نحو المسرح قد ظهر أثناء دراسته في الكولج اليسوعي، ومن ثم انتمى بعد ذلك لفرقة شبابية في (1643) تسمى المسرح اللامع (كان عمره 21 سنة). كان بين اعضائها أختين، مادلين وجنفنيه، وأخ لهما جوزيف بيجار. كانت مادلين تمثل أدوار المرأة الأولى في عروض الفرقة، وكانت تعاني من شهقة متكررة وتلعثم في نطق الكلام، وكان ذلك يؤثر بوضوح على تمثيلها في العروض التراجيدية ولا يؤثر أو يبرز بوضوح أثناء تمثيلها في العروض الكوميدية. عشق موليير مادلين وتزوجها.
 تؤكد لنا الوثائق التاريخية ( كما في كتاب تاريخ المسرح  للايطالي سلفيو دي ميكو ـ مؤسس أكاديمية الفنون الدرامية في روما 1936)  أن الفرقة لم تحصل على نجاح في العروض التراجيدية التي قدمتها في مسرح هوتيل بورغون ولم يتقبل الجمهور تمثيل موليير وعبّر عن رفضه بالصراخ والصفير. (م 5، ص  259) ولكن صفق نفس الجمهور في تمثيله الكوميدي.
 انتقل موليير إلى ليون وأصبح مدير لفرقته المسرحية، و ترك خلفه وابل من الديون. وتوجه  كليا نحو المسرح الكوميدي واستطاع خلال 12 سنة أن يُعدَ نفسه في التمثيل أو التأليف وتنسيق العرض، وحصل على أول نجاح  في سنة 1655. من خلال تقديم عرض  مسرحية  المذهول (ايتورديه) من تأليفه (استقى موضوعه من نص الايطالي نيكولا باربيري ، ممثل ومؤلف كوميدي ايطالي ـ  1576 ـ 1641 ـ  كان يعمل في فرقة كوميديه ديللارته تدعى الغيارا ،عملت في باريس وتعلم منها موليير فن التمثيل وعمل بعد ذلك مع فرقة كونفديني الموثوقون) وعرضه امام حاشية الملك لويس الثالث عشر في البلاط وحصل على نجاح كبير. (م ، السابق )
ودعى الملك موليير للمجيء إلى باريس للعمل في مسرح بيتي بوربون تم تجهيزه للعروض الكوميدية، وبدأ يقدم عروضه فيه بالتناوب مع فرق كوميديه ديللارته. وحصل على  نجاح باهر من الجمهور، بعد ذلك، طوال حياته. قام  موليير (في سنة 1658) بتقديم عرضين في القصر الملكي أمام الحاشية والملك لويس الرابع عشر، الذي كان في شبابه يكنّ حبا خاصا للعروض الكوميدية ورقص الباليه : عرض من تأليف بيير كورنيه، بعنوان نيكوميده، من خمسة فصول، وعرض فارس الطبيب العاشق، نص من فصل واحد كتبه نثرا واستقى موضوعه من المؤلف الايطالي باربيري الذي ذكرناه. (م،5، ص 268)
 وبدأ الحسد يدب في نفوس بعض الحاقدين عليه من الأدباء الكلاسيكيين المتحذلقين في خطاباتهم، لموقعه المتميز ونجاحه الباهر وبسبب عدم خضوعه للمعايير السائدة في النصوص الكلاسيكية الجديدة لحد تقديم آخر مسرحية له مريض الوهم ونزف دما على خشبة المسرح وتوفي في بيته.
قلنا أن موليير كان ينتمي لطبقة برجوازية وله تربية دينية يسوعية، لكن كان له موقف المتهكم على طبقته وعلى سلطة وجراراكية القساوسة، وكان مناهضا لحكم  طبقة النبلاء، الذي قوّضت أركانه الثورة الفرنسية التنويرية وأزالت هيمنته في المجتمع. لكنه اقترب من حاشية البلاط  والأمراء والملك.
  كان موقف موليير المناهض واضحا، أو متضمرا، من ثلاث قوى متنفذة في المجتمع الفرنسي في القرن السابع عشر: مناهضا لهيمنة لمعايير قساوسة وحكم الكنيسة على شؤون السياسة والمجتمع. وضد طبقة النبلاء المتكلسة في سلوكها المتعالي على الشعب. وكان ناقدا ثاقبا لسلوك طبقته البرجوازية الصاعدة التي كان ينتمي اليها وسخر منها ومن أتكيتها وتصنع وتحذلق رجالها ونسائها، ومحاولة بسط سلوكياتها على المجتمع.
 وقد برزت أفكار ومواقف موليير الاجتماعية والانسانية والفنية في طريقة تناوله لمواضيع نصوصه وفي رسم كركترات شخوصه المسرحية  كنماذج (تيب) انسانية، كاريكاتورية أحيانا، وكركترات كوميدية ساخرة، أحيانا أخرى، وكذلك في طريقة تعريته لأخلاقيات تلك النماذج  من الطبقات الصارمة أو المراوغة والمهيمنة في زمنه. لكنه تمكن ، في نفس الوقت، خلق نماذج فنية مسرحية مفتوحة نحو شمولية طباع الانسان في كل زمن ومكان.
نماذج الطبيعة الانسانية
تناولت الدراسات  في تاريخ المسرح الأوربي في مجال  التنظير في الأدب الدرامي أو المسرح إشكالية مفهوم الشخص والشخصية وعلاقتها بالممثل والتمثيل. وقد رافق ذلك مناظرات جدلية ونوع من النزاع في الرؤى. وقد ترك ذلك أثره، في تاريخ المسرح على طريقة التفكير والتطبق المسرحي. وتؤكد الدراسات الانثروبولوجا وعلم الاجتماع، مثل بحث الفرنسي مارسيل موس حول مفهوم الشخص في تاريخ الثقافة والمجتمع في أوربا.(م، 7، ص 130ً)  أو بحوث ودراسات المفكر الفرنسي ميشيل فكو في اركيولوجية المعرفة على: أن مفهوم الشخصية قد برز بالتدريج، وأخذ موقعه في الثقافة والفكر المجتمع الاوربي، كصيغة واضحة، بعد عصر النهضة، لكنه أخذ أهميته ومركزيته، وتوطد في عصر التنوير في فرنسا واوربا في القرن الثامن عشر.
 وبناء على ذلك، يمكن القول، من وجهة نظرنا، أن «الشخصية» في أعمال موليير هي أقرب مما يسمى  النموذج الانساني (كما شخصها يونغ، أو جيمس هلمان وكما نجدها في التعاليم الروحانية) أو كما تسمى الكركتر بمعناه الاتيمولوجي في اللاتينية، أثر انطباع، يبرز في الفرد. ويُرى في ميول وسلوك الشخص. (وليس بمعنى الشخصية كما في اللغة الانجليزية). وتظهر شخوص كوميديا موليير بصورة كركترات مسرحية حيوية مبنية بماهرة حرفي (ارتسان) في التمثيل والتأليف المسرحي،  كما هو معروف.
ويقول بارث في مقال كتبه حول المسرح الاغريقي ضمن كتاباته النقدية «لا ينبغي أن ننسى أن «الشخصيات» ( هو مفهوم حديث، طالما أن راسين كان لا يزال يدعوها «الممثلون»، وقد خرجت بالتدريج من جمهرة غير محددة  أي من الكورس» (...) وكانت النصوص الدرامية الإغريقية القديمة في القرن السابع والثامن عشر النبع الأساسي الذي استقى منه مؤلفين الدراما عندنا: (...) وقد قام راسين، كما هو معرف، بوضع ملاحظاته بكل عناية، حول الفقرات المتعلقة بالمحاكاة والتراجيديا في صفحات فن الشعر لأرسطو (...). (م 1، ص 85)
 ونجد، من جانب آخر،أن  بعض الكتابات في عصر النهضة الايطالي كانت تسمي شخوص المسرحية «أبطال» بدلا من الشخصيات.
وتحدد مفهوم الشخصية عند المنظرين والمؤلفين ما بعد فترة الكلاسيكيين في فرنسا. .
ويظهر سلوك  النموذج (تيب) الانساني أو طباع  الكركتر، في الحياة، أو في المشهد المسرحي، من خلال أفعاله وعلامات تتجسد في الوضعيات والمواقف الجسدية والحركة والايماءة نسبة إلى ميوله الطبيعية وتربيته المكتسبة من الواقع الاجتماعي والثقافي. ويتميز كل نموذج بخصال في طبيعته تظهر في سماته وسلوكه كعلامات مطبوعة ومرسومة في وضعياته الجسدية وفي دينامكية الجسم وقوته وفي حركاته و ايماءاته وتعابير وجهه. (م 2 ، ص  127)
يندرج سلوك الانسان في النموذج الانساني  بغض النظر عن المكان والزمان. وهناك نماذج انسانية ثابتة تتكرر، مثل تلك التي كان يعمل بموجبها ممثل كوميديا ديللارته: مثل البخيل أو الشجاع أو الخائف المتردد، أو المراوغ المتحايل، والمتملق والمنافق والثرثار والرومانسي الحالم. ويمكن تشخيص كل هذه المميزات في كركتر الفرد في الحياة وتجسيدها في  تمثيل المشهد المسرحي.
نعتقد، من المحتمل أن موليير قد تعرف على طبيعة النماذج أثناء دراسته اليسوعية أو أخذها من خلال عمله مع فرق ممثلين كوميديه ديللارته، بالرغم من عمل الكوميديا دللارته، كما هو معروف، على ما يسمى «النماذج الثابتة». مثل العجوز البخيل أو الشاب العاشق الولهان والغيو أو الكابتن المتهور، أو الخادم المنافق والمراوغ، الخادمة اللعوبة والمتملقة والمرأة المغرية والمتعلم الثرثار والمتبجح، التي جسدها ممثل الكوميديا المرتجلة من خلال توظيفها في نسيج مواضيع (سيناريو) عروضهم الكوميدية.
كان موليير الممثل والمؤلف ومنسق العرض يشبه ممثل فرق الكوميدية ديللارته الذي كان، أيضا، مؤلفا لسيناريو العرض وتكوينه الشعري (بويتكا) تاذي يتم انجازه في لحظة تجسيده على خشبة المسرح (ليس كتفسير لنص من نصوص مؤلف آخر). وذلك من خلال الفعل والإيماءة الكلام المنطوق وتحقيق تصور مواضيع فنية بنوعية نسج لا تختلف عن النوعية التي يمكن أن تستدعيها كلمات المؤلف ــ الممثل، موليير.
وتؤكد الشواهد التاريخية أن ممثلين كوميديا ديللآرته قد ابدعوا ونجحوا في عملهم، سواءً على مستوى العمل في التمثيل المدروس أو في الكوميديا المرتجلة أو في فن الارتجال أو كتابة سيناريو العرض. وجذبوا الجمهور بفنهم االتمثيلي والموسيقي والراقص.
وكان حضور النساء في العرض عنصر جذب جديد في تلك الفترة التي عملت فيها بعض الممثلات مثل فكتوريا بيسي، و فينجنسا أرماني التي حصلت على التقدير في كتابة ونشر شعرها، الممثلة والشاعرة ايزابيللا أندريني، زوجة أندريه باربيري الممثل والمؤلف في فرقة جيلوزي التي كانت تقدم عروضها في مسرح هوتيل بورغون في باريس ، والتي عمل فيها موليير. (م 8 ص 320)
 وهكذا بدأت مزاولة الحرفة في الفرق المسرحية في إيطاليا على طول السنة، كما زاول ذلك الممثل موليير وفرقته المسرحية، وذلك هو ما جعلها أن تختلف عن عمل الأكاديميين الذين كانوا يقدمون أعمالهم في المناسبات فقط،. و من هنا بدأ المسرح الإحترافي الحديث (في أوروبا) واستمر ذلك، ولا يزال.  
«وقد دفعتهم طريقة عملهم المهنية للقيام بذلك، وطريقة توظيف الارتجال في التمثيل في عروضهم، وبحثهم عن التنويع  في الأعمال التي تزايد الطلب على مشاهدتها من قبل الجمهور، الذي كان يبحث عن نوع من العروض المسرحية الفنية المشوقة و المصنوعة بشكل جيد». ( نفس الصدر السابق، ص 313)
ونرى، أن ارتباط مسرح موليير بالنماذج الإنسانية أو الكركتر أو طباع الانسان وميوله وسلوكه الفردية، هو الذي جعل، أن تكون شخوص مسرحياته مفتوحة وغير محددة بإطار مجتمع وثقافة معينة، وجعل نصوصه ـ عروضه ـ أن تجذب  الجمهور وأن  تنتشر أكثر من نصوص كورنيه الأدبية الراقية، أو نصوص راسين التي ركزت على  شخوص من تراجيديا طبقة النبلاء. وذلك هو ما جعلها أن تكون أكثر تناولا وتأثيرا في المسرح (كما نجد تأثيرها على المسرح عند العرب منذ أن ترجم بعضها وقام باعداده صياغتها مارون النقاش وعرضها في بيروت) وكما نجدها في اخراج المسرحيين في القرن العشرين مثل اخراج ستانسلافسكي في فرقة مسرح الفن في موسكو وفي اخراج الفرنسي لويس جوفيه لمسرحية طرطوف في فرنسا.
 وذلك هو ما يظهر لنا عمل موليير في كونه كتب شعرا ونثر متميزا في تكوين حالات نصوصه الكوميديةـ  من أجل أن تقدم مباشرة على خشبة المسرح وليس للنشر على الورق .وعمل طوال سنين عمره في تقديم عروضه لجمهور يدفع اجور تذاكر المشاهدة، واقترب في ذلك من  عروض مسرح كوميديه ديللارته (المباع كما كانت تسمى) . ويعتبر ذلك هو أول مسرح احترافي  في أوربا، ترك أثره، في جوانب عديدة، على المسرح الحديث.
نص ترتوف ورؤية المخرج المسرحي
 سنتوقف عند نص ترتوف ورؤية إخراجه التي كتبها المعلم المسرحي الفرنسي لويس جوفيه في مقال بعنوان  لماذا اخرجت مسرحية ترتوف تمهيدا لعمل ميزانسين لعرض المسرحية  ونشر ضمن كتاب  مديح اللا انتظام (صدر باللغة الايطالية من ص 207 لحد ص 252 ) و قام فيه بتوثيق مستهب حول اشكاليات ومشاكل  واجهها موليير في تقديم عرض مسرحية ترتوف،. ويذكر عشرات الأمثلة عما كتب عنه في تلك الفترة من تهكم و طعن ونيل من سمعته، والمشاكل التي رافقت المسرحية ،والصورة التي انتشرت عنها في القرن العشرين.
وسنعتمد من جانب آخر على مقال المعلم المخرج الفرنسي جاك كوبو كتبه في سنة 1943 حول نصوص موليير، بعنوان موليير المضحك، نشر ضمن انطولوجيا كتاباته (في كتاب صدر بالايطالية تحت عنوان جاك كوبة مكان المسرح انطولوجيا كتاباته).
يظهر لنا من خلال قراءة ما كتبه كلا المخرجين بعض المفارقات التي  توضح لنا جوانب من اشكاليات في مسار موليير كمؤلف لنصوص مسرحية و كممثل مسرحي ومنسق تحقيق عروضه.
لننطلق من مقطع مما قاله جاك كوبو:
« لم يكن موليير في بداية عمله كاتبا مسرحيا. كان ممثلا، وتدرج في الكتابة و اندهش هو نفسه من ذلك. كتب لاول مرة تمهيدا حول السخرية، ونشره رغما عنه، وكتب في قوله ساخرا «أيها السادة المألوفون إنني أشارككم باخوتي معكم ( ...)» وتوقد  فيه ولع الحرفة بكل قساوتها منذ شبابه، ربما منذ فترة دراسته في الكوليح» (...) وقد صعد على خشبة المسرح وعمره 25 سنة لعشقة لممثلة.  لم يخلو ذلك من الفشل والسجن وقضاء أربع عشرة سنة في دفع الديون التي تراكمت على كاهله في بداية حياته. وبعد الفشل الذريع  مع فرقته المسرح اللامع، ترك باريس مع أصدقاءه، جوزيف ومادلين وجنيفيف بيجار. وقضى في الضاحية اثنتا عشرة سنة ليقوم بتكوين نفسه بعمل ثلاثي، كاتب مسرحي ومدير فرقة وممثل.
و قد ظهر لأول مرّة كممثل أمام سعادة الملك في 24 اكتوبر من سنة 1658. ومات على خشبة المسرح ، أو بدأ في موته ـ  في شتاء 1672». (م 6 ص 145)
ويظهر بوضوح معاناة موليير و صبره وعناده في الدفاع عن مسرحيه ورؤيته وفي مواجهة أعدائه الذين حاولوا الاطاحة به. والنيل من سمعته كانسان  ـ رجل مسرح ـ ممثل بارع.
ويعلمنا  لويس جوفيه في  مقاله حول ترتوف، أن المسرحية، هي أكثر النصوص التي تم الحديث عنها وتحليلها عبر التاريخ ، وأثارت الكثير من النقد والدارسات التي لا تحصى، منذ أن كتبها موليير وقدمها لأول مرة في يوم 12 مايو من سنة 1664 وكانت مبعث جدل لم ينتهي. وقد قال كل واحد قوله وعلق على النص،. وطهر منذ ذلك الحين قضية تسمى قضية ترتوف.
 وقد تم تقديم العرض في قصر فرساي ضمن متع الجزيرة الساحرة وحصل عمل موليير الجديد من ثلاثة فصول  على تصفيق حاشية البلاط. ثم تم  بعد ذلك منع تقديم العمل لعامة الجمهور وانحصر على جمهور الخاصة فقط  بامر من مون سينيور (القس) الشقيق الأوحد للملك». (...).(م، 6 ص 236)
 كتب موليير بعد ذلك نصوص أخرى لعرضها: الأميرة اليده (نوفمبر 1664 و دون جوان 1665 عشق الطبيب  1665 و طبيب رغم انفه (1666) والصقلي 1667، ثم، قام بمحاولة ثانية لتقديم ترتوف في مسرحه وعمدها بسم آخر كوميديا بانلوف في خمسة فصول، وبعد العرض الأول تم منعها مرة أخرى.  ثم قدمها مرّة أخرى في عرض خاص لمون سينيوريه امير شانتيليه (في سبتمبر 1668). وكتب بعدها نصوص أخرى، وفي نهاية الأمر حصل على تصريح  ملكي بالسماح له بتقديم العرض (في 5 فبراير 1669 ) في القصر الملكي.
وقد انتظر موليير، حسب قول جوفيه، « 4 سنوات و 8 اشهر و 24 يوم لكي تقدم مسرحيته لست مرات فقط.. وقد دأب في انتظاره على كتابة  وتقديم  تسعة أعمال. وبعد ذلك استطاع تقديم عرض  ترتوف بلا انقطاع  من ابريل سنة 1669 وبشكل متواصل وبدون انقطاع . ويحصي كوبو المرات التي قدمت فيها المسرحية  114 عرض،  وكان آخر عرض في سنة 1672. وحصل موليير من ذلك على مبالغ  كبيرة لم يحصل عليها من قبل ذلك. واثار منع عرض طرطوف كل هذه السنين، وعدم معرفة سبب المنع  كثيرا من الترقب والتطفل حول الهالة الكبريتية التي وصلت رائحتها لحد اليوم. (م 4 ، ص 273)
ويذكر جوفيه عشرات المقالات التي نزلت على العرض بالتهكم والنيل منه و اعتبرته هرطقة شيطانية و تدنيس لقدسية الكنيسة وهبت عاصفة من النعوت واللعنة على موليير، وعلى ترتوف، الذي تم رسم صورة  له لا تعكس طبيعته ولا سلوكه الحقيقي وأعتبر بطلا للنموذج المنافق. والمزيف. وهناك من حّرف المعنى لمسرحية ترتوف وطعن بموليير واعتبره من اعداء المسرح. وراح يعلن على الملأ «موليير يهاجم الدين نفسه. موليير يلعن الدين المسحي. موليير لا يعير اهتماما كبيرا للأخلاقيات المسيحية واختلافها عن الصورة الكاريكاتورية لأرغون التي اعطاها تلك اللمسة الخفيفة، وقام بتحريف التعاليم الدينية. إنه حقا ذلك الكاتب الذي لا صلة له بأية روحانية، بل هو عدو لها. إنه عدو الدين.»
 ويؤكد على أن انتشار هذه الصورة عن موليير وعن مسرحية ترتوف، «تظهر حتى في قاموس فرنسي وضع في القرن العشيرين، ونبحث عن حرف ت لنجد ملخصا عن ترتوف كتب فيه: «يطرح النص لنا  مراوغة دخيل قذر يشطر بيت برجوازي ويقوض مضجعه. يرى اورغون رب العائلة، وأمه العجوز مدام برنيل ما يثيرهم في تعصب ترتوف، بالرغم  من ظهور نوع من الحكمة لدى كليلنت واحتجا ج متلون لخادمة دوريا، ولكنهم يتلمسوا بحدسهم الخطورة الثلاثية التي ستقع على كاهل البيت: مغامر يريد الزواج من بنت اورغون، و يغري زوجته و يستولي على ممتلكات. ويظهر كأنه محتال وقذر ودجال ويدخل في بين أورغون ليستولي على ممتلكاته.
ولكن، لو كان هو كذلك، يؤكد جوفيه:» لماذا يغوي أورغون الذي يقبل أن يمنحه ممتلكاته لرجل يأخذ بنصف ما يهديه ويوزع النصف الثاني للفقراء؟ (...) لم يفعل ترتوف سوى أنه قد  قبل الهبة التي منحت له».( م 6 ص 283 )
ويبدو ترتوف في قراءة لويس جوفيه نموذجا لشخص متعدد الجوانب وملون في سلوكه،وليس كصورة متقولبة ب صفة المنافق، بل كما يقول:» في داخل كل شخص هناك لغز وسر، هذه هي الخلاصة التي يمكن أن نصل إليها في النقاش . من السهل أن نُحمل الشخصيات قول ما نفكر به ونجعلها أن تعترف بما نريده أو ما نفكر به نحن أو  نتمى أن تقول ذلك».
 يواصل كلامه قائلا: «يمكن لترتوف أن يقول لنا: سأهرب في دروب التحولات من كل جهدكم الكاحل وسيبقى بحثكم في هباء. وسأخيب أملكم وسأبقى أنا عصي على الاختراق أو المسك به. لم يستطع أحدا أن يصل لي أنا. لقد اضطهدتموني بذكرياتكم وتجاربكم وتعبت من حراككم ومن ردود أفعالكم وشكوكم وقرفكم وكرهكم الذي القيتموه على كاهلي. إن بحثكم هو ليس إلا عبارة عن رغبتكم في تملكي. إن أرائكم وردود أفعالكم هي مجرد رضاء لأنفسكم. (...) سوف لن تفلحو بوضعي في أية خانة من تصنيفاتكم. لست طرفا من هذه الاحتفائية ولا أود أن اشترك  بهذه اللعبة بأية طريقة كانت».( م 6 ص 284 ).
وفي الواقع أن ترتوف يفلت من قبضة تصنيفه كمنافق حيال فله أكثر من مظهر و له أكثر من وجه. فهو كنموذج انساني يتميز بتلون ميوله الطبيعية ومزاجه ولا يندرج في خانة أحادية الجانب بشكل قاطع مثل الممثل والمهرج الذي يتقلب ويفلت من قبضة التصنيف لأن كل نموذج انساني من وجهة نظرنا ،يظهر في حالة صورة ما ويظهر في جالة أخرى بصورة مختلفة وحسب الزاوية التي ننظر إليه.
الخاتمة
كان موليير عصيا ولم يتنازل عن تقديم ترتوف حتى بعد أن منعت، وبعد أن اقترح الملك تغير جوانب منها، وبعد أن غيرها موليير وجعها  بخمسة فصول وغير اسمها. ولم يتراجع وبقي يعمل بجهد مضني وبلا هوادة حتى نزيف الدم الذي سال من فمه وهو على خشبة المسرح في الخمسين من عمره، ونقل إلى بيته ومات. ومن المفارقات أنه بعد كل النقد والسخرية من القساوسة ومن حماقة أورغون المتدين الساذج، نجده يطلب قسا قبل موته لكي يصلي له، لكنه مات قبل أن يصل القس. ومن المفارقة، كذلك، أنه كان ساخرا من الأطباء ولا يؤمن بطبابتهم، وقد مات وهو يمثل دوره في مسرحية مريض الوهم.
  ويظهر لنا أن موليير، بعد الديون المتراكمة على كاهله والسجن والطعن بسمعته، قد استطاع أن يجذب الجمهور وحاشية البلاط  والأمراء والملك لويس الرابع عشر وعمل بعصامية في حرفته ودافع عن كرامة ابداعه وحصل عى مداخيل مالية كبيرة من تذاكر المتفرجين  لمشاهدة عروضه المتواصلة كمحترف، ولم يخضع لنزعة توجه الاكاديميين وعرضهم التي كانت تقدم في المناسبات فقط، أو في البيئة الأكاديمية، ولم يحصلوا على نفس نجاحه، لا في الفترة التي عاش فيها ولا في زمننا المعاصر. وهكذا يكون موليير مثالا في موجهة الصعوبات والدفاع عن حرفة تحتاج في زمننا الكثير لصيانة كرامتها في زمن اصبح تطرف المتدينين وسلطة الدينار تدك واقع المسرح ونفحات الفن والجمال.
المصادر
1 ـ  بارث، لوران، االجلي والمنفرج. مقالات نقدية ( ت إيطالية ـ فقرة عن المسرح الإغريقي)، إيناودي، تورينو 1985،
2 ـ بياتلي، قاسم، لغة الحركة والجسد وفن الممثله. الهيئة العربية للمسرح، الشارقة 2016
3 ـ جان باتيت، موليير، ترتوف، غارزانتي،
4 ـ جوفيه، لويس، مديح الا انتظام (اعداد ستيفانو دي ماتيس)، أوشر، فلورنسة 1989.
5 ـ  دي ميكو، سلفيو، تاريخ المسرح (جز أول) ، الناشر غرزانتي ميلانو 1965
ـ6 ـ كوبو، جاك، مكان المسرح، انطولوجيا كتاباته (اعداد ماريا انيس الفيرتي)، أوشر، فلونسة 1988
 7 ـ فوكو،ميشيل ميشيل فوكو ـ الكلمات والاشياء، ايزدلي ، سوبر ساجد ، ميلانو 1978، ص 130
 8 ـ ماوس، مارسيلـ، الشخص ، صنف روحاني (تر ايطالية)مارجيللانو، ميلانو 2016
 9 ـ تافياني، فردننادو، سر كوميديا ديللارته، أوشر، فلورنة 1982،


د. قاسم بياتلي ـ فلورنس