العدد 526 صدر بتاريخ 25سبتمبر2017
إنه الحياتي واليومي والمعاش، العلم والفلسفة والمنطق القادرين على التنظير والمرتطمين بحائط الواقع الصلب الذي لا يمكن تغييره، إنها قضايا العصر: فقر، فساد، إرهاب، سُلم الهيمنة التدريجي: هيمنة القوي على الضعيف الذي يبدأ بالمواطن البسيط وينتهي بالهيمنة الأمريكية على العالم كله، الإنسان الذي يتمسك بقيمه ومبادئه فيجد نفسه محلك سر، بينما الترقي والعلو للمنافق والحرامي والآفاق، المتعلم الذي قضى عمره يبحث في علمه ثم يكتشف بعد عمر طويل أن علمه مجرد نظريات ومسلمات حبيسة للكتب ولا يمكنها الخروج إلى الحياة المعاشة...........إلخ
عندما يتحول هذا العادي إلى عمل فني نراه حيًا يتحرك أمام أعيننا فقد يحتاج إلى كاتب واعٍ بإمكانه الإمساك بهذه القضايا وصياغتها، فكان الكاتب والشاعر “سعيد حجاج” من خلال العرض المسرحي “حلم وكداب”، فكل الأحلام مباحة حتى المستحيل منها إلا أن تحلم بتغيير وجه العالم، وسحب السلطة من أمريكا التي تسيطر على العالم وجميع مخلوقاته من الإنس وحتى الجن.
“حلم وكداب” عرض مسرحي يُقدم حاليًا على مسرح الغد، ويقوم ببطولته الفنان القدير أشرف فاروق الذي استطاع ببساطته وتلقائيته المعهودة أن يجسد شخصية الإنسان الفقير “سعد العريان” الحاصل على ليسانس آداب قسم فلسفة، لكنه لم يعمل بمؤهله فقد عمل في مصنع للنسيج ثم أُجبر على تسوية معاشة بعد الخصخصة، وقد قرر فجأة أن يتنازل عن كل قيمه وأخلاقه لتحقيق كل أحلامه التي فشل في تحقيقها، فقط لكونه إنسان متعلم ومثقف وشريف، فتخلى عن كل ذلك وآمن بالخرافات وراح يحقق أحلامه من خلال إخضاع وإذلال جني له، ومن هنا كانت بداية السقوط، نقله هذا الجني من غرفة معدمة فوق سطح عمارة إلى قصر فاخر مصنوع من الذهب والماس ومملوء بالجواري والخدم وشعر أنه يمتلك العالم، ليفاجأ بقيمه ومبادئه تطارده في شخصية الخادم سعد خريج الفلسفة أيضًا، الذي يقرر طرده مستمرًا في سقوطه وانهياره الأخلاقي فهو انعكاس لأفكاره وقيمه التي أمن بها ولم تحقق له ما تمناه، ويطلب من الجني أن يحضر له الفتاة التي صرخت في وجهه منذ عشرين عاما في قطار كان يستقله ولا يعلم من أين أتى ولا إلى أين ذاهب، فقد استقله مصادفة وبلا هدف، لإذلالها وإخضاعها له لتعتذر عما فعلته، فيأتي بها الجني لكنه لا تتذكره -رغم أنها حبيسة ذاكرته وتطارده من حين لآخر- وتتهمه بالجنون فيضطر لتركها.
ثم يطلب منه المستحيل وهو الطلب الأخير الذي سيعتقه بعد تنفيذه مباشرة، وهو اعتلاء عرش العالم حيث يعتقد أنه أن بإمكانه إصلاحه، ويتعارض ذلك مع مصالح القوى العظمى المستفيدة من القتل والدمار والإرهاب والفساد........إلخ، فيُتهم بالجنون ثم الكفر ويعاقب الجني الذي حقق له ذلك بتحويله إلى إنسان.
يشارك في العرض الفنان فتحي الجارحي الذي يجسد شخصية والد سعد الذي يأتيه من العالم الآخر بعد وفاته لينصحه باصطياد عفريت من الجن ليحقق له كل أحلامه، ومحمود الزيات الذي استطاع بخفة ظله وقوة أداءه تجسيد شخصية الجني، أيمن حمودة الذي جسد شخصية الخادم المثقف صاحب المبادئ، ريهام حسن فتاة الأحلام، وكل فريق العمل أحمد سعيد، بسمة أحمد، نجلاء يونس، سمر أبو زيد، مصطفى توفيق كلهم تميزوا بأدائهم التمثيلي المتميز خاصة أن كل واحد منهم يجسد عدة شخصيات: العفاريت، الإعلاميون، السلطة العليا للعالم...........
من المؤكد أن هذا العمل يقف وراءه مخرج كبير هو محمد دياب الذي استطاع بحرفيته التعامل مع نص فلسفي سياسي يطرح عدد كبير من القضايا في زمن قياسي، واختار الشخصيات وقام بتوزيع الأدوار عليها، وأضاف برؤيته العميقة ملامح وأبعاد جديدة للنص والشخصيات، ظهرت بوضوح من خلال الديكور الذي صممه الفنان محمد واكد وقام بتنفيذه الفناة منى زهدي، وهو مقسم إلى قسمين: الغرفة الفقيرة والقصر الفخم يفصلهما رأس كبيرة يخرج منها الأب والحبيبة والتي عبرت بوضوح عن خلجاته وأفكاره السجينة داخلها.
إضاءة الفنانون طارق عليان، محمد عشري، أحمد فرج ملائمة ومعبرة جدًا عن كل المواقف حيث الهدوء والانسيابية مع حديثه الداخلي مع نفسه ومع والده وحبيبته، صاخبة متلونة مع ظهور العفريت والقوة العظمى التي تحكم العالم، كذلك الموسيقى التي أعدها الفنان أحمد الناصر لم تخرج عن السياق العام للأحداث في نقلاتها من حالة إلى أخرى. وتميزت الأزياء التي صممتها سالي كامل ونفذتها سمر عزازي بأنها تستطيع وحدها ان تحكي قصة العرض من دون كلام فهي تعبر عن النفاق الاجتماعي والعنكبوتية في اقتناص الفرص، وكذلك ملابس العفاريت والأزياء العادية الإعلاميين، إلا أن العبقرية الحقيقية تكمن في عدم تغيير ملابس سعد الذي ظل عريانًا حتى وهو يملك العالم.
تخلل العرض بعض الاستعراضات والأغاني تأليف الشاعر سعيد حجاج أيضًا، في النهاية “حلم وكداب” عمل فني مكتمل العناصر يحمل رؤية فلسفية وفنية تقدم في قالب كوميدي بسيط وبعبقرية أداء كل الفنانين على رأسهم النجم أشرف فاروق. وهو عمل يستحق عليه الشكر كل من ساعد في تقديمه بداية من منتجه الفنان سامح مجاهد مدير عام مسرح الغد، ومرورًا بكل الفنانين القائمين عليه والفيين وانتهاءً بالعاملين بالمسرح.