«يا شيخ سلامة» ساحر الطرب يعيد تشكيل الوعي الفني

«يا شيخ سلامة» ساحر الطرب يعيد تشكيل الوعي الفني

العدد 828 صدر بتاريخ 10يوليو2023

يستحضر الشاعر والكاتب المسرحي يسري حسان في مسرحيته الاستعراضية الغنائية «يا شيخ سلامة» روح الشيخ سلامة حجازي ليضع حدًا للفن الهابط المتمثل في المهرجانات، يستدعي الساحر ليلقف ما قد صنعوا، يتجسد الماضي بكل عنفوانه ليحرر الحاضر من سطوة الذوق المتدني، يأتي بخطاب مسرحي من عمق الماضي ليقول كلمة الفصل فيفكك الحاضر ويعيد بناءه من جديد على أسس رائد المسرح الاستعراضي والغنائي سلامة حجازي. يبحث يسري حسان طوال مسرحيته عن سبب تردي ذائقة المتلقي الفنية فصار يندمج مع أغنيات المهرجانات فكان سببًا في وصولها إلى القمة، يذهب إلى عقر دارها ويناقش معها القضية وصولا إلى هدفه الذي بلغه في النهاية، مستعينًا بأركانها وصناعها ليفتت فلسفتها الواهية ومن ثم يعيد تشكيل الوعي على أسس سليمة، مستحضرًا رائدًا من رواد المسرح الاستعراضي والغنائي ليكون القيِّم والحكم على المأزق الثقافي الذي يعيش فيه المجتمع. يعرض يسري حسان النجاح الذي حققته أغنيات المهرجانات من خلال الفن الهابط، كما يعرض النجاح الذي حققه سلامة حجازي من خلال الفن الهادف، وما بين الاثنين يجلس المتلقي يقارن ويعي، يقدم النص المسرحي بشقيه؛ لغة صناع المهرجانات وكلمات أغنياتها، ولغة صناع الفن الراقي وكلمات أغنياته وتواشيحه.  
جوه العربية فوق الكوبري
قاعدة السنيورة وطال صبري
ما تحني بقى يخرب بيتك.     
 كان المسرح الغنائي الاستعراضي سمة من سمات القرن الثامن عشر في انجلترا وكان النجاح الحقيقى حينما قدمت أوبرا جون جاي «أوبرا الشحاذ» 1728 . تلك المسرحية الغنائية  التى أنتجها رجل اسمه ريتش وحققت نجاحًا منقطع النظير إذ أن صناعها أدركوا حاجة الجمهور لمثل تلك الأعمال التي تعلي من ذائقته وثقافته. وفي مصر ظهرت في الآونة الأخيرة محاولات لإعادة المسرح الإستعراضي من خلال عدد من الأعمال المسرحية التي تجتذب الجمهور الذي أصبح في حاجة إلى عرض متكامل أداء وغناء واستعراض لتحقيق المتعة الكاملة، ولو نظرنا إلى العصر الذهبي للمسرح الإستعراضي الذي كان بالتحديد في العشرينيات من القرن الماضي سنجد أن مسرحيات استعراضية مهمة قدمت على خشبات المسارح مثل محاولات سيد درويش؛ أوبرا «ملك» في الأربعينيات التي انتجت ولحنت اثنين وثلاثين أوبريت، وجاء دور الفرق الغنائية والاستعراضية المسرحية في الستينيات التى قدمت عددًا من الأوبريتات الهامة جدًا مثل «القاهرة في ألف عام» ملك الشحاتين، دنيا البيانولا، ليلة من ألف ليلة، زباين جهنم، مصر بلدنا، الغجر، العشرة الطيبة، رابحة رابحة، عالم قرود، ست الحسن، الخديوي، عجايب، أحلام ياسمين، والحرافيش ووداد الغازية، بينما سنجد أن فترة الثمانينات كانت فيها محاولات جادة لإحياء المسرح الاستعراضي من خلال مجهودات عبد الغفار عودة لتقديم أعمالا تحفر في الوعي المصري وترفعه إذ قام بإنتاج «الخديوي» التي أخرجها جلال الشرقاوي و»ست الحسن» لعبد الرحمن الشافعي. ومن خلال مسرحية «يا شيخ سلامة» سنجد أن يسري حسان يقوم بمحاولة جادة لاستعادة عرش المسرح الاستعراضي سواء على الشكل أو المضمون، يقوم من خلالها بالدعوة لعودة الريادة للفن الذي يستطيع رفع الوعي لدى الجمهور للارتقاء بسيد الفنون. 
تبدأ المسرحية بظهور الشخصيات الرئيسية في المسرحية والذين يجسدون الحاضر؛ كماشة (كهربائي) وبغاشة المغنيان، والمصور مسمار والمخرج خشبة (نجار) وكذلك فتلة الشاعر (حلاق) يصورون فيديو كليب مهرجانات، وتبدو حوراتهم التي جاءت بلهجة عامية باسلوب متدنٍ يبرز الوضع القائم المكون للواقع، شخصيات تحمل اسماء وثيقة الصلة بنوع الفن الذي يقدموه، دخلت الشخصيات مجال الفن من الباب الخلفي إذ يكون كل شخص فيهم صاحب مهنة مثل المخرج النجار وكماشة كهربائي، تقوم تلك الشخصيات بتقديم أغنيات هابطة للجمهور كما يقومون بإلقاء اللوم عليه لأنه هو الذي يطلب ذلك. 
صوت: اللون دا هو اللي واكل مع الناس. 
بغاشة: انا عاوزة ارجع اغني شعبي واتمزج باهة الناس.
كماشة: مبقاش ياكل هنشحت كدا..كل وقت وله ادان.
تطرح الشخصيات نشأة القضية أو سبب الأزمة فيؤكدون أن الجمهور هو الذي يطلب المهرجانات ومن ناحية أخرى تعتبر وسيلة لكسب الرزق وبدونها سوف يتسولون، عندئذ تتعاظم فداحة الواقع وارتباكاته فتبحث الشخصيات الرئيسية عن مكان ما في المجتمع الذي هيمنت عليه كلمة ضحلة المعاني، حروفها كونتها فكر جاء من قاع المجتمع وبسط ثقافته على نسيج ممزق لم تف عباراته في رتقه ومنحه روحًا تليق بمواطن بسيط يحتاج لمن يرفع سقف تطلعاته وطموحاته وذائقته.
خرجت المهرجانات من رحم مشوه فولدت الأغنية مشوهة أيضا، وضع نطفتها مؤلف ضحل الثقافة وهو أحد أضلاع الهرم، وبرغم النجاح الذي حققه صانعو المهرجانات إلا أن أحد الأطراف يشعر بالنفور من تلك الكلمات وهي المغنية بغاشة التي كانت في الأساس مغنية شعبية، شعرت بالفرق الكبير بين الأغنية الشعبية التي تستند على موروث شعبي أو تحمل دلالات عميقة تسقط على واقع وبين الأغنية التي لا تحمل في ذاتها دلالة أو معنى، يعتبر نفور بغاشة بمثابة الأرض الخصبة التي تحتاج لنبتة صالحة ومن ثم تكون أول من يستجيب لنقد الواقع الأليم والكلمات منزوعة المعنى والقيمة، وتعلن أن تدني الفن سواء كلمات ركيكة أو لحن بلا لون سبب رئيسي لانعدام الضمير.
بغاشة: انا اتربيت على ع الكلمة الحلوة والمزيكا الحلوة، اللي بنعمله دا سلطة خالص. 
اعتمد البناء الدرامي في مسرحية «يا شيخ سلامة» على خيطين دراميين؛ الخيط الأول الذي تؤديه شخصيات الزمن الحاضر والخيط الدرامي الثاني الذي تؤديه شخصيات الماضي، من خلال حبكة واحدة وزمن ومكان واحد، جاءت وحدتي المكان والزمان لتقوية الحبكة والدفع بالحدث في اتجاه واحد، وجاء التصاعد الدرامي في نسق نقلات أو مشاهد قصيرة. جاء العنوان في شكل نداء وكأن الكاتب ينادي على الشيخ سلامة ليستحضره ليقوم بدور الفاعل في المسرحية ويقدم حلولا لمسألة وجود فن هابط في مصر، أو ليكون المنقذ التاريخي الذي يلجأ إليه في وقت تعذر فيه انهاء المهزلة الغنائية. كما اعتمد البناء على الاستعراض والغناء لتكتمل أركان المسرحية. وجاءت الغة في شكل نسق عامي لكنها تعتمد على حوار يتفرع إلى فرعين؛ لغة صناع المهرجانات وكلمات أغنياتها ولغة عصر سلامة حجازي وكلمات اغنياته.   
يتفرع خيط درامي جديد من الخيط الدرامي الرئيسي حينما تدخل غنوة الباحثة في التراث الموسيقي والتي جاءت إلى منزل خشبة المخرج القديم، وتستنكر اسماء الشخصيات وتصفهم بالعصابة كما تنتقد طريقتهم في الغناء. جاءت غنوة بحثًا عن منزل الشيخ سلامة حجازي الذي كان منشدًا وشيخ طريقة صوفية ومؤذن وملحن ومطرب وممثل مسرحي، جاء الخيط الدرامي الوليد بالخيط الدرامي الثاني فيتقاطع الخيطان، يتعانق الماضي مع الحاضر ليتصاعد الحدث المسرحي. تبدأ غنوة في سرد حكاية الشيخ سلامة الذي بدأ حياته كصبي حلاق وعاش حياة بائسة لكنه حفظ القرآن وانضم لطريقة صوفية وأصبح منشدها، وبنهاية المشهد الأول تتضح معالم الخيطين الدراميين.
تتجلى فكرة الكلمات الهابطة المكونة للأغنية في المشهد الثاني والتي كانت ذائعة الصيت في عصر سلامة حجازي وكيف كان الناس يتجاوبون معها لكنه كان ينتقدها/ :المشكلة في الكلمة اللي بتتقدم. ندرك حينئذ أن الشاعر بيده كتابة كلمات تليق بالمتلقي وبالمجتمع الذي يعيش فيه. يتحول التكنيك في مسرحية «ياشيح سلامة» إلى نقلات سريعة وكأنها مشاهد قصيرة ما بين الحدث القديم والحدث المعاصر وكأنه حدث تغريبي يحتاج لهدم الجدار الرابع، نقلات قصيرة جدا تتحول فيما بعد إلى نسيج واحد، فتعلق شخصيات الخيط الدرامي الأول على النقلات التي تأتي بشخصيات عصر الشيخ سلامة، وكأنها تعرّف المتلقي بها، يبدو الشيخ سلامة وهو ينصت لنصائح الشيخ الياسرجي فيما يخص تطوير الأول لطبقات صوته؛ سواء طبقة صوته العالية التي تسمى الجواب أو أداء طبقة صوتية منخفضة والتي تسمى القرار، وكذلك المقامات التي تميز صوتًا معينًا من خلال الطابع الموسيقي، وتتجلى جمال الكلمات التي يغنيها الشيخ سلامة.
كمال فيك يا عجم وحرف فيك يبتسم
إذ الافراح قد رقصت كأن لرقصها نغم
وان ضاقت بك الدنيا ونار الحزن تحتدم.
يطور الشيخ سلامة من نفسه باللجوء إلى خليل محرم ليعلمه أصول الانشاد كما تعلم العزف على الناي فيعجب به ويؤكد أن كل مجتهد سوف يصل إلى هدفه، ومن ثم قام الشيخ سلامة بتكوين فرقة خاصة به، وفي المشهد الرابع يعلو الوعي عند شخصيات الخيط الدرامي الأول الذي يمثل الحاضر، فيعرفون قيمة الكلمة المكتوبة وأثرها في الناس، وضرورتها لفن راق يتجاوب معه المتلقي ويقدره وساهم في وصوله إلى الطبقة الراقية، وتبدأ شخصيات الخيط الدرامي الأول في نقد توجهها ومظهرها مقارنة بمظهر الشيخ سلامة، وفي إحدى النقلات يستضيف الأخير أحد الشعراء ليطلب من قصيدة ومنحه المقابل قبل أن يكتبها إذ يؤكد أن الكلمة هي أساس الفن الراقي.
سلامة: الفنان يا يوعى ويعلم يا يبقى فتنة ويفسد ويهدم المجتمع.
وفي نقلة جديدة يفجر الشاعر فتلة قضية المقابل إذ لم يأخد مالا إلا بعد أن يكتب كلامًا غير ذي قيمة، وأن في عصر الشيخ سلامة كانوا يختارون الكلمات التي تناسب الأخلاق وتعيش مع كل الأجيال وأن انحراف المجتمع سببه انحراف في الأخلاق، كما يبدو الفرق بين الزمنين وهو أنه لم يكن هناك صراع بين الفنانين، مثل عبده الحامولي ومنيرة المهدية، ولكن كان احترامًا وتقديرًا فانكعس ذلك على اختياراتهم ونجاحهم فلم يسع الكبير إلى عرقلة الصغيرة واستفاد الأخير من نصائح الأول، وبالرغم من ذلك كانت هناك اغنيات ذات كلمات خفيفة تطورت بعد ذلك إلى منولوجات ذائعة الصيت، وكان هناك نقد يوجه لها وخصوصًا إذا كان اللحن جيدا.
تتوالي النقلات التي توضح ملامح من سيرة الشيخ سلامة فيتعاون مع آخرين للتمثيل فينضم إلى فرق ذائعة الصيت بعد أن كان منحصرًا في الغناء وحقق نجاحًا منقطع النظير فقام ببطولة مسرحيات مهمة، وفي خضم النقلات تتضح أزمات شخصيات الخط الدرامي الأول المعيشية وارتباك العلاقات، وفي نفس الوقت يقوم الشيخ بدفع مبلغ كبير لمؤلف حتى يكتب له مسرحية ثم تتوالى مسرحياته «البرج الهائل» و»هاملت» فتزداد شهرته، لكنه اكتشف أن الجمهور يحتاج للغناء في المسرحيات فأضاف إليها كلمات احمد شوقي، لتتعاظم قيمة المسرح الغنائي، وكان له الفضل في اكتشاف ام كلثوم، تناقش كل أطياف المجتمع موهبة الشيخ سلامة من مثقف إلى معلم إلى قهوجي على حد سواء، وبسبب شهرته لجأ إليه جورج أبيض وتعاونا معا لكن الشيخ سلامة أصابه المرض وأصبح قعيدا يغني على كرسي متحرك حتى وافته المنية، فيأتي على لسانه أن الفن رسالة وأن الفنان الموهوب لابد أن يطور من نفسه حتى يقدم فنًا يعيش لسنوات.
يأتي التحول الدرامي في النقلة 22 إذ تفهم شخصيات الخيط الدرامي الأول الخطاب المسرحي وصولا إلى نبذ الفن الهابط وضرورة تقديم فن حقيقي يبقى ما بقيت الأجيال، والتخلي عن فكرة أن الجمهور هو الذي يريد ذلك النوع من الفن، تصل الشخصيات إلى حقيقة احترام الفنان لفنه ولجمهوره ولكلماته وألحانه التي يقدمها له، يبدأ التغيير من خلال البناء على أسس سليمة. وفي النهاية يوجه كماشة كلامه للجمهور الذي بيده الاختيار؛ فإما يساهم في صعودهم إلى سلم المجد بذائقته العالية أو يحط من قدرهم فيسقطون، وصلت الشخصيات إلى قرار لا يمكن الرجوع فيه وهو تقديم فن هادف. 
حقق يسري حسان المعادلة الصعبة التي لم يكن يجدي معها ندوات أو مؤتمرات لمناقشة قضية من المتسبب في تدني الذائقة الفنية؛ فنانو المهرجانات أم الجمهور؟ وصلت الأحداث إلى غايتها من المزج أو تداخل الخيطين الدراميين بشكل سلس ودون خطابية. حققت المسرحية الاستعراضية الغنائية هدفها في وصول الفكرة من خلال حبكة متينة وحدث مسرحي متماسك إلى المتلقي، وجاء الشيخ سلامة في النهاية ليؤكد أن أمام الجميع حربًا أساسها الوعي وجنودها الفنانون الذين يضعون على أعتاقهم وعي وثقافة الأجيال القادمة.    


ترجمة عبد السلام إبراهيم