العدد 786 صدر بتاريخ 19سبتمبر2022
حكت لي صديقة تقيم مع زوجها في دولة بينما تقيم والدتها في دولة أخرى وترعاها شقيقتها أنها كلما سافرت لزيارة أمها في الإجازات تظل تشكي لها من شقيقتها، وأنها في كل مرة تحاول إقناعها بكل الطرق أن شقيقتها أفضل منها وتتحمل عبء كبير لو كانت مكانها ما قدرت عليه، كما أنها ستشكو منها لأن المقيمين مع بعضهم يقعون في أخطاء من دون قصد منهم وأن الاحتكاك الدائم يولد الخلافات، لكن الأم لم تقتنع وترى أن ابنتها البعيدة عنها أفضل ممن تعيش معها وتتحمل مسئوليتها.
هذه هي القصة المتكررة دائمًا لكن معظمنا لم يكن موضوعيًا ومنصفًا كصديقتي، وقد تتفاوت الآراء في الحكم على الشقيقتين، فقد يرى البعض البنت التي ترعى أمها مضحية وتتحمل مسئولية كبيرة بينما يراها البعض الآخر لا تفعل سوى الطبيعي والعادي فهل تترك أمها بلا رعاية فهذا هو واجبها ويجب أن تقوم به على أكمل وجه، وربما يراها أخرون مقصرة وكان يجب أن تفعل هذا ولا تفعل ذاك، أما البنت البعيدة فقد يحكم عليها البعض بأنها أنانية وفضلت مصلحتها على مصلحة الأم، ويلتمس لها البعض الأعذار فهي زوجة وأم، كيف تترك بيتها ومسئوليتها وتذهب لترعى أمها.............وهكذا، ولكل رأي مبرراته التي قد تبدو منطقية، لكن من منا دخل إلى أعماق هذه الشخصيات وشعر بمعاناتها والدوافع الحقيقية وراء تصرفاتها، هل البنت التي تحقن أمها بالمصل الذي يخفف آلامها أكثر حبًا لها أم الأخرى التي لا تتحمل أن ترى وخز الإبرة في جسد أمها النحيل، التي تستمع إلى آهات أمها وأنينها بينما تباشر أعمال المنزل، أم التي لا تسمع سوى شقاوة أبنائها وطلبات زوجها.
في عرض «مشاحنات» المأخوذ عن نص «المتنازعات» للكاتبة الإنجليزية كاترين هايس، وترجمة د. هناء عبد الفتاح، إنتاج مركز الإبداع، نجح مخرج العرض الفنان هاني عفيفي في إعداد النص بما يتلائم مع مجتمعنا من قصص وتفاصيل والغوص في أعماق كل الشخصيات: الأم والشقيقتان، فلم يكتف بالسرد أو بالصراع الخارجي للشخصيات، بل نقل صراع كل شخصية مع نفسها ومع الأخرين وشعور كل منهن، فجعل المتلقي يتعاطف مع الشخصية التي تبدو حادة وعنيفة إلى حد البكاء، فمكوث ابنة وحدها مع أمها المريضة ورعايتها لها، تجربة لا يستوعبها جيدًا إلا من عاشها، فهي تراقب أنفاسها من وقت لآخر لتتأكد أنها ما زالت على قيد الحياة، وطوال الوقت تنتظر في خوف اللحظة التي ستفارقها فيها أمها، واعتيادها على سماع أنينها يفتت مشاعرها ولا يجمدها كما يعتقد من يرى ردود أفعالها، ولأنها دائمة التفكير في لحظة معينة هي اللحظة التي ستتوقف أنفاسها تفكر في كيفية التصرف في هذه اللحظة، فنراها تفكر في تفاصيل الغُسل والدفن والعزاء وشكل الحياة بعد كل هذه التفاصيل لأنها تعلم أنه لا يوجد من تعتمد عليه أو يقف بجوارها في هذا الموقف الصعب، بينما الابنة الأخرى التي حضرت لزيارة الأم زيارة سريعة لا تتحمل مجرد التفكير في ذلك ولا تتحمل رؤية الأم على هذه الحالة وتفضل الهرب تاركةً المسئولية لشقيقتها عن مساعدتها، بل أنها تتعجب من قدرتها على تناول الطعام وأمها مريضة وتتألم، على الرغم من كونها تحيا حياة سعيدة مع زوجها وأولادها لا ينقصها شئ.
كل ذلك وأكثر نراه في زمن أقل من الساعة، فنرى عنف الشقيقة التي تتحمل مسئولية الأم وبرود مشاعرها والتي سرعان ما يتحول عنفها إلى توسل لإقناع شقيقتها بألا تتركها وحدها وتمشي، كل منهما ترى الأخرى أقل حبًا للأم وربما ينتقل هذا الرأي للمتلقي، إلى أن تتوحد صرختيهما ورد فعلهما لحظة وفاة الأم ليتأكد لنا أن درجة الحب واحدة لكن الاختلاف في طبيعة كل شخصية، وهو ما تبين من خلال الصراع بينهما طوال الوقت، فالأولى هي الشخصية الأصعب وتجسدها ريم حجاب بحرفية عالية جدًا فنجدها تتنقل من العنف إلى الهدوء مستعينة بالسخرية التي تجسد مقولة: «شر البلية ما يضحك»، الشخصية التي تبدو قوية وعنيفة لكنها دائمًا ما تستسلم لرغبة الآخر فحققت لأمها في بقائها معها بعد زواجها حتى لا تعيش بمفردها، كما قبلت الحياة مع زوج غائب دائمًا وتوجد له المبررات لغيابه عنها، والشخصية الثانية التي تجسدها هند حسام هي الشخصية الأقوى التي اختارت حياتها بمحض إرادتها فتزوجت بمن أحبته على الرغم من اعتراض الأم، لكنها تبدو رقيقة وضعيفة، كما أن آداء سهام عبد السلام لشخصية الأم لم يكن سهلاً على الإطلاق على الرغم من كونها لم تنطق سوى بكلمات بسيطة في نهاية العرض، في اللحظة التي اعتدنا على تسميتها «صحوة الموت» فنظراتها وتعبيراتها وتشنجاتها آراها من الأدوار التي تصعب على كثير من الممثلات، الأم التي عاشت حياتها قوية تفعل ما تريد والتي على الرغم من آلامها ومعاناتها يصعب عليها أن تترك الحياة من دون أن تقرر مصير ابنتيها بعد رحيلها، فتقول لابنتها لا تتركي حقك فكل شئ هنا لك، وهذه الجملة القصيرة جدًا توضح شخصية الأم التي تميل لابنتها صاحبة الشخصية الأقوى والتي لم تقدم لها أي شئ سوى البكاء للحظات، فهي لم تقل لها تقاسما في كل شئ، بل تصر على ظلم من اعتادت على الاستسلام، فربما هو اعتذار عن رفضها زواج ابنتها ممن أحبته، أو تعويض لها عن سنوات الحرمان منها، أيا كان الدافع لذلك فهو يبرز شخصية الأم التي تصر على تسيير الحياة وفق رغبتها حتى وهي راحلة.
من أهم الملاحظات التي لفتت نظري في العرض هو اختيار اسم «مشاحنات» بديلا عن الاسم الأصلي «المتنازعات»، فالمشاحنة هي التعبير الأدق للحظات المكاشفة وخروج شُحنات الغضب والحب والمعاناة بداخل كل شخصية، كذلك اختيار الشخصيات وتوزيع الأدوار مناسبًا تمامًا، فالأكثر معاناة هي التي تبدو نحيفة شاحبة لامبالية بما يحدث حولها، والأخرى أنيقة وتبدو على ملامحها أنها راضية عن حياتها التي اختارتها على الرغم من كونها تعاني من بعض المنغصات، ويظهر ذلك أيضًا من اختيار الملابس وألوانها للفنانة مروة عودة، التي اختارت ديكورًا بسيطًا في تفاصيله عميقًا في مدلوله، فغرفة الأم التي يدور بها الصراع واسعة جدًا، لا يوجد بها سوى سرير يتوسط كومودين، وعلى بعد مسافة يوضع الشيزلونج الذي تجلس عليه الابنة المقيمة مع الأم فتظهر الفجوة التي بينهما وجفاء العلاقة، الإضاءة الضعيفة تبرز وحشة المكان وخلوه من البهجة.
«مشاحنات» عرض مسرحي ثري جدًا بما يحويه من قضايا إنسانية تمس مجتمعاتنا العربية بل وبيوتنا، غني بعناصره المسرحية من تمثيل، ديكور، إضاءة .......إلخ والموظفة بإتقان.