العدد 525 صدر بتاريخ 18سبتمبر2017
من البداية.. لا رابط ولا ارتباط لهذا المقال بمهرجان المسرح التجريبي والمعاصر المصري، لكنه يسعي بكل متواضع إلى الكشف عن جوهريات التجريب.. من سعد أردش إلى فوزي فهمي وعصره الذهبي.. إلى سامح مهران.
من البداية.. لا رابط ولا ارتباط لهذا المقال بمهرجان المسرح التجريبي والمعاصر المصري، لكنه يسعي بكل متواضع إلى الكشف عن جوهريات التجريب.. من سعد أردش إلى فوزي فهمي وعصره الذهبي.. إلى سامح مهران.
في فلسفة التجريب
لفظة (التجريبية) Experimentalism هي الهدف الأول والأسمى عند أي تجريب لتحقيق أهداف التجريب. لماذا نجرب؟ للخروج من قديم أو سابق أو متكرر بغية البحث عن جديد من الضروب يختلف كثيرًا أو قليلاً عن السائد والمعروف والمطروق، إذن هي دعوة إلى التجريبية التي تستند إلى مبدأ جديد غير معروف أو متبع من قبل. هذا التجريب الجديد – في غالب أحواله – يشذ عن الواقع الماضي، يخرج منه هاربًا طائعا أو مرغما للمصالحة مع شكل جديد، فقد يكون مضمونا جديدا، لكن عصري في غالب الأحيان.
عصري وليس معاصرا. انتقال من فكر مضى إلى فكر قادم أو مستقبلي. فكر يوحى بقيمة الثقافة التي تحتل أعلى درجة من درجات الدماغ، لأن عملياتها الفكرية هي التي تحرك الإنسان إلى الجديد والألمعي، عبر نشاطات اجتماعية وسياسية وسيكولوجية، تعبيرًا عن الفكر النافع، والفنون الجميلة.
أمام هذا الفكر، بكل ما يحمله من الواقع المرئي وغير المرئي، ومن آفاق جديدة وابتكارية عادة ما تكون غير مألوفة أو معتادة بما يمثل معارف إنسانية عصرية تعمل على استمرارية تطوير الواقع المعيش، عبر كلمات وألفاظ وعبارات معرفية. أمام هذا الفكر التوجهى سرعان ما نجد (الحدس) Intution وهو الحس الداخلي غير الخاضع لأية مقاييس عقلية أو معايير للصدق، وبلا دلالات منطقية، تتعارض مع الفكر، ومع المنطق ومع المعقول والمعتاد.. الأمر الذي تؤكده الفلسفة المثالية الحديثة حين اعتبرت الحدس “مقدرة غامضة على المعرفة، لا يمكن التوفيق بينها وبين المنطق والممارسة” – (عبد الرحمن بدوي – موسوعة الفلسفة ج2، 1984، ص 177). وهو نفس ما أكده منهج الفرنسي رينيه ديكارت Rene Decartes في كتابيه (مقال في المنهج، قواعد هداية العقل).
الأمر الذي يوضح قيمة العقل.. والفكر طبعًا، إذا ما اتصف بصفتي الوضوح + التميز. فالأشياء تكون واضحة ومتميزة إذا كانت بسيطة حتى لا يقسمها العقل إلى أشياء أقل بساطة مثل الشكل والحركة والامتداد. ومع ذلك فلابد من الاعتراف مع ذلك إلى الدور الاستنطاقي للحدس في عمليتي المعرفة + الإدراك الجمالي.
هكذا أفهم (التجريب) فكرى وعقلاني يقودنا إلى تجريب ناجح في أغلب أحواله، وتجريب حدسي يشذ كثيرا عن العقل ولا يقدم جديدا فكريا في المضمون وأحيانا في الشكل أيضا. تجريب يطرح جديدا ومبدعا، وآخر حدسي لا يفيد ولا يجدي بفعل التقليد والنقل كالرسم الأمشق.
التجريبية منذ القديم
بارك الله في فاروق حسنى الذي حمل نقطة (التجريب) إلى عالم المسرح المصري في ثمانينيات القرن العشرين، نقلا من إيطاليا وفرنسا، دون الإفصاح عن المعني الفكري والأساسي لمنهج التجريب. فبعد عقدين ويزيد من تجريبيات المسرح المصري، ومحاولة الاستفادة من تجريبيين عرب – إذا ما افترضنا وصولهم لفلسفة التجريب – هل لدينا الآن نتائج محددة للتجريب، المسرحي؟ أنا لا أجد أي تقدم تجريبي في الإنتاج المسرحي، ولا العربي حتى اليوم!!
ولابد أن أمر مرورا يحتاجه هذا المقال لتبرير ما أقول به من رأي متواضع.
1 - بداية المسرح العالمي عند الإغريق كانت تجريبا أصيلا في القرن الخامس ق.م. وجديدا تجريبيا في المكان والزمان.
2- مقاعد حجرية لثلاثين ألف متفرج (تعداد اليونان ساعتها عشرين ألف في العاصمة أثينا، وعشرين ألفا في الضواحي).
3- تجريب المسرح الديني الكاثوليكي – رغم سوء سمعته – قدم تجريبا أصيلا في ثلاث خشبات مسرحية في العرض الواحد، بما لم يكن مألوفا آنذاك في عصر القرون الوسطى.
4 - انتقال المسرح الروماني في القرن الأول الميلادى إلى داخل المعمار المسرحي الثري + المناظر المسرحية البراقة تجديد اختلف مع المعمار المسرحي التقليدي آنذاك.
5 - قفزة عصر النهضة الأوروبي بدخول تجديدات المعمار + البناء الفني عند سبستيانو سرليو، ليوناردو دافنشى كان تجريبا أصيلا عكس ثقافة عصر النهضة واجتماعياتها على خشبة المسرح.
6- ظهور الكلاسيكية الفرنسية الجديدة في القرن (17) ميلادي، اختلف تماما عن الكلاسيكية الإغريقية الأولى، تجريب أصيل في فن كتابة المسرحية + وفي حجم صالة الجمهور. رافقه تجريب بامتياز بيد الكلاسيكيين الفرنسيين الجدد أنفسهم.. بين الاثنين الأولين بيير كورني وجان راسين، وبين الثالث بابتست موليير.. وبالأخص في النوع الدرامي Genre. موليير يقدم على مسرحه في قصر فرساى كوميديات أخلاقية وتصحيحات للمجتمع الفرنسي (في مسرحياته طرطوف، طبيب رغم أنفه، المتحذلقات) عام 1978 عندما شاهدت مسرح موليير داخل القصر الملكي الفرنسي، أدركت معنى التجريب في الأثاث وفي المقاعد الفخمة والوثيرة.
7 - تجريب إيطالي قاده الدرامي الإيطالي كارلو جولدوني في القرن (17) ميلادى حين رفض تجريب خاسر هو الكوميديا دى لارتي – كوميديا الفن، والذى استمر (200) مائتى عام يتحكم فيه الارتجال في كل مسارح أوروبا، ليعيد جولدوني معاني التأليف المسرحي الواعى المكتوب، وليس الارتجال.
8 - تجريب أمريكي في منتصف القرن العشرين، مدحه الراحل د. سمير سرحان Living Theatre، تجربة أمريكية كتب عنها التشيكي أوتومار كرايتشا Otomar Krejca موضحا الفروق الفنية بين المسرح الحي ومسرح Heppinigs الأمريكي في سبعينيات القرن العشرين. قص تجربة أمريكية شاهدها في مسرح فرانكفورت – ألمانيا الغربية آنذاك. تجريب في نقل المنظر المسرحي إلى مرفأ يجلس حوله الجمهور، ممثلون وعازفون على شاطئ المرفأ. ثم تقدم عربة أوتوبيس تحمل بقية المشتركية في العرض المسرحي. تظهر امرأة عارية تماما، على ظهر حصان يداعبها بمشاعر جنسية طبيعية!! تهيج الجماهير يخلع الممثلون والممثلات الملابس الشفافة (فساتين على موضة الشوال). يوزع الممثلون صفارات على المشاهدين يلهون بها صفيرا مزعجا عاليا. فجأة يصدر من مكبرات الصوت صوت جهير مرتفع يطلب من الجماهير “ممارسة سعادة أكثر!!” وعلى أحسن ما تكون!!، وأن تحب الجماهير بعضها بعضا، أكثر فأكثر!! وأن تنسى همومها الآن. فجأة يبرز ثعبان من داخل المرفأ، تهيج الجماهير، ويسود الهرج والمرج كل المكان، ويتدافع الأطفال هربا تحت أقدام الكبار.. و... ينتهي العرض المسرحي!! تجريب أمريكي خرف في المضمونين الدرامي والشكل.
9 - تجريب أوروبي قصير الزمن، بعد الحرب الكونية الثانية.. جاء مع تشاؤمية ما بعد الحرب العالمية. مقدما صورا عديدة من المآسي (بيكيت، يونيسكو، أرابال) لكنه لم يستمر طويلا رغم انتشاره الواسع. يسجل عام 1962 ابتعاد أغلب مسارح أوروبا عن اللامعقول ومسرحيات العبث!!
10 - تجريب يسرق تجريبا آخر. تعلمه المصريون من الفرق التي وردت على مصر خلال 22 عاما تجريبيا!! الإظلام على خشبة المسرح وعدم وضوح الرؤيا. الإضاءة بالشموع الهزيلة!! خشبة المسرح دوما في ظلام كثيف!! إخفاء لوجوه الممثلين!! عكس منطق الإضاءة المسرحية.
11 - أنا – وبكل التواضع – لا تهمني فرق تجريب أمريكية، ولا أوروبيا ولا عربية أيضا. ومع كامل احترامي لكل جهود التجريب العربي ولمن يقدمونه، لكن.. ألسنا تنحن المسرح المصري ورجاله؟ الذين علموا الدول العربية – وحديثا – المسرح الناهض في القرن العشرين؟
علم الراحلان كرم مطاوع وسعد أردش الإخوة الجزائريين لعشرات السنين في الجزائر الشقيقة، وعلمت أنا الليبيين والخليجيين من الكويت والإمارات وعمان من طلابي في معهد المسرح الكويتي عام 1991 وما بعده لعدة سنوات. كما علمت العراقيين لسنتي 1989، 1990 في بغداد وبابل، طيب.. هل يمكن ان يأتي تلاميذ طلابنا في هذه البلاد ليعلمونا التجريب المسرحي؟ سؤال بعيد عن النرجسية، لكنه قريب من العقل والمنطق والمعقول.
التجريب النافع
حتى عصرنا هذا، لا يوجد تجريب (بالجملة) في الفنون المسرحية متعددة الأنواع الدرامية، وعديدة الاتجاهات الفكرية والفنية والنقدية. بعض هذه التجارب الناجحة يقوم به هذا الجزء من المقال للانتباه والتعليم، والتعلم أيضا أيها المجربون!!.
(أ) تجربة جاك كوبو في تغيير خشبة مسرح ألفييه كولومبييه Theamre Vieux Colombier. ودخول السلالم التي يربط الصالة بخشبة المسرح.
(ب) الحفاظ على نجريب بوتولت برخت، رفضًا للأرسطوطالية، إلى تجريب ناجح في العقيدة الفنية المسرحية ودستور المسرح الحديث والمناضل لبناء الإنسان الواعي.
(ج) تجريب الإنجليزي تايرون جوثرى – السير sir, Tyrone Guthrie في مهرجان أدنبرة المسرحي، مسرح مينوبوليس، ومهرجان استراتفورد على نهر الأفون Avon، وهو تجريب منهجي قام على جهور استوديوهات التمثيل في اختبارات التجريب المختلفة.
(د) تجريب الإنجليزى من أصل أمريكي تشارلز مارويتز Charles Marowitz. ويتضمن:
1 - تجريب نوعي في تمثيل (بروفة مسرحية). متدرب يثرثر على خشبة المسرح. يلقى منولوجا مسرحيا بمفرده. دخول في إهاب شخصية مسرحية جديدة أخرى + وحوار جديد يناسب الشخصية الجديدة. تجريب على سرعة الانتقال من حالة إلى حالة مسرحية أخرى. نوع من الارتجال لكنه مقيد بحوار متسلسل مقبول ومفهوم ومحدد.
2 - تجربة حوار + حوار جانبي مساعد. حوار متسلسل يدخل معه المتدرب إلى حوار آخر غير متسلسل. تجريب يؤكد علاقة المتدرب باللغة وأصولها.. ساعة التمثيل.
3- تجريب بعنوان (مدخل إلى التعامل مع الصوت). وفيه التدريب على التعرف ومن ثم اكتشاف وسائل ومصادر إخراج الأصوات (الصوت الرفيع، الرقيق، النحيل، الصلب، الضئيل، الخافت، الهزيل، الجهور).
4 - تدريب تجريبي على (القطع، الانقطاع) Discontinuation يدرب على تجريب لوقف الاستمرارية في الأداء التمثيلي عند الممثلين.. إحساسا وحوارا.
5 - تجريب كاتب مسرحي على مشاهد منفصلة عن بعضها بعضا، لابتداع حوار مناسبا لكل مشهد من ستة مشاهد مسرحية مختلفة.
هذه صور عديدة للتجريب العالمي.
وأخيرا..
1 - أقبل تجريبا مصريا منذ عدة سنوات، قام به تلميذى الراحل أ. د. هناء عبد الفتاح، حين قدم عرضا تجريبيا في المكان والزمان، المكان “جرن ريفي” ذو إيقاع منظرى خلاب، ومختلف. وفي الزمان حينما جرت التجربة في وضح النهار بعيدا عن التقليد المسرحي المسائي.
2 - ولا أفهم العلاقة بين عنوان المسرح التجريبي (مهرجان المسرح التجريبي والمعاصر).
أفهم وتعلمت أن لفظة التجريب Experimentalism تختلف اختلافا بيّنا وكبيرا في المعنى عن لفظة Contemporariness في منتصف القرن (15) ميلادى حدد قاموس أكسفورد الجديد معانى الكلمات والألفاظ تحديدا دقيقا جدا، بما لا يمكن تجاوز (تحديد المعنى).
فالعلامات غير الكلامية هي علامات مصوتة.. أي معبر عنها بالأصوات غير الكلامية، لكنها ملفوظة تغطى وتغلف كلمات الحوار المسرحي. أو التغير في طبقات الصوت من نغمة إلى أخرى أو من طبقة إلى أخرى.. Modulation. أما تحدد الصوت فيطلق عليه النغمة الختامية cadence، كما يطلق على الضغط والتوكيد على النبرة stress، وعلى لون التون – الجرس Timbre.
وأمام كل هذه التحديدات الدقيقة في المعنى، والتي جاء بها قاموس أكسفورد قديما لإزالة الغموض اللغوى في المعانى، تحديدا لمعانى الكلمات والعبارات، أتساءل، كيف أفهم هذا الخلط غير العلمي بين لفظتى التجريبي والمعاصر؟.