«المسرح والوعى والوجود فى شعر جرجس شكرى» لنجوى عانوس

«المسرح والوعى والوجود فى شعر جرجس شكرى» لنجوى عانوس

العدد 723 صدر بتاريخ 5يوليو2021

جاء كتاب (المسرح والوعى والوجود فى شعر جرجس شكرى) للدكتورة نجوى عانوس ، دار المعارف بمصر، 2021 بمثابة رحلة جديدة تزعمتها الدكتورة نجوى للخوض فى الوعى والوجود فى كتابات جرجس شكرى المسرحية وقصائده السينيمائية وقصائده السريالية والسردية، إذ اندمج فى كتاباته فى حالة وعى بالمسرح والسينيما والسرد ومسرحة الأشياء، وأصبح من أهم الشعراء المعاصرين الذين التزموا بتكنيك ما بعد الحداثة.
تحدثت الدراسة عن قصائد السينيما وتدخلت فيها الدكتورة نجوى بالمونتاج واستخدمت مسرح القسوة لآرتو فى وصف مسرح بالى فى كتاب «المسرح وقرينه» نموذجًا مستخدمة المنهج التفكيكى، وكتبت نصًا موازيًا لنص الكاتب بعد التفكيك، كما تحدثت عن المونودراما وعالم الأحلام داخلها أو لاوعى الكاتب الذى حاول من خلاله سد الاغتراب، كما تحدثت عن مسرحة الأشياء، وبينت أن الصورة الشعرية تحمل فى بطنها قصيدة السينيما والفن التشكيلى السريالى والسرد. 
فى الحقيقة أن الرحلة التى تزعمتها الأستاذة الدكتورة نجوى عانوس مع الكاتب التزمت بمخرجات الصورة الشعرية لتثبت أن جرجس شكرى استنبطها من الإيقاع الفكرى والداخلى الشعرى حيثُ حلمت معه بالوعى الجسدى للمعرفة، وامتلكت معه أدوات المعرفة التى انبثقت من لاوعى الكاتب إلى وعى الناقد لتحمل لنا تساؤلات تخص الجسد البشرى، وتخضع للتمرد المعرفى؛ حيثُ تمردتُ بداية على مصطلح ديوان؛ لأن الديوان يعيدنا إلى تراث الشعر العربى القديم، ولا ينطبق على أعمال جرجس شكري الحدثية ، وقامت بمشاركة الشاعر فى تخمين المحذوف، ومحاولة الإجابة عن الأسئلة التى طرحها ليعيد بها قراءة الخطاب المعرفى قراءة جديدة فهو يقول أنه حذف نصف ما كتبه وكثّف صوره وكأنه يدعو المتلقى إلى المشاركة.
وتعتبر الدكتورة نجوى الوحيدة التى قسمت كتابات جرجس شكرى بهذا الشكل، والوحيدة التى استطاعت أن تعيد صياغة النص «التفكيك» مع إبداع نص موازى، والوحيدة – أيضًا- التى صنعت مونتاجًا، وقالت بمصطلح جديد هو «مسرح الأشياء».
قسمَّت د/ نجوى الدراسة إلى ستة أقسام وفقاً للمجموعات الشعرية الست ولم تلتزم بالترتيب الزمنى للمجموعات، حيث جاء القسم الأول تحت عنوان قصائد سينمائية ومسرحية بلا كلمات ،مجموعة «ضرورة الكلب في المسرحية» وهي المجموعة الثالثة للشاعر  إذ وجدتْ أنه اعتمد في بنية قصائده السينمائية على التقنيات السينمائية مستفيداً من إمكانية هذا الفن المبهر للعقل والعاطفة معاً في تعميق تجاربه وتفعيل وسائل اتصاله بالقراء، واعتمدت مسرحية «ضرورة الكلب فى المسرحية على لغة جسمانية وإشارات وأصوات بلا كلمات فهو مسرح يحذف المؤلف لصالح المخرج.
ومن خلال هذا القسم بدأتْ بتعريف أفكار نظرية آرتو؛ حيثُ أعطى اكتشاف مسرح بالى لارتو مسرحاً يختلف عن المسرح الغربي ذي النزعة النفسية ذلك المسرح الذى يناقض المسرح الشرقي ذا النزعة الميتافيزيقية  فهو بلا كلمات إذ يبدع المسرحي لغة جسمانية جديدة أساسها الإشارة والأصوات بلا كلمات؛ فهو مسرح يحذف المؤلف الموجود في المسرحية الغربية لصالح المخرج، وحاولتْ مع الكاتب تصور الصور السينيمائية فى إبداع صورًا موازية عن طريق المونتاج
أما القسم الثاني جاء  تحت عنوان قصائد مونودرامية مجموعة «رجل طيب يكلّم نفسه» درستْ فيه د/نجوى العلاقة بين النص الشعري والمونودراما وارتباط المونودراما بفكرة الاغتراب وكيف عاش الكاتب حالة الاغتراب وحاول مقاومتها باستدعاء الحضارة الفرعونية في قصيدة «عالياً عند الفرعونة» المونودرامية لتأكيد وجوده وهويته واتصال الماضي بالحاضر وحاكى الاغتراب الإجتماعي مثل اغتراب الزوج عن الزوجة والاغتراب السياسي والديني في هذه المجموعة.
 أما القسم الثالث فهو دراسة في مجموعة «أشياء ليس لها كلمات» قصائد سريالية درامية اذ درستْ فيه تأثر الشاعر بالسريالية في معظم مبادئها حيث الغوص في اللاشعور والأحلام والانغماس في اللاوعي والتعظيم من شأن المصادفات المتناقضة بين الأشياء والظواهر وإلهام العقل الباطن المتروك على سجيته والثورة الاقتصادية من أجل العدالة، كما أوضحتْ د / نجوى فى هذا القسم كيف تميَّز جرجس شكرى عن السرياليين فى رفضه مساءلة التراث التقليدى والثابت والثورة عليه والالتزام بالحاضر فقط، مع ضرورة التواصل بين القديم والجديد ليضع سريالية خاصة به.
ورأتْ د / نجوى أن تستخدم مصطلح السريالية بدلاً من الفانتازيا لأنها رأت أن جرجس فنان تشكيلي يصنع فنه بالكلمات وارتبطت السريالية بالفن التشكيلي أولاً ثم انتقلت إلى الأدب أما الفانتازيا فارتبطت بالأدب عن طريق علم النفس. 
كما أوضحت أن الشاعر تأثر في هذه المجموعة بالسريالية في معظم مبادئها حيث الغوص في اللاشعور والأحلام والانغماس في اللاوعي والتعظيم من شأن المصادفات وتمجيد التجارب المكبوتة والذكريات الدفينة والعلاقات المتناقضة بين الأشياء والظواهر وإلهام العقل الباطني المتروك على سجيته والثورة الاقتصادية من أجل العدالة.
وتبين د / عانوس فى كتابها اختلاف جرجس شكري عن السرياليين في مسائلة التراث التقليدي ومحاولة رفض التاريخ والثورة عليه والالتزام بالحاضر فقط لأن التاريخ لا يمكن حذفه ولا يمكن حذف حفريات المعرفة، ولا يمكن الثورة عليه ولكن يجب أن يتم التواصل بين الماضي والحاضر بمعنى لا نقف عند الماضي فقط ونمجده.
وجاء القسم الرابع بعنوان قصائد سريالية درامية مجموعة « تفاحة لا تفهم شيئاً» إذ بينتْ من خلاله د/نجوى كيف منح جرجس شكري للأشياء حياة خاصة وأعطى تفاحته حياة؟؛ فهي الوحيدة التي تفهم كل شيء، وتحمل تناقض الوجود الزمني وضرورة تجديد التاريخ والوجود المعرفي والحفاظ على الهوية في صورة سريالية درامية.
وترى دكتورة عانوس أن جرجس شكرى منح الأشياء حياة خاصة وأعطى تفاحته حياتها فهي موجودة في مطبخ الكاتب ترقص السكاكين حولها وفتاة خائفة، والتفاحة لا تفهم شيئاً، فالسكاكين ترقص لأنها قادرة على الدفاع عن نفسها وعن حماية اقتصاد الكاتب وعن جسده الوجودي، بينما لا تفهم التفاحة سبب وجود السكاكين وربما يكون عدم الفهم مرتبطاً بالمعرفة الاقتصادية التي يلزمها تقطيع الرأسمالية، وإلى ضرورة إعادة تركيب الواقع فى صورة سريالية.
أما القسم الخامس فجاء بعنوان مجموعة «بلا مقابل أسقط أسفل حذائي» قصائد سردية، لتقدمْ من خلاله توصيفاً لهذه المجموعة فهي سردية تحكي عدة حكايات مستخدماً فيها الكاتب فعل «كان» المتناص من حكايات ألف ليلة وليلة مؤكداً اتصاله بتراثه الحكائي وانتقلتْ إلى دراسة التقنيات السردية في القصيدة.
وأوضحتْ أن هذه المجموعة تصور حكايات متكررة ودائمة في قصيدتي «دائماً وربما» علي الرغم من أن الكاتب يشك في حدوثها فهي متصارعة ومتكررة في الماضي كان / كل / ويشك في حدوثها في الحاضر والمستقبل فهي صراع بين القديم والتجديد والجديد فربما تبدأ الثورة على الأوضاع المأزومة وربما يتم هدم الثوابت وربما تزدهر الذات سياسياً واقتصادياً وربما تنتصر على الرأسمالية وربما نقضي على التلوث بوجه عام سواء أكان تلوثاً بيئياً أم سياسياً أم اجتماعياً، أما عن قصيدة «لم تعد بقايانا مدهشة»، ناقشت فيها الدكتورة نجوى مع الكاتب بقايا الزمن  الوجودي والأجساد المعرفية فالخطاب المعرفي للذات أصبح مفقوداً، وقصيدة «بلا مقابل» ناقشتْ فيها  فيها مع الكاتب انقسام الوعي الحقيقي ودفع المعني لإخفاء الصورة الحقيقية وعيون المعرفة والتحرر الصحفي وانتهت بأن الوجود عند الكاتب يسقط ولاجدوى منه فالجميع يسقط بلا مقابل، وعن قصيدة «جرجس» اكتشفتْ أن الكاتب استحضر شخصية (مارجرجس) أو(مارجرجيوس) أو(جورج) وهو قديس معظم الكنائس حسب التقاليد الأرثوذكسية ورمزه الزارع أو الفلاح وقد اضطهده القيصر دقلديانوس الذي أمر باضطهاد المسيحيين وعلق هذا الأمر على جدار بلاطه الملكي فمزق جرجس هذا الأمر واستمر القيصر في اضطهاده وتعذيبه ولكن خلصه الرب من كل أذى وعندما حطم جرجس الأوثان ضربه الأهالي بالنشاب ومسمروا خفه في رجليه وسحبوه بخيول غير مروضة حتى مات شهيداً مدافعًا عن الفقراء.
كما جاء القسم السادس بعنوان «والأيدي عطلة رسمية» قصيدة سردية ومسرح الأشياء، ووقفتْ عند العنوان ثم انتقلت إلى الإجابة عن سؤال كيف تكون الأيدي عطلة رسمية؟؛ فافتقاد الإنسان لأدوات المعرفة وهي العين والفم واليد يؤدي إلى تعطيل الخطاب المعرفي، ودرستْ التقنيات السردية، ثم أنتقلتْ إلى الجزء الثاني وهو مسرح الأشياء فى مجموعة « فى محبة الأشياء» إذ وضع للأشياء (السكاكين والمطرقة والصحن وزيد وعمرو) حياة وجعلها تقف على خشبة المسرح لتمثل شخصيات بعينها من واقع الرأسمالية الاقتصادية والسلطة الدينية وغيرها...
وتوصلتْ أن هذه القصائد سردية تحكي عدة حكايات «حكاية حاسرة الرأس»، و»صاحب الرأس.. الخ» ويستخدم في القصيدة الأولى «حكاية حاسرة الرأس» من مجموعة حيوانات ترث الملكوت مصطلح الحكاية، مَّما يؤكد اتصاله بتراثه الحكائي.
كما توصلت إلى أن تأثر جرجس شكري بطه حسين وقراءته بوعي وبرؤية أعمق هو الذي شكّل مجموعته الشعرية فهو لم يقبل أغلال التراث الثقيلة التي تحول بينه وبين التجديد، ولم يقبل التحول فقط بل الثبات والتحول ولم يرفض التراث والتاريخ ولكن لابد من اتصال القديم بالحديث.
لم يكتب الشعر العمودي والتفعيلات لأن التفعيلات لا تتسع للتعبير عما بداخله وعمد إلى التجديد الحداثي، وكتب شعراً نثرياً سينمائياً وتشكيلياً وسريالياً، واتصل بقديمه الثابت فكتب شعراً سرديا، حكى فيه الحكايات القصيرة مستخدما فيها «فعل كان» (تناص من ألف ليلة وليلة) وعندما شعر بالغربة أعاد كتابة الأسطورة والرموز الفرعونية برؤية معاصرة عاد إلى تراثه السردي وحكايات ألف ليلة وليلة، وتراثه الفرعوني، والديني.
وتوصلت د/ نجوى أن الشاعر أبدع صوراً جديدة مغايرة للصور الشعرية التقليدية وللصور المألوفة في قصيدة النثر فهو يرسم الصور فناناً تشكيلاً ويطبعها في النص وينظمها ويقطعها ويتابعها ويكثفها فيقوم بالمونتاج السينمائي ويعطي الأشياء حياة فالسكاكين تذبح وتحزن وتفرح وتحمي صاحبها والمطرقة تقوم بدورها والتفاحة تفهم كل شيء ويعطي أيضاً للكائنات تجسيداً فالكلب صديق الطفل وحامي اللص والقطة تداعب الشاعر والحمار يقف ساخراً من عبث الحياة كل هذا في تناقض شديد كما يسأل جرجس شكري في صوره عن الوجود بعبثية الحياة والموت وتتحول أعضاء الجسد إلى أدوات معرفية تتصارع من أجل إثبات الوجود وتواصل القديم مع الحاضر والمستقبل. 
كما توصلت – أيضًا – إلى أن الشاعر أبدع فى مجموعة القصائد المعنونة « فى محبة الأشياء» مسرح الأشياء إذ تحولت الأشياء إلى شخصيات تعتمد على اللغة الجسمانية والأصوات والصراخ تارة ، وتتحاور وتخاطب الجمهور تارة أخرى فالسكاكين تقطع فى الجسد القومي لترتفع مكاسبها الاقتصادية على حساب المجتمع وتطالب من الذات المعرفية عدم الكراهية فهاهو النشيد القومي عنوان القصيدة، وتتحاور المطرقة فى مسرحية المطرقة مع الحداد حوارا حادا مكرراً ويتطور الصراع المسرحي إلى صراع دائم بين السلطة السياسية والشعب والسلطة المعرفية.
أما الصحن فهو مسرحية أشياء أيضاً  يدور الحوار فيها بين الأم والذكريات التى تقدس الصحن الفرعوني الذى اشتراها الجد من مهملات جنود الاحتلال وتحرك الصحن وذهب إلى العراف وطمس معالمه وعاد مطموسا وظل الكاتب يتسامر معه ويفكر متى سيموت الفكر المعرفي الذى يجعلنا نقتبس من الغرب أشياءاً على الرغم من أنها تخصنا.
أما زيد وعمرو فيمكن قراءتها علي أنها  مسرحية مستلهمة من التاريخ المعرفي للدولة العثمانية ويشير فيها الكاتب إلى حالة التمرد المعرفي على أوضاع النحاة، وإن كان لا يقصد هذا.
وفى النهاية أود أن أشكر دكتورة نجوى على منجزها الفكرى الذى استطاعت من خلاله ابتكار كيانات معرفية حفرت بها ذهن المتلقى ليشاركها استنباط معالم فكرية تحلق فى سماء عالم لا متناهى من الأسئلة والاستفسارات، وبالتالى فالعلم قائم والمعرفة متاحة فى أى زمن وبأى شكل وتحت أى ضغوطات نفسية كانت أم سياسية أم اقتصادية، أنا موجود إذن أفكر وأبدع وأتحرر من قيود العالم السلطوية.


أسماء بسام