خمسون عاماً من المسرح المجهول في طنطا (1) عروض الأعلام الأوائل في القرن التاسع عشر

خمسون عاماً من المسرح المجهول في طنطا (1) عروض الأعلام الأوائل في القرن التاسع عشر

العدد 771 صدر بتاريخ 6يونيو2022

إذا أردنا أن نبحث عن بدايات المسرح في طنطا، سنجد أن جميع المعلومات تؤرخ لهذه البدايات في الستينيات مع ظهور فرق الثقافة الجماهيرية أو فرقة طنطا القومية .. إلخ، مما يعني أن طنطا كانت محرومة من المسرح قبل ذلك، ولم يشاهد جمهورها أي عرض مسرحي إلا إذا حضر هذا الجمهور إلى القاهرة أو إلى الإسكندرية! وللأسف الشديد أن هذا الاعتقاد ظل راسخاً منذ الستينيات وحتى اليوم، ولم يشك أحد الباحثين أو المؤرخين بخطأ هذا الاعتقاد، مكتفياً بنقل المعلومات أو سماعها، دون أن يبحث بنفسه!! لذلك كان مشروعي البحثي والتأريخي قائماً على اكتشاف المجهول الذي لم يقترب منه أحد من قبل!!
وبناء على ذلك، أقول لأهالي طنطا، أبشروا .. فطنطا عرفت المسرح منذ عام 1881، حيث زارها أغلب المسرحيين، وعرضوا فيها مسرحياتهم!! وقد اجتهدت في البحث لأكتب هذه السلسلة من المقالات التي تغطي النشاط المسرحي في طنطا طوال خمسين عاماً من 1881 إلى 1931، ولعل عملي هذا يفتح الباب أمام الباحثين في طنطا كي يكملوا التأريخ بعد الفترة المحددة، أو أن يفسروا ما لم أستطع تفسيره، أو يكملوا النقص الموجود في كتاباتي إن كان فيها نقص!!
أول خبر فني وصلت إليه – تبعاً لما بين يدي من مقالات ووثائق – كان منشوراً في جريدة «الأهرام» عام 1881 يفيد بأن المسيو «هرمن الروسي» وهو من الحواة المشهورين - ومعه شهادات تدل على إتقانه الألعاب السيماوية - وهو عازم على التجول في الأنحاء الريفية وسيبدأ من مدينة طنطا! وربما يسألني القارئ: ما علاقة ألعاب الحواة بالمسرح في طنطا؟ سأقول له: إن أغلب ألعاب الحواة والسيرك كانت مرافقة لبعض الفصول التمثيلية والكوميدية التي تُقدم في هذه الفترة! وإن كنت – عزيزي القارئ – غير مقتنع بذلك، فأرجو ألا تهتم بالحواة عام 1881، لعلك تظن أنني أقحمت موضوع الحواة لأثبت وجود مسرح في طنطا عام 1881! لذلك سأخبرك بأن «مدرسة المرسلين الأفريقيين» في طنطا عرضت مسرحية كوميدية في يوليو 1881، كما أخبرتنا جريدة الأهرام أيضاً، لعلك بذلك تقتنع بأن مسرحاً كان في طنطا عام 1881، وللأسف سأكتب عن العروض المسرحية المدرسية في طنطا فيما بعد، أي بعد مجموعة المقالات التي سأتحدث فيها عن الأعلام والمشاهير، حتى لا تظن أن اكتشافاتي المسرحية في طنطا، خاصة بعروض الحواة أو بالعروض المدرسية، وهذا أمر طبيعي ومتوقع!!
وأنا أتفق معك تماماً بأن العروض المدرسية تُعدّ بداية طبيعية في أي إقليم من أقاليم مصر، وهي بداية متوقعة!! أما غير المتوقع أنك تقرأ معلومة تقول: إن جماهير طنطا شاهدت مسرحية «عايدة» عام 1886، ثم شاهدت مسرحية «ناكر الجميل»، كما أخبرتنا جريدة «الأهرام» في شهر مارس!! ولعلك عزيزي القارئ ستتوقع أن من قام بذلك مجموعة من الهواة، أو أية فرقة من الفرق الجوالة المغمورة!! للأسف يا عزيزي من قامت بذلك كانت أهم فرقة مسرحية في مصر في تلك الفترة، وهي فرقة «أبو خليل القباني»!! ولعلك ستشك في ذلك، وتقول: ربما قدمت هذين العرضين أثناء ذهابها أو عودتها من الإسكندرية مثلاً، مما يعني أن طنطا لم تكن المقصودة، لأن من غير المعقول أن طنطا لديها الإمكانيات لاستضافة عرضين من عروض القباني في هذا الزمن!! وكنت أتمنى أن أرد عليك بنفسي عزيزي القارئ لأثبت لك أن طنطا كانت على استعداد تام لأن تستقبل عروض فرقة القباني طوال شهر كامل، ولكن سبقتني إلى ذلك جريدة «المقطم» عندما نشرت كلمة في أكتوبر 1894، قالت فيها:
«حضر إلى العاصمة منذ مدة حضرة الأديب المتفنن أبي خليل أفندي القباني وشرع في تأليف جوق لتمثيل الروايات اختاره من نخبة الممثلين والممثلات وأعد له عدة من الروايات البديعة ووجه عنايته إلى ضبط ألحانها وتحسين مشاهدها ووقائعها على نمط يشوق الخاطر ويقر الناظر. وسيشرع في التمثيل بعد خمسة عشر يوماً وتكون فاتحة تمثيله في مدينة طنطا، حيث يقضي نحو شهر من الزمان ثم يعود إلى العاصمة ويمثل رواياته فيها. هذا وأن ما عهد في حضرة أبي خليل أفندي المشار إليه من طول الباع في هذا الفن الجميل بعد مزاولته له مدة طويلة بين مصر والشام يضمن له النجاح والفلاح».
وهناك فرق أخرى كانت تحدد فترات مسرحية في طنطا، مثل فرقة «يوسف الخياط»، التي تُعدّ امتداداً لفرقة سليم خليل النقاش – صاحب أول عروض مسرحية عربية يشاهدها الجمهور المصري في الإسكندرية عام 1876 – وقد أشارت جريدة الأهرام لجهود فرقة الخياط عام 1888، قائلة: «جاءنا من مكاتبنا بطنطا: أتم حضرة البارع يوسف أفندي خياط مدة التشخيص التي عيّنها لهذه البلدة. وقد بارحنا في هذا اليوم إلى دمنهور لتقديم خمس ليال هناك بناء على طلب حضرات وجهاء مديرية البحيرة. ونظراً لما رأيناه من براعة جوقه وانشراح العموم من حُسن التمثيل وجودة الإلقاء ورخامة الأصوات، نوطد الأمل بأن حضرات وجهاء مديرية البحيرة سيقبلون عليه فيعود من عندهم مكرراً الثناء عليهم».
سليمان القرداحي
زيارة فرقة سليمان القرداحي إلى طنطا كانت مميزة! فسليمان هو صاحب أول فرقة تعرض مسرحيات باللغة العربية في الأوبرا الخديوية عام 1882، وهو أول من عرض فنون التمثيل الشعبي المصري والشامي في باريس عام 1889، ناهيك عن شهرة فرقته في الإسكندرية لعقود طويلة. كل هذا دفع وجهاء طنطا وأعيانها إلى التواصل معه من أجل حضوره إلى طنطا وعرض مسرحياته فيها أواخر عام 1892. وقد نشرت ذلك جريدة «السرور»، قائلة:
«طلب بعض الوجهاء في طنطا من حضرة الأديب البارع سليمان أفندي قرداحي مدير الجوق الوطني أن لا يحرم بلدتنا من تقديم رواياته فيها، فحضر منذ مدة قريبة إلينا للنظر في هذه المسألة وإنفاذاً للطلب قد عزم حضرته على إحياء عشرين ليلة في بندرنا بعد فراغه من ليالي التشخيص المعدة للمنصورة فأهلاً به ومرحباً». وعلق صاحب الجريدة على الخبر قائلاً: «إن ما نعهده بحضرة مدير هذا الجوق من البراعة والشهرة وانتخاب أبدع المشخصين والمشخصات وأطيب الروايات، مما يجعلنا أن نشارك العموم بالثناء عليه، ولا عجب أن تقاطر الوجهاء والألباء عليه بمثل هذا الطلب لأنه جدير بالثقة. وخليق بإدارة الجوق وإحياء هذا الفن الأدبي اللطيف متعه الله بالنجاح والتوفيق كيفما سار وأين حل».
وعضدت جريدة «المقطم» هذه الزيارة، قائلة: «رغب بعض من أهالي بندر طنطا إلى حضرة المتفنن سليمان أفندي قرداحي أن يحضر إلى هذا البندر لتمثيل بعض رواياته الأدبية. وعساه أن يلبي الطلب فيرى من الأهالي الإقبال عليه لما يعهدونه في جوقة من الشهرة وإتقان التمثيل».
ظلت المفاوضات بين القرداحي وأعيان طنطا عدة أشهر حتى تم الاتفاق وتم التمثيل، وفي أثنائه نشرت جريدة «المقطم» - في نوفمبر 1893 - بعص التفاصيل، منها: أن أهالي طنطا لم يقبلوا على أية فرقة مسرحية مثلما أقبلوا على فرقة القرداحي، التي مثلت عشرة عروض مسرحية، بعد أن جهز أعيان طنطا مسرحاً لائقاً بالفرقة أُقيم في مكان متميز في طنطا أمام «الكُوبري الخشب» إلى الجهة البحرية! وأول مسرحية عُرضت كانت «صلاح الدين الأيوبي مع قلب الأسد». «فأجاد الممثلون كل الإجادة وصفق لهم الحضور تصفيقاً متوالياً، وألقى حضرة الممثل البارع «سليمان أفندي حداد» خطبة تناسب المقام، ختمها بالدعاء للجناب الخديوي. ثم تلاه حضرة الأصولي البارع «داود أفندي عمون» المحامي، وارتجل خطبة وجيزة أيضاً». وأكملت الجريدة حديثها، وعلمنا منه أن الفرقة عرضت أيضاً مسرحية «هملت»، وستعرض مسرحية «إستير». وظلت الفرقة تمثل في طنطا حتى يناير 1894، ثم تركتها وذهبت إلى المنصورة ثم إلى المحلة الكبرى، حيث تعاقدت مع المدينتين على مجموعة عروض أسوة بعروض مدينة طنطا لمدة شهر! هكذا أخبرتنا جريدة الأهرام.
إسكندر فرح
نجاح القرداحي في طنطا أغرى أشهر فرقة مسرحية عربية في مصر، ظهرت في القرن التاسع عشر، وهي فرقة إسكندر فرح على الحضور إلى طنطا وعرض مسرحياتها فيها! وإن كنا قرأنا أن القرداحي عرض مسرحياته في مكان تم تجهيزه أمام الكوبري الخشب، فإن جريدة المقطم في يوليو 1894 أخبرتنا أن فرقة إسكندر عرضت عروضها على مسرح نقال بطنطا، قائلة: «مثل جوق حضرة إسكندر أفندي فرح مساء أمس رواية «صلاح الدين وقلب الأسد» فأجاد الممثلون كل الإجادة، وخصوصاً ممثل وليم وصلاح الدين وقلب الأسد وجوليا. وكان حضرة الشيخ سلامة حجازي يمثل دور الفارس وليم فأجاد وأطرب. وسيمثل الجوق غداً رواية «خليفة الصياد»، ثم يذهب بعد ذلك إلى طنطا للتمثيل فيها في التياترو النقال الذي صُنع لهذه الغاية، وجاء متقناً كل الاتقان».
أول مسرحية عرضتها فرقة إسكندر كانت «شهداء الغرام»، ثم مسرحية «محاسن الصدف» بطولة الشيخ سلامة حجازي. وكما فعلت فرقة القرداحي فعلت فرقة إسكندر، حيث تركت طنطا إلى المنصورة والمحلة الكبرى، وعرضت فيهما مجموعة من المسرحيات، كما أخبرتنا بذلك جريدة المقطم. وبعد عامين جاءت الفرقة مرة أخرى إلى طنطا، وعرضت مسرحية «صدق الإخاء» تأليف المحامي المشهور «إسماعيل عاصم» - والد الموسيقي الشهير مدحت عاصم – وتم تخصيص ريع هذه الليلة لبطل العرض الشيخ سلامة حجازي! والطريف في الأمر أن العرض تم على خشبة «التياترو الجديد» كما أخبرتنا جريدة «لسان العرب» في إبريل 1896. وهذا يعني أن مسرحاً جديداً تمّ بناؤه في طنطا، بعد أن كان التمثيل يتم في أماكن مفتوحة أو مسارح نقالة كما مرّ بنا. ولأسف لم تخبرنا الجريدة باسم هذا المسرح أو مكانه في طنطا!!
وفي إبريل 1898 مثلت الفرقة في طنطا مسرحية «السيد» المشهورة باسم «غرام وانتقام»، وقام ببطولتها الشيخ سلامة حجازي، وكان العرض برعاية مدير (مديرية/محافظة) الغربية «سعد الدين باشا» وريع العرض خصص لجمعية التوفيق القبطية بطنطا، تعضيداً للأعمال الخيرية وتخفيفاً لويلات الفقراء والمحتاجين، كما قالت جريدة «مصر». وقد أشادت الجريدة بالفرقة وموقفها العظيم، كونها لم تتلقَ أجراً عن هذه الليلة، واكتفت بأجور انتقال الفرقة وسفرها من وإلى طنطا! ولكن سكرتير جمعية التوفيق كان له رأي آخر، نشره في جريدة «المقطم»، قائلاً:
«حضرات الأفاضل أصحاب المقطم الأغر، ورد في العدد 674 من جريدة مصر الغراء الصادر في هذا اليوم تحت عنوان (طنطا لوكيلها العام). عند ذكر الليلة التمثيلية التي أحيتها جمعية التوفيق الفرعية في هذه المدينة إعانة للفقراء أن حضرة إسكندر أفندي فرح مدير جوق التمثيل أبى أن يتقاضى من الجمعية أتعاباً إلا مصاريف نقل الجوق من مصر إلى طنطا مفضلاً صرف الذي يأخذه على الفقراء والمحتاجين. ولما كانت الحقيقة أن حضرة إسكندر أفندي فرح قد تقاضى من الجمعية المبلغ الذي اتفقا عليه قبل التمثيل بتمامه وهو يزيد عن أتعابه ومصاريفه، فما ذكره حضرة وكيل الجريدة ليس له نصيب من الصحة. وإظهاراً للحقيقة اضطررنا أن ننشر هذه الرسالة على صفحات جريدتكم الغراء التي أعدت نفسها لخدمة الإنسانية. [توقيع] سكرتير جمعية التوفيق القبطية بطنطا».
ظلت فرقة إسكندر فرح – رغم شهرتها وتألقها في القاهرة – تعرض عروضها في طنطا من حين لآخر. ففي يناير عام 1901 عرضت مسرحية «صلاح الدين الأيوبي». وفي مارس مثلت مسرحية «صدقا الإخاء»، وفي إبريل مسرحية «غرام وانتقام»، كما قالت كل من جريدتي مصر والمقطم.
وفي نوفمبر 1902 قالت جريدة «مصر»: «تحتفل جمعية التوفيق الفرعية في طنطا مساء اليوم بإحياء ليلة خيرية يمثل فيها جوق مصر العربي رواية أدبية يخصص دخلها لعمل البر والإحسان. وقد دعي للخطابة فيها حضرات الفاضلين صاحبي العزة إسماعيل بك عاصم المحامي الشهير، والدكتور إبراهيم بك منصور رئيس جمعية التوفيق المركزية بالعاصمة، فنحث الجميع على حضور هذه الليلة للاشتراك في فوائدها».
آخر خبر وجدته في الصحف متعلقاً بعروض فرقة إسكندر فرح في طنطا، كان في يوليو 1904، نشرته جريدة «الوطن»، قائلة: «مثلت أمس جمعية النهضة الحديثة بطنطا رواية «مغائر الجن» بواسطة جوق مصر العربي، فأجاد الممثلون والممثلات كل الإجادة وخصوصاً حضرة الممثل البارع الشيخ سلامة حجازي، حتى صفق لهم الحضور مراراً واستعادوهم تكراراً وكان الحاضرون عديدين».
 


سيد علي إسماعيل