العدد 743 صدر بتاريخ 22نوفمبر2021
«فى انتظار بابا»، هو عرض مسرحى من إنتاج المسرح القومى، تم عمل إعداد مشترك له بواسطة كل من ايمن إسماعيل ومخرج العرض سمير العصفورى، مأخوذا عن الإلياذة والأوديسا للشاعر اليونانى هوميروس، يقدم فيه شخصيات أسطورية تحمل العديد من الصفات المختلفة عن بعضها البعض وتتفاعل وتتطور من خلال أحداث العرض ويساعدها على هذا التطور حتى تصل إلي الذروة فرويد عالم النفس من خلال تحليله لعقدة الكترا، ولو كنت قارئا جيدا لفن المسرح والمسرح العبثى على وجه التحديد، ستجد نفسك مع أول وهلة تستمع فيها لأسم العرض المسرحى، ستدرك معه على الفور اقتباس العصفورى لأسم النص المسرحى العبثى «فى انتظار جودو» للكاتب صمويل بيكيت، ليجعله عنوانا لمسرحيته « فى انتظار بابا»
وبالرغم من اختلاف كلا النصين عن بعضهما البعض، بل واختلاف مدارس كلا من الكاتبين هوميروس وصمويل بيكيت عن الآخر، فالأول ينتمى إلي المسرح الإغريقي والأخير ينتمى إلي المسرح العبثى، ولكن تعمد العصفورى هنا الجمع بينهما فى عنوان عرضه المسرحى، ليؤكد على فكرة عبثية وفوضوية الواقع، فإذا سألت من هو «بابا» فعليك أن تسأل أيضا من هو «جودو»، فكلاهما لا وجود له فى الواقع، وهذا هو حال مسرح العبث « مسرح اللامعقول» .
والمسرحية تدور حول شخصيات معدمة ومهمشة، منعزلة تنتظر «بابا» ليغير حياتهم من حولهم إلي الأفضل حيث عالم مثالى خالى من الأوجاع والآلام والصراعات، ولكن لم تنصف الكتابة أو لنقل الإعداد هنا عبقرية العصفورى حينما تناول نص إغريقي برؤية عبثية، فجاءت الكتابة مفككة دون المستوى الذى اعتدنا عليه دوما فى كل كتابات العصفورى، ومن وجهة نظرى النقدية ومن خلال خبراتى السابقة مع فن العصفورى المسرحى أرى أن السبب فى ذلك يرجع إلي انه قد اعتمد فى اعداده للنص المسرحى الأصلى على كاتب آخر يعاونه يفتقد للخبرة الكافية فى قواعد وأصول الكتابة بل هناك فرق خبرات كبيرة بينه وبين المخرج العصفورى، كما أن ذاك النص العالمى بكل ما فيه من تعقيدات وفلسفات وتحليلات يفوق خبراته بمراحل كبيرة، واعتقد أن الأمر كان سيكون مختلفا لو اعتمد العصفورى على نفسه فقط فى ذاك الإعداد مستعينا بخبراته العريضة فى ذاك المجال، وعامة فإن اغلب النصوص عندما تأتى معدة بين اكثر من كاتب خاصة لو لم يكن بينهم توافق فكرى أو تساوى فى الخبرات ، فهى تأتى نصوص مفككة ضعيفة البنية والبناء الدرامى .
جاء ديكور إيهاب العوامرى مطابقا لفكر العصفورى الذى يعتمد منهجه على الممثل فى المقام الأول على حساب كل عناصر العرض المسرحى، فجاءت الديكورات رمزية تعتمد على الموتيفات البسيطة لا تعبر عن مكان ولا زمان محدد وتقترب من التجريدية، أما الأزياء لأمانى حسنى فلم يظهر تأثيرها بشكل كبير حيث جاءت ملابس شخصيات المسرحية عصرية تعبر عن الواقع الحالى لا يوجد بها أية جماليات تدعو للفكر أو التأمل أو ما يتناسب مع الحالة العبثية الغالبة على العرض المسرحى باستثناء بعض اللوحات الاستعراضية .
وعندما نتحدث عن الاستعراضات لضياء شفيق، فنحن هنا أمام مصمم رقصات يعتمد عليه اغلب مخرجى المسرح بمصر لما يتمتع به من رؤية دوما تأتى متفقة مع فكر المخرج، لذا جاءت الاستعراضات هنا فى العرض متوافقة تماما مع المشهد العبثى الذى أراد العصفورى أن يصل به إلي المتلقى سواء فى الرموز أو الحركات أو الإيحاءات، كما يظهر جليا فى بعض اللوحات الاستعراضية بصمة العصفورى أيضا فى تعاونه مع المصمم بإضافة رؤيته البصرية لها، كما استطاع مصطفى عز الدين أن يؤكد بالإضاءة أيضا على تلك الحالة العبثية للعرض من خلال اعتماده فى أغلب لوحات العرض على إضاءة الـ full light حيث إنارة المسرح بالكامل ولا مجال للبؤر الضوئية أو الإضاءات الخافتة أو تعدد الألوان إلا نادرا .
المادة الفيلمية لسماح أنور، هى من أكثر العناصر المسرحية التى جاءت غير موفقة تماما بالعرض المسرحى ولا لطبيعته وأحداثه ومنهجه حيث اعتمدت فيها على الصور الكارتونية التى لا علاقة لها بما يدور على خشبة المسرح، وبالتالى أدت إلي حالة من الانفصال والتشتت وعدم الفهم لدى المتلقى، ولو كان منطقها فى ذلك أنها مادة فيلمية تناسب الحالة العبثية للعرض، فهو منطق خاطئ، فليس كل ما هو غير منطقى أو غير مفهوم أو غير معقول نستطيع أن نطلق عليه عبث أو ينتمى إلي مسرح العبث الذى له أصول وقواعد .
منح العصفورى بفكره ومدرسته الإخراجية التى تعتمد فى المقام الأول والأخير على الممثل فقط لا غير على حساب كل عناصر العرض المسرحى قبلة الحياة لبعض من الممثلين بالعرض وأعاد اكتشافهم من جديد تماما كما يفعل يوسف شاهين فى السينما مع ممثليه، فوجدنا سماح أنور فى ثوب جديد عليها تماما لم نعتادها فيه من قبل كممثلة حيث كانت مليئة بالطاقة والحيوية والإحساس العالى تمثيلا ورقصا وغناءا، تماما مثلما فعل أيضا مع مفيد عاشور فرأيناه فى قمة تقمصه للشخصية القيادية التى كان يلعبها، ووجدنا أيضا أحمد سلامه يلعب الشر كما لم يلعبه بحياته من قبل فهو الشر الاستعراضى الغنائى الذى أجاده بحرفية شديدة، مثلما وجدنا أيضا على كمالو الذى كان مبهرا على المسرح يغنى ويرقص اضافة إلي ما يتمتع به من حضور مسرحى لافت للنظر، أما باقى فنانى العرض المسرحى انتصار، خالد عبد الحميد، فتحى سعد، وليد أبو سنيد، أيمن إسماعيل، فجميعهم كانوا متألقين ومتمكنين للغاية فى أدوارهم النمطية التى اعتدنا رؤيتهم فيها دوما، هناك ممثلة تدعى بسمة شوقى يعد دورها صغيرا قياسا بباقى الأدوار بالمسرحية ولكننى أتنبأ لها بمستقبل مبهر فى المستقبل القريب حيث أنها تمتلك حضورا لا مثيل له على خشبة المسرح يبشر بمولد نجمة قريبا إذا تم استغلال موهبتها وحضورها جيدا من قبل المخرجين، وأخيرا ماهر محمود هو فنان شامل تمثيلا وغناء له صوت عذب يسكن القلوب وحضور قوى، جميع الممثلين عند العصفورى يفعلون كل شئ يمثلون، يعزفون، يغنون، يرقصون، فهو مخرج يجيد فن استغلال الممثل وتوظيفه جيدا، الألحان لأحمد الناصر قد جاءت اكثر العناصر تعبيرا دقيقا عن الحالة المسرحية التى أراد العصفورى أن يصل بها إلي المتلقى وتأثيرا عليه، فجاءت الألحان يغلب عليها الطابع الملحمى المتوافق مع وتيرة العرض وتيمته الموسيقية السريعة والحماسية.
العرض المسرحى «فى انتظار بابا « يعد عودة العصفورى للمسرح بعد طول غياب، مما كان له أكبر الأثر فى شعور جمهور المتلقى بعدم التركيز فى بعض اللوحات نتيجة لتنقل العصفورى لأكثر من مدرسة إخراجية فى عرض مسرحى واحد، فوجدناه يستخدم أسلوب بريخت الإخراجي فى لوحات معينة، واخرى استخدم فيها أسلوب الرمزية وأخرى الموسيقية الاستعراضية، وأخرى الملحمية إلا أن الطابع العام للعرض قد اتسم بالعبثية، وهذا التداخل بين مجموعة المدارس يرجع من وجهة نظرى إلي حنين العصفورى الكبير للمسرح عشقه الأول والأخير مما جعله يسعى لإخراج كل طاقاته وخبراته وأساليبه الإخراجية فى ذاك العرض مرة واحدة بدلا من أن يعتمد على أسلوب إخراجي واحد من بداية العرض لنهايته .
صراحة يحسب لإيهاب فهمى مدير المسرح القومى نجاحه فى استقطاب كبار رموز الإخراج المسرحى فى مصر والعالم العربى منذ توليه إدارة المسرح، وعودة القومى على يديه لهويته الطبيعية فى تقديمه لعروض مسرحية عالمية من إخراج كبار رموز المسرح فى مصر والعالم العربي .
وفى النهاية اتفقنا أم اختلفنا سيظل سمير العصفورى اسما وظاهرة اخراجية كبيرة لم ولن تتكرر فى عالم المسرح، لا نملك إلا الانحناء له تقديرا وعرفانا أمام مسيرته المسرحية التاريخية الناجحة والمتفردة التى لا يشبهه فيها مخرج آخر على مستوى الوطن العربي بأكمله والمفعمة بالسخرية اللامتناهية، التى تتمثل باستخدام التلاعب بالألفاظ أو بإحداث التوتر الذى يقدم السخرية بدوره، «فى انتظار بابا» هو فى حد ذاته عبث حقيقى لا تشوبه شائبة، خاصة عندما يكون الشئ المشترك ما بين العصفورى وبيكيت هو (الانتظار) لا وجود له اصلا أو لا معنى له .