أزمة العقل العربي وسقوط الإنسان في المعجنة

أزمة العقل العربي وسقوط الإنسان في المعجنة

العدد 594 صدر بتاريخ 14يناير2019

تأتي مسرحية المعجنة , التي يقدمها المسرح القومي الآن - - , تأتي كإعلان صريح عن أزمة العقل العربي , وموت الفكر والفلسفة وأحلام الإنسان , تلك الحالة التي تضع المؤلف المتميز دكتور سامح مهران في قلب المشهد الفني والثقافي , فقد كتب نصا خلابا مشاغبا , يموج وصلا وبوحا وجموحا ومساءلة , فاستطاع أن يعانق الحياة , ويلون الأحلام ويقبض على جمرات الروح والجسد .
تواجهنا هذه التجربة بثورة عارمة على التيار السائد في الثقافة العربية الذكورية , فهي مفارقة لاذعة تدين مفاهيم المجتمع الأبوي المتسلط  , وتعلن العصيان على عصور القهر الطويل - - , تضع الرجل في قلب معاناة المرأة , ليدرك أبعاد الجحيم التاريخي الطويل , الذي أشعله الرجال , لتحترق فيه النساء - - , وفي هذا السياق أصبحت الحالة المسرحية صوتا رافضا وضوءا كاشفا للبذاءة التي توحشت في قلب مجتمع يرتد بقوة نحو هاوية السقوط - - , فإذا كانت المجتمعات الشرقية القديمة والحديثة , لا تزال تتبنى نفس الأفكار التي تدور حول السلطة المطلقة , والفرد الحاكم الإله , فإن هذه الأنساق المغلقة لا تعترف بالحياة --, تتجه نحو الموت وما بعده , ترى الوجود الإنساني على الأرض هو خطوة في الطريق إلى جنة ما بعد الموت - - , فالحياة ليست غاية في حد ذاتها , لذلك يعجز الناس في بلادنا عن امتلاك الذات والحاضر , الذي يغيب حتما في دوامات نوستالجيا الحنين إلى الماضي, وعذابات الخوف من المستقبل .
بعيدا عن أسر النمطية والقيود تنطلق مسرحية المعجنة لتبعث تلك الاندفاعات اللاهثة نحو صدمة المعرفة , وسحر الاختراق ,المشاهد المتوالية تدين القمع والبرودة والغياب , تشاغب مفاهيم الوعي , وصراعات الرغبة وامتلاك الذات , ترسم مسارات الوجود والعدم , وتروي عن الأسرار والليل والجسد , وانهيارات القيم -- , وهذا تتبلور التساؤلات الساخنة عن الإنسان عندما يصنع تابوهاته , ويغيب مع الردة والجمود , ليعيش مؤرقا بالبحث عن الخلاص , بعيدا عن برودة موت معنوي آثم, يستلب النبض والدفء والروح --, ويظل العرض مشتبكا مع دلالات المنظور الأبوي المتسلط, عبر لغة درامية شديدة التكثيف والبلاغة , تكشف ببساطة عن عبثية هذا المنظور , وقوة تأثيره في أعماق الوعي الاجتماعي , وامتلاكه لآليات حادة تمتد إلى كيان الرجال والنساء لتحول وجودهم إلى جحيم مشتعل
مخرج المسرحية هو الفنان أحمد رجب , الذي تميزت لغته بالبساطة والرشاقة والحيوية , بعث  ثورة جمالية تموج بالحرارة والإيقاع , وتحمل قرارا شابا بالانتماء للمسرح والجمهور والحرية , كسر جمود السائد والمألوف , فامتزج الخاص بالعام , وظلت بصماته حاضرة بقوة في قلب الحالة المسرحية الباحثة عن المستقبل ,
تدور الأحداث في إطار تشكيل سينوغرافي شديد الدلالة والأناقة , يأخذنا إلى تلك الفيلا الصغيرة , المسكونة بالصراعات والحقد والكراهية , الضوء الناعم يتضافر مع تفاصيل ومفردات المكان, والموسيقى والاستعراضات يبعثون وهجا كاشفا , تتمزق معه كل أقنعة الزيف , ليضعنا المؤلف د . سامح مهران في قلب الحقيقة المفزعة , حين وضع كل شخصياته في الزاوية الحرجة , ومنحها سحر الصعود لإلى هاوية السقوط ---, الأب يأتي كنموذج لمنظور الفكر الأحادي المغلق , يبدو كديكتاتور متسلط صغير , مشوه الأعماق -- , جاف المشاعر يموج عنفا وقسوة وعجزا مخيفا عن الإدراك , تركته زوجته ومضت , لتهرب من نيران جحيمه , وظل مؤرقا بغيابها , واتهامها بالعهر والسقوط .
تأخذنا خطوط الحركة وموجات الضوء إلى الابنة الشابة الجميلة , الأنثى الناضجة , التي اعتادت أن تخلع ملابسها كل مساء , لتراقص الليل والأحلام, كانت تدعو صديقها إلى غرفتها , لتروي رغباتها الوحشية  المسكونة بجموح جسد يبحث عن الاكتمال , سمعها أبوها في تلك الليلة , وأطلق النيران , نزل من حجرته وبحث طويلا -- , فوجد امرأة شهية لعوب , عرف أنها صديقة ابنه , ورغم ذلك دفعها إلى حجرته وعاش معها ليلة اندفاعات الجموح  -- , شاغبته وقررت أن تتزوجه , لعلها تمتلك المعنى والجسد والكيان -- , وفي هذا السياق الملعون المتوتر , يعجز الأب عن إدراك معنى رغبات ابنته الشابة , التي صارحته بعذابات جسدها والروح , واندفع هو إلى الليل والفياجرا والشغف المجنون , أما ابنه الشاب الممزق بالقهر والاستبداد والغياب , فلم يكن إلا صورة أكثر تشوها من أبيه , ابن شرعي للمجتمعات الأبوية القاسية , رفع السلاح على أخته حين عرف بعلاقتها العاطفية , رغم أنه يمارس نفس السقوط مع امرأة عاهرة في حجرته .
تتضح أبعاد الفزع الوحشي المخيف , ويشعر الأب أنه في كابوس بيته أصبح أكثر قبحا وانحلالا  من بيوت الدعارة -- , الموسيقى تتضافر مع الغناء لنلمس تكثيفا جماليا دالا , لحقيقة مجتمع ممزق غائب عن الوعي والوجود -- ,  وهكذا يأخذنا الضوء إلى عودة الزوجة الهاربة لبيتها , معها طفلة صغيرة حالمة تتحرك دائما بالباتيناج , تواجه زوجها وغريمتها لتتصاعد إيقاعات الصراع , فيسقط الزوج الثري --, ويموت ليبقي سر ثروته الضخمة غائبا عن الجميع .
تأخذنا رؤى دكتور سامح مهران إلى مواجهة جمالية شديدة الثراء , عبر الخطابات الحارة المتوترة , التي تدين مفاهيم النوستالجيا , وتخترق آليات المجتمعات المتسلطة , ليضعها موضع النقد والتساؤلات العقلية -- , الحالة المسرحية تموج بالجدل الثائر , ويظل أبطال العرض يبحثون عن الثروة -- , فيأتون بالشيخ النصاب المراهق , ليحضر روح المرحوم , حرارة الجروتسك تبعث تيارات الجمال والإبداع --, وتأتي الروح في جسد الفرعون العظيم --, يتجه بكل جموحه إلى الابنة الشابة الساحرة ,ونصبح في إطار تشكيل جمالي شديد الإبهار , يأخذنا إلى معبد الفرعون داخل الهرم العظيم , الألوان الذهبية تتضافر مع الحوار -- , والروح تدعوها  أن تدخل التاريخ وتحلم وتمتلك أسرار الحياة  وتكتب حكايتها , الشابة الجميلة يعاودها حلم الفستان والطرحة , تكاد تندفع  إلى خديعة الماضي ومقبرة الفرعون -- , حيث الموت الأكيد , لكن اللحظات الأخيرة وصرخات الطفلة الصغيرة القادمة من قلب الوعي والمستقبل -- , تنقذها من الموت , وتعود لأسرتها بعد أن أدركوا جميعا سر الحكاية وأصلها ومفتاحها .
ينتهي العرض البديع الذيشارك فيه النجم الفنان ناصر شاهين , مع الشباب الواعد – مروان عزب , الجميلة إيمان رجائي , أسماء عمرو , هايدي عبد الخالق , محمد فاروق , محمد العزايزى , مريم إسلام , عمر المختار , ومحمد أبو يوسف .
كان الديكور للفنان صبحي السيد , والموسيقى لأحمد حمدي رءوف , والاستعراضات لمحمد ميزو , والتوزيع الموسيقي لمحمد حمدي رءوف .


وفاء كمالو