جان جنيه.. شاعر المسرح

جان جنيه..  شاعر المسرح

العدد 767 صدر بتاريخ 9مايو2022

في الخامس عشر من نيسان - أبريل، حلت الذكرى السادسة والثلاثين لرحيل الشاعر والكاتب الفرنسي جان جنيه (1910-1986) .. نحار من أين نبدأ الحديث عن جنيه، وعالمه شديد الثراء، مُتعدّد الآفاق والمستويات، وهو الذي كان جلّ همه كما يقول: “أن تنجح أسطورته، أي أن ينتزع للعالم السفلي، عالم الهامشيين، شرعية توازي في جذريتها ورسوخها شرعية العالم الآخر، الذي تنظمه القوانين والأخلاق التقليدية، ثم أبعد من الشرعية، أن يستنبت هذا العالم المظلم، جمالية وهّاجة تسمو به، وتجعله يطفح بالغواية» (1) . وكأن جان جنيه لم يفعل حين قرّر أن يكتب إلا بناء هذه الأسطورة، أسطورته، وهو يبنيها بدأب المُتعبّد، ونشوة الوثني الذي يمارس طقوسه الخاصة . وهو الذي بدأ الكتابة في السجن 1942، وفي عام 1948 بعد أن أصدر مسرحية “الخادمات” و”رقابة مُشدّدة” وجد نفسه مرة أخرى في السجن محكوماً بالسجن المؤبد، حينها توسّط لدى رئيس الجمهورية فانسان أوريول لفيفٌ من الكتاب والفنانين : سارتر وكوكنو ودو بوفوار ومالرو وبيكاسو، فأصدر عفواً عنه، وبعد هذا التاريخ، ودّع جنيه اللص، ولم يبق أمامه إلا أن ينوس بين الكتابة والصمت، أو أن يتجاوزهما إلى عملٍ جديد . كان كتابه “يوميات لص” هو الحركة الأخيرة في نشيد واحد مبني كالطقوس على التكرار، والتصاعد المتوتّر. لقد سبقته عدا القصائد الشعرية، أربع روايات: “نوتردام الورود“ 1944 و”معجزة الوردة”1946 و”شعائر الجنازة” 1947 و”كوريل مدينة برست” 1947، وفي هذه الروايات كلها، ينهل جنيه من موضوع واجد هو سيرته الخاصة، وسيرة الوسط السفلي الذي عاش فيه، الشخصيات والأحداث والمضامين تتكرّر من رواية إلى أخرى، في إيقاعية تثير الاضطراب، لكنها لا تثير الملل أبداً، فكل تكرار يدفع السيرة خطوة أبعد نحو تحدي المجتمع القائم، ويفجّر من عتمتها ينابيع جمالية ثرة، تتألق بها وتتسامى . جان جنبه الذي ولدته أمٌ لم يعرفها أبداً، وملفوفاً بقماط أودعته في دار الأيتام، أعطي شهادة ميلاد، عندما أصبح في الحادية والعشرين من عمره، وعرف أن أمه اسمها غابرييل جنيه، وهذا كل شيء، دار الأيتام عهدت بتربية جنيه الطفل إلى عائلة ريفية في “مورفان”، وفي سن  العاشرة كان أهم حدث درامي في حياته، لقد اتهم بالسرقة، وسيق إلى إصلاحية الأحداث، يصف حالته آنذاك: “ كنتُ أتألم، وعانيت خجلاً رهيباً من رأسي الحليقة، وثوبي الحقير، وحبسي، ولكي أستطيع مواصلة العيش رغم ألمي، وحين كان وضعي شديد الانطواء، أعددتُ، ودون وعي، نظاماً صارماً، ويمكن شرح آلية هذا النظام على النحو التالي ...ومنذئذٍ سأستخدمه دائماً ، من صميم فؤادي، سأجيب على كل تهمة توجّه إليّ، حتى لو كانت باطلة، نعم .. لقد فعلتها، وأصبحتُ لا أكاد ألفظ هذه العبارة، أو أي عبارة تحمل المعنى نفسه، حتى أحس في داخلي الحاجة لأن أصير ما اتهموني به (... ) لقد بدا لي طبيعياً، وأنا الذي رماني أهلي منذ ولادتي، أن أفاقم وضعي بالشذوذ الجنسي، وأن أفاقم خطورة الشذوذ بالسرقة، وخطورة السرقة بالجريمة، أو الإعجاب بالجريمة، وهكذا رفضتُ بشكلٍ قاطعٍ عالماً كان قد رفضني”.(2) نظم أول قصيدة له “المحكوم بالإعدام”، ودخل، وقد تجاوز الثلاثين ميدان الأدب والمسرح، مُستفيداً من دعم من جان كوكتو  له .. إن جنيه يكشف ويُخفي في آنٍ واحد في مؤلفاته، وفي أسطورته الشخصية التي أخذ على عاتقه مهمة إنجازها، والتي نسجها شعرياً، انطلاقاً من عناصر منقولة ومتسامية، انتزعها من هذه الحياة، التي يعيشها كمحكومٍ عليه . وتظهر أعمال جنيه المُلتزم بالدفاع عن جميع المنبوذين، كتمجيد للخيال والصورة والظل ضد الواقع . إن العمل يسطع بينما نموذجه يفنى، وفن جونيه يتحقق على أفضل وجه، خلال لحظة التمثيل المسرحي . عرف سوريا مرتين، المرة الأولى عام 1928 عندما كان يؤدي الخدمة العسكرية، خلال فترة الانتداب الفرنسي . دامت إقامته أحد عشر شهراً، تعلّم خلالها مبادىء القراءة والكتابة باللغة العربية، كان حينها يستيقظ في الرابعة صباحاً، ليلتحق بالدروس في الخامسة صباحاً، قبل أن تبدأ التدريبات العسكرية في السادسة ، وفي تلك الأيام كان يستمع إلى أحاديث الناس عن الثورة، وعن الجنرال “غورو” ذي الذراع المبتورة . في المرة الثانية أواخر عام 1970، حيث التقى سعدالله ونوس، بحضورالشاعر علي الجندي في فندق “سميراميس” في القلب من دمشق، حيث دار الحديث في السياسة والأدب والشعر.(3) في ذلك اللقاء كان جنيه يتحدث وكأنه يصلي، على حد تعبير علي الجندي ... وتعددت موضوعات الحديث، عن “عظمة بريشت الزائفة، التي هي بالذات تفاؤله” وعن شعر “فرلين” الذي اختلف مع علي الجندي في تقويمه، وعن رأيه بالحضارة الأوربية التي برأيه “تمت وانتهت، وهي الآن في طور الاحتضار أو الموت “، وعن زيارته لقواعد المقاومة، والأيام التي قضاها مع الفدائيين الفلسطينيين، ولقائه بياسر عرفات رئيس منظمة التحرير ... كان جان جنيه يومها عائداً لتوه من الأردن، حيث عاش في الخيام مع الفدائيين الفلسطينيين بعد أحداث أيلول الأسود  “كنتُ أشعر بالوضوح، وبأنني أفعل ما يجب فعله” . وهو يعتبر أن أجمل أيام عمره عندما عاش مع “الفهود السود” كحركة ثورية أصيلة، وشاركهم حياتهم وكفاحهم في جحور أميركا، قبل أن ينضم إلى مخيمات الفدائيين الفلسطينيين، يقول :”أرى تشابهاً بين موقف الغرب من الفلسطينيين، وموقف الأمريكيين البيض من الفهود السود، إن عدالة القضية في حال المقاومة الفلسطينية بالنسبة لي بداهة “ . وكان من أول الداخلين مع الصليب الأحمر إلى مخيمي صبرا وشاتيلا بعد المجزرة، ليكتب نصه “أربع ساعات في صبرا وشاتيلا” 1983. ناهيك عن مؤلفه الضخم عن الثورة الفلسطينية “الأسير العاشق” 1986، الذي صدر بعد وفاته بشهر، وكان جنيه قد توفي في غرفة صغيرة بأحد فنادق باريس، متأثراً بسرطان الحنجرة، وليدفن (حسب وصيته) في المقبرة الإسبانية القديمة، المُشرفة على مدينة العرائش  والمواجهة للبحر في المغرب . لم يكتب جنيه إلا ما اعتنقه سلوكاً ومذهباً في الحياة، وما اعتقده موقفاً إيجابياً مُنصفاً لقضايا اللاجئين والمنبوذين والمضطهدين، عندما كتب “الشرفة” 1955تناول موقف الثوار في الأرض واستبداد السلطة، وفي”الزنوج “ 1958 عبّر عن موقف الزنوج في العالم، واستبداد البيض . أما “البارافانات” 1961 وهي آخر مسرحية نشرها في حياته، تتناول فترة اندلاع الثورة الجزائرية، وتعتبر  تأييداً للثورة في وهجها، وسخرية من المستعمرين الفرنسيين، ووراء الحدود الظاهرية للزمان والمكان، كانت الجزائر هي العالم ... عندما عُرضت المسرحية في مسرح “الأوديون” بباريس 1966  بإخراج روجيه بلان، أثارت احتجاجات ومظاهرات عنيفة، خاصة من المحاربين القدماء، كان العرض حافلاً بألوان من الشغب والاحتجاجات، وكانت الكراسي تنهال على الممثلين من أعلى المسرح، وفي مرّات اضطروا إلى التوقّف، ثم يعودون إلى المسرح ليُتموا المغامرة الفنية التي بدأوها، يُشجعهم تصفيق المتفرجين، وحماستهم في إبعاد عناصر الشغب، يومها وقف “جان لوي بارو” مدير المسرح، ليُقاطع الضوضاء والصراخ والهتافات المُعادية، قائلاً : “باسم الحرية الإنسانية، أسألكم الهدوء، إذا كان البعض لا يحتمل هذه المسرحية، فإني أطلب منه الخروج، إن العرض سيستمر حتى نهايته” . وإلى جانب احتضانه لتلك القضايا، يبرز اهتمام جنيه بالتجربة الصوفية، وولعه بنصوص “الحلاج”، وكأنه يبحث فيها عن ملاذٍ روحي ... زار طنجة بين 1968 و1969 كغيره من كبار الكتّاب الأوربيين والأميركيين، ويومياته المهمة  فيها مع صاحب “الخبز الحافي” محمد شكري، تعطي -ربما- صورة متكاملة عنه (4)، ثم قضى سبع سنوات في الرباط، بصحبة الناقد محمد برادة وزوجته المثقفة والمناضلة الفلسطينية ليلى شهيد .كما ذهب إلى مصر عام 1967 بعد الحرب، محاولاً البحث وفهم أسباب الهزيمة، وعندما زار الأهرامات “هزته تلك العظمة التي تسترخي هادئة مثل راقصة خيالية” . عندما قبض ثمن  نشر أعماله، اشترى شقة، لكنه لم يلبث أن باعها بعد فترة قصيرة، ليعيش مُتنقلاً من فندق لآخر “عرفتُ أني لم أخلق لأعيش في بيت، أو أمتلك بيتاً “، يقول سعدالله ونوس “الكرم الذي يفيض منه بالتلقائية نفسها التي يعيش بها، هو كرم الذين لم يملكوا شيئاً، ويحتقرون أن يمتلكوا شيئاً” . وقد قال مرة لجوزيه فالفيرد مدير مسرح “جيرار فيليب”، الذي صاح به محذراً،عندما أمسك جنيه مقبض باب السيارة وفتحه بسرعة ما إن وقفت في زحام المساء، حذّره جوزيه بأن ينتبه  خوفاً من أن تسحقه سيارة، فأجابه : “ولدتُ في الطريق، وعشتُ في الطريق، وسأموتُ في الطريق” . في العام 1964 كان قد تخطى، ولو جزئياً، المحنة التي سببتها له دراسة سارتر “القديس جنيه ممثلاً وشهيداً”، إذ رأى فيه سارتر الشخصية الوجودية، من لقيط في ملجأ إلى شريدٍ لصّ، لإلى سجين هارب، يلتمس له العفو، فيصبح شاعراً وكاتباً مسرحياً مرموقاً، و بعد هذا الكتاب الذي نبش أخفى خفاياه، صمت جنيه وتملّكه يقين بأنه لن يستطيع الكتابة أبداً، يقول “ خلق كتاب سارتر في داخلي فراغاً سمح بنوع من التلف النفسي، هذا التلف هو الذي أتاح لي التأملات التي قادتني إلى مسرحي” . وكان لجنيه رأيه بجان بول سارتر “إن ما يُطلق عليه اسم الفكر السارتري لم يعد له وجود، إن مواقفه لا ينم عنها إلا آراء غير مدروسة لمثقف لا يهتم إلا بشخصه، إن فكره السياسي فكرٌ مزيف “(5) مُشيراً إلى موقف سارتر المُتردّد إزاء القضية الفلسطينية . في نهاية لقاء جنيه بسعدالله ونوس في باريس 1974، وبينما هما متجهان إلى محطة القطار، كان ونوس ينظر إلى عناوين جريدة “اللوموند” قائلاً : الرئيس نيكسون سيزور القاهرة، عقّب جنيه : “سيظل تاريخكم نزيفاً من الشقاء والدم، حتى ينضب نزيف البترول” . هوامش 1- جان جنيه، يوميات لص، ترجمة : أحمد عمر شاهين، دار شرقيات، ط1، القاهرة، 1998، ص 53 2- جان جنيه، يوميات لص، ص ص 31-32 3- سعدالله ونوس، مع جان جنيه : حوار وتحليل، مجلة الكرمل، العدد 5، رام الله، 1982 . ص35 - وكل المقبوسات الواردة عن لقائه بسعدالله ونوس هي من هذا المرجع . 4- محمد شكري، جان جنيه في طنجة - تنسي وليامز في طنجة، دار الجمل، كولونيا (ألمانيا)، 2006 5- مقدمة مسرحية الخادمات، ترجمة: حنان قصّاب حسن، مطابع ألف باء - دمشق - 1992


ميسون علي - دمشق