تطور مفهوم التجريب المسرحي عند المسرحيين الجدد

تطور مفهوم التجريب المسرحي عند المسرحيين الجدد

العدد 883 صدر بتاريخ 29يوليو2024

لم يستطع المشتغلون في عالم المسرح تحديد تعريف واضح وثابت لمفهوم «التجريب المسرحي»، رغم تعدد الجهود والتجارب في هذا المجال، ولعل مصطلح التجديد كان هو الأقرب لهذه الاتجاهات، فمنذ نهايات القرن التاسع عشر بدأ المسرح يتغير جذريا، وتحديدا منذ ليلة 10 ديسمبر 1896، حين عرضت مسرحية «الملك أبو» لألفريد جاري على مسرح «الأوفر» بباريس، تلك المسرحية التي أحدثت دويا كبيرا في الأوساط الفنية، لدرجة أن البعض وصفها بالبداية الجديدة للمسرح العالمي والانطلاقة المغايرة، مثل الشاعر الإنجليزي «ويليام بتلر ييتس» الذي وصفها بأنها «علامة أنهت مرحلة كاملة في الفن».
ولم يجيء هذا الرأي من فراغ، فقد كانت المسرحية بالفعل منطلقا لظهور مدارس واتجاهات ذات طابع تجريبي في المسرح الطليعي.
وظلت الرؤى التجريبة في المسرح العالمي في حالة تنامي، حتى وصلت ذروتها في النصف الثاني من القرن العشرين مع ظهور مدارس طليعية في المسرح، وتأسيس فرق مسرحية، كانت تعتمد على اختراق الحدود الشكلية والنمطية للمسرح، استحداث ظواهر مسرحية مثل مسرح المقهى ومسرح الغرفة، ومسرح الشارع، وغيرها، وكذلك تكثيف الاهتما بفنون الأداء وعلى رأسها تدريب الممثل، والاعتماد على خصوصية المكان من خلال استلهام الطقوس الشعبية والعادات اليومية في محاولة للاقتراب من الجمهور، من خلال كسر حاجز الإيهام.
وقبل ذلك تحرير النص المسرحي من فكرة الخوف، على اعتبار أن المسرح التجريبي، وهو مسرح يخترق الحدود على حد تعبير المخرج الأمريكي»ريتشارد شيكنر» الذي يقول: «إن المسرحي التجريبي هو الذي يظل دوما يخترق الحدود ذهابا وعودة، وإن الحدود ليست مادية فقط، بل هي مادية وفكرية في الوقت نفسه، إذ ثمة أمكنة وأزمنة يتعين فيها علينا أن نعبر هذه الحدود».
ومنذ ستينيات القرن الماضي ظهرت في المسرح العربي تجارب عملت على كسر النمطية المسرحية، خاصة بعد ظهور بيان «نحو مسرحي عربي جديد» ليوسف إدريس ومن بعده صدور كتاب «قالبنا المسرحي» لتوفيق الحكيم عام 1964، ومن بعدها ظهرت بيانات المسرح الاحتفالي في المغرب، ثم توالى ظهور رؤى تجريبية في التأليف عند سعدالله ونوس وميخائيل رومان وممدوح عدوان ومحمود دياب وألفريد فرج، ومحمد الماغوط، ويوسف العاني ومحمد النشمي وغيرهم، ومخرجين مثل كرم مطاوع وسعد أردش وقاسم محمد  وعبدالكريم برشيد وعبدالقادر علولة والطيب صديقي وعبدالله السعداوي وروجيه عساف وغيرهم.
وجاء تأسيس مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي عام 1988 ليكون ملتقى يجمع محبي التجريب المسرحي حول العالم، ومن ثم تلاقي التجارب وتبادل الخبرات الفنية، وهذه هي رسالة المهرجان الأولى رغم ملاحظاتنا الكثيرة على بعض دوراته، إلا أن إقامته بشكل دوري تمثل أهمية قصوى، وكذلك الدور الذي تقوم به -في السنوات الأخيرة- الهيئة العربية للمسرح- بعد تأسيسها بدعم من سمو الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة.
وكثرت في السنوات الماضية  الورش المسرحية، للتأكيد على أن المسرح فعل جماعي، يقوم على التكامل بين عناصره، التي بات من الضروري أن تكون عناصر غير تقليدية.
ومن شروط التجريب أن يكون على أرض ثابتة، فعلى حد تعبير د. محمود نسيم في كتابه «فجوة الحداثة»: «إن التجريب (كفعل التجريب بوجه عام) لا يمكن أن يتأصل في بلد بينه وبين عتبات الديمقراطية أشواط بعيدة، ولا يمكن أن يوجد على سبيل الحقيقة لا المجاز في قطر لا يسمح للمرأة بالصعود إلى خشبة المسرح. ولا يزدهر في دولة لا تسمح مؤسساتها بوضع المسلمات موضع المساءلة، ولا تحت قيادة عسكرية أو شبه عسكرية لا تعرف سوى معنى الطاعة المطلقة والتصديق المطلق للقائد الزعيم الملهم، ولا في ظل سلطة سياسية لا تعرف سوى معنى الإجماع، ولا تحت هيمنة طائفة دينية تنفي حق غيرها من الطوائف في الوجود أو الاختلاف عنها في التأويل. ولا يصل فعل التجريب إلى درجة الحضور في ثقافة تفزع من الآخر، وتتعود فيها الذات النظر إلى المغاير نظرة الريبة، كأنها تختزل الموقف المتعصب للقطر المنغلق على نفسه، ذلك الذي ينظر إلى الأقطار المختلفة نظرة التوجس المستريب، ولن يصل فعل التجريب إلى حده الأدنى في المجتمع الذي يقمع فيه النقل نقيضة العقل، أو تكون السيادة للتقليد على الاجتهاد، والإتباع على الإبداع، والتعصب على التسامح، والتمايز على المساواة، والتصديق على المساءلة، والإجابة المطلقة على السؤال المفتوح».
والتجريب قفزة نوعية في عالم الحداثة وما بعد الحداثة لإنتاج أنماط مغايرة من الفن في ظل التطورات التقنية التي تشهد ما بين لحظة وأخرى طفرات هائلة، وبالتأكيد فإن فترة السبعينيات من القرن الماضي قد شهدت ظهور جيل مغاير في المسرح المصري، حاول خلق حالة مسرحية تختلف عما قدمه جيل الستينيات ـ وهو الجيل الذي قدم نموذجا فريدا في تاريخ المسرح المصري والعربي على السواء.
حيث برز ما يمكن أن نسميه بـ«مسرح المخرجين»، حيث برزت أسماء مهمة في الإخراج المسرحي درست الإخراج دراسة أكاديمية عميقة في أوروبا أمثال سعد أردش وكرم مطاوع ونبيل الألفي وسمير العصفوري والسيد راضي وأحمد زكي وحمدي غيث وغيرهم، وهم الجيل الثاني بعد الرواد الأوائل جورج أبيض ويوسف وهبي وعبدالرحيم الزرقاني، وكان المخرج في مسرح الستينيات هو المحرك الرئيسي للعرض، رغم وجود مؤلفين هم أبرز من قدمتهم الحياة الثقافية في هذا المجال حتى وقتنا هذا أمثال محمود دياب وألفريد فرج وسعد الدين وهبة وصلاح عبدالصبور، ونعمان عاشور وميخائيل رومان ويوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي.
وكان لابد أن تخرج من رحم تلك التحولات تجربة فنية مغايرة تعتمد على أفق مفتوح من التجريب، وهذا ما فعلته الفرق المسرحية الحرة، والتي عملت في مرحلتها الأولى على البحث عن خصوصية فنية، لذا جرب كثير من المخرجين فنون المسرح الشعبي وامتد هذا التأثير إلى بعض الفرق مثل «الطيف والخيال» و»السرادق» و»شبرا بخوم» وصولا إلى الفرق الأحدث والتي ظهرت في السنوات الأخيرة والتي تستخدم الموروث الشعبي وتقنياته من «خيال الظل» و»الأراجوز» بتوظيف حديث يتناسب مع لغة العصر. وهذا ـ من وجهة نظري ـ يمنح التجربة ثقلا فنيا ويجعلها مرنة قادرة على الاستمرار.
ومع ذلك تبقى قضية «التمويل» قضية أساسية في بقاء واستمرار مثل هذه التجارب التي تقوم على ابتكار طرق مغايرة للفضاء المسرحي، حيث تسعى إلى ما وراء الخشبة، أو بمعنى أدق إلى «ما وراء القاعة» وهذا ما يذكرنا بالمؤلف المسرحي «لويجي بيرانديلو» ومعادلته المعكوسة في الشخصيات التي تبحث عن مؤلف، كذلك من خصائص هذه التجربة فكرة التأليف الجماعي والتصميم الجماعي، والتي تصنع المكونات المسرحية تحت مجهر التجريب مما يجعل الواقع في حيز المسألة، إن مرحلة المسرح المستقل، هي مرحلة يمكن أن اسمها بـ»مرحلة المسرح الجماعي» نظرا لتعدد التفاصيل والمصادر التي يستقي منها العرض، فلم تصبح للمخرج سلطة مطلقة في تحريك بنية الأداء، ولم يصبح الممثل هو ذلك النجم الذي يزهو على الخشبة، ولم يصبح النص هو الدائرة المحكمة غير القابلة للتغيير، بل أصبح الجميع موضع مساءلة من الجمهور الذي أصبح ـ بالتالي ـ ذاتا فاعلة في تكملة البنية الجمالية للعرض.


عيد عبد الحليم